تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إسرائيل" والخيار التاريخي (2/3) الدولة الواحدة الديمقراطية..

2008-03-15

عزمي بشارة

 

لقد تم تقزيم التفاوض على “حل الدولتين” وتفريغه من أي مضمون. إذ فقدت حركة التحرر الوطني الفلسطيني مصادر قوة حركة التحرر، بما فيها التعويل على المجتمع العربي بدل “المجتمع الدولي”. فقدتها، وتخلت عنها من دون أن تصبح دولة، وقبل أن تضمن السيادة. وأصبح كيان السلطة الذي أقامته مرتبطاً كلياً بالتفاوض وبحسن النية الأمريكي “الإسرائيلي”، وبمواقف الرأي العام “الإسرائيلي” وغير ذلك. وتحوَّل التفاوض على الدولة الفلسطينية إلى عملية ابتزاز، يتم فيها تقديم تنازلات ومقايضتها بقضايا متعلقة بالحقوق الثابتة.
 

ومن خيار اعتبار التفاوض بديلاً عن المقاومة، وليس نتيجة لها، تنشأ قيادة فلسطينية جديدة. وهي قيادة محتواة في العملية السياسية التفاوضية إلى درجة ارتباطها وجودياً بهذه العملية. و”إسرائيل” تعرف ذلك، كما نعرفه. وهي تستبدل التفاوض السياسي الجوهري بمكرمات ومبادرات حسن نية “إسرائيلية” تحتاجها هذه القيادة في مقابل محاصرة ومحاربة واغتيال القوى الفلسطينية التي تتبنى خيار المقاومة وترفض التخلي عنه.

 

هكذا يصبح ما كان مفروغاً منه تحت الاحتلال ذاته مثل الكهرباء والماء وحرية التنقل والعمل والغذاء والدواء موضوعاً للتفاوض والمساومة... ويغدو إنجازاً في وجه القوى التي “تستفز” أو “تغضب “إسرائيل”” بنهجها و”تعرض نفسها ومجتمعها لحصار” بعدم تخليها عن خيار المقاومة، فهذا الخيار يمنع عنها هذه “الإنجازات” العظيمة (التي كانت قائمة في ظل الاحتلال).
 

في مرحلة التحرر الوطني، كان الطرف الفلسطيني الذي يطرح نفسه كوسيط مع الاحتلال، لأن الاحتلال يوفر بواسطته تصاريح السفر والعمل والكهرباء والوقود وغيرها، (كان) يُعتبَرُ عميلاً، وكانت هذه الاستراتجية تعتبر محاولة لخلق قيادة بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرت قيادة وطنية لأنها لا تقبل بالخدمات في ظل الاحتلال حلاً، وتصر على التخلص من الاحتلال ذاته.
 

في مرحلة التفاوض على الدولة أصبحت هذه أدوات “إسرائيلية” فلسطينية للتمييز بين قيادة معتدلة تستحق أن تدعم بواسطة هذه الخدمات، وقيادات أخرى متطرفة يجب أن تدفع الثمن شعبياً بالضغط على المجتمع الفلسطيني ليتخلى عنها لأنها تتمسك بخيار المقاومة.
 

ولكن، في الوقت الذي يجري فيه تفريغ برنامج الدولة الفلسطينية كجزء من “حل الدولتين” من أي مضمون، يبدو أن التيار الفلسطيني المقاوم، الذي يتشكل بغالبيته حالياً من قوى تتبنى أيديولوجية دينية، متمثلة بحركتي حماس والجهاد، لا يميل إلى طرح ديمقراطي بديل يتضمن خياراً لـ“الإسرائيليين” مثل “حل الدولة الواحدة”. لم يطرح خيار الدولة الواحدة لكافة المواطنين العرب واليهود بشكل فعلي وحقيقي في تاريخ الصراع. فقد نظر العرب بحق إلى الصهيونية كحركة استعمارية وإلى الصهاينة من غير المقيمين أصلاً في فلسطين كمستعمِرين يحركهم هدفُ إقامةِ دولةٍ في بلد يقيم فيه شعب آخر. لم يكن وعد بلفور سراً، وقد كانت مشاريع الصهيونية بإقامة دولة يهودية في فلسطين معروفة معلنة تخفى على الجهلة فقط.
 

ولأن الصهيونية كانت، ولاتزال، تعني في الممارسة العمل على جلب عدد غير محدود من “القادمين” المستوطنين إلى فلسطين، فلم تكن حدود المواطنة واضحة المعالم. والمواطنة المتساوية هي أساس وجوهر فكرة العيش في دولة واحدة من دون هيمنة صهيونية. وهي أيضاً الرسالة العربية المطلوب أن تقدم شيئاً للمجتمع اليهودي لإبعاده عن فكرة الدولة اليهودية، وأقصد شرعنة الوجود في فلسطين بواسطة المواطنة. هذه رسالة عيش مشترك، وهي نقيضة للإبادة أو الطرد أو “رمي اليهود في البحر” (التي تتغنى بها وتخترعها إلى حد بعيد الدعاية الصهيونية في حين رمت “إسرائيل” الفلسطينيين في البحر والصحراء). ولكن بدا أن كل تحديد يقوم به العرب لتاريخ لا يعتبر بعده المهاجرون مقيمين شرعيين من أجل توضيح حدود المواطنة هو تحديد غير واقعي ومثير للسخرية والتسخيف.
 

ومن الناحية الأخرى، وهي الأهم، أصرت الحركة الصهيونية على إطار الدولة اليهودية في فلسطين كحل للمسألة اليهودية. هذا هو مبرر وجود الصهيونية التاريخي بنظر ذاتها. وقد كانت الدولة اليهودية موضوع وعنوان الصراع الذي خاضته حتى داخل المجتمعات اليهودية في الشتات، ناهيك عن الدول العظمى، وتحصيل وعد بلفور، وناهيك عن مشروع الاستيطان نفسه. وهو مشروع قام على أنقاض عرب فلسطين، ولم يهدف إلى الحياة مع العرب في كيان سياسي واحد.
 

هذا صحيح من الناحية التاريخية، ما عدا في استثناء قصير واحد هو طرح “هشومير هتسعير” فكرة الدولة الثنائية القومية في الثلاثينات، ولكن هذا الطرح جاء في خضم نشاطها الاستيطاني في تناقض مع السكان الأصليين.

 

من السخف الاعتقاد أن الصهيونية، وأي تيار من تياراتها، و”إسرائيل” أو أي مركب من مركباتها الحزبية السياسية، أو حتى الاجتماعية الرئيسية، يمكن أن تقبل الآن بـ“الدولة الواحدة” الديمقراطية كإطار لحل.
 

ليس هذا النموذج حلاً تفاوضياً في إطار موازين القوى الحالية بالمعنى الذي يفهم في أيامنا هذه من كلمة “حل”. وعندما طرح لفترة قصيرة من قبل حركة فتح مثلاً في السبعينات اعتبر “إسرائيلياً” على أنه رديف لعبارة “إزالة “إسرائيل””. كما طرحت فكرة الدولة الواحدة من قبل “م ت ف” كبرنامج “الدولة الديمقراطية العلمانية” بحيث تضمن المساواة الكاملة بالحقوق بين سكان البلاد: مسلمين ومسيحيين ويهود. أي أنها تعاملت مع الديانات تحييداً، وذلك من دون أن تعيِّن طابعاً قومياً للدولة. ولكن لم تطرح أدوات تحول الفكرة إلى برنامج سياسي بعمل يهودي عربي مشترك مثلاً، بل من خلال تحرير فلسطين كبلد عربي. وعلى كل حال لم تدم الفكرة طويلاً في التداول.
 

وقد اختلف هذه البرنامج الديمقراطي عن فكرة الدولة الثنائية القومية. وهي فكرة تطرح حالياً من قبل مثقفين عرب ويهود. وقد طرحت بداية من قبل يسار الحركة الصهيونية “هشومير هتسعير” في ثلاثينات القرن الماضي ولفترة قصيرة فقط. وتتضمن الفكرة الثنائية القومية اعترافاً بوجود جماعتين قوميتين في فلسطين، تشكل كل منهما كياناً داخل دولة واحدة. وتلبي بالتالي فكرة الوطن القومي، أو الوطن لكل قومية من القوميتين في نفس الدولة، في إطار دولة واحدة تعترف بقوميتين. طبعاً اسقطت “هشومير هتسعير” هذا الطرح سريعاً ولم تتابعه. فقد رُفِض فلسطينياً وصهيونياً... وبقيت شذرات منه تطرح قبل النكبة من قبل أساتذة في الجامعة العبرية ومثقفين يهود بارزين ولكن معدودين في إطار حركة “بريت شالوم”.
 

يسلم نموذج “الثنائية القومية” بوجود قوميتين، واحدة أصيلة وأخرى متشكلة، ولكنها في الحالتين أقرب إلى واقع فلسطين من جنوب إفريقيا. ففي جنوب إفريقيا الجديدة التي يعاد بناؤها بعد انهيار النظام العنصري، جرى تجاهل فكرة القوميات (التي اعتبرت غير متشكلة كفكرة سياسية) لمصلحة فكرة تعدد الثقافات واللغات والديانات والإثنيات في إطار أمة المواطنة الواحدة. أي أن عملية بناء الأمة الجنوب-إفريقية الواحدة (خلافاً للأمة الفرنسية مثلاً) لا تتجاهل الإثنيات والقبائل واللغات والجماعات والثقافات. في جنوب إفريقيا، إذاً ليس المطروح نموذجاً متعدد القوميات، بل متعدد اللغات والثقافات والإثنيات.
 

ومع أن “الحل الثنائي القومية” أقرب إلى واقع فلسطين لأنه يتعامل مع قوميات متشكلة فعلاً، خلافاً لنماذج أخرى مهاجرة (الولايات المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا) تبنى فيها الأمة على أساس المواطنة وحدها من دون ذكر القومية، فإنه ليس أكثر واقعية من الناحية السياسية في موازين القوى الحالية في فلسطين.
 

إضافة إلى ذلك ففي جنوب إفريقيا تبنت حركة التحرر الوطني متمثلة بالمؤتمر الوطني الإفريقي هذا الخيار، خيار التحرر عبر المواطنة المتساوية في إطار الدولة متعددة الثقافات. ولكن حركة التحرر الوطني الفلسطيني تاريخياً اتجهت نحو فكرة الدولة الوطنية منذ منتصف السبعينات.
 

وهكذا وُجِّهَت الانتفاضة الأولى والثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة باتجاه انفصالي وليس توحيدياً مع بقية فلسطين. ولا توجد قوى فلسطينية سياسية حزبية جدية تتبناه، أو تطرح استراتيجية نضاليه سعياً إليه، ناهيك عن أنه ليس خياراً تفاوضياً مع “إسرائيل”، في حين تتبنى النخبة السياسية الفلسطينية طريق التفاوض حصرياً.

وقد انقسمت الخارطة السياسة الفلسطينية والقوى المنظمة الفاعلة فلسطينيا بين قوى تدفع جميعاً باتجاه الدولة، الدولة الوطنية فلسطينية، وتختلف على أمور أخرى. وحقيقة تبني هذا الخيار مؤخراً من قبل مثقفين فلسطينيين ديمقراطيين لا يغير من جديته وجدية مناقشته، بل يؤكد ضرورة ذلك.
 

ونحن نعتقد أنه لا توجد عوائق كبرى أيديولوجية أو بنيوية فلسطينية ضد مثل هذا الحل، كما أن مصلحة الشعب الفلسطيني بطرح برنامج ديمقراطي يضمن حق العودة ولا يفرط بالحقوق ويعطي إجابة للمواطن اليهودي تجد لها إجابة معقولة في تبني مثل هذا الحل. وإذا تم تبنيه فلسطينياً فلن يكون هنالك عائق عربي جدي.
 

المشكلة أن “إسرائيل” لم تقبل بهذا الموقف أبداً. ولم تنشأ قوى “إسرائيلية” تطرحه أو تتحزب له. وهذا هو العائق الرئيسي أمام تبنيه من قبل نخب سياسية فلسطينية ترى بالتفاوض خيارها الوحيد. أما القوى الفلسطينية المقاومة فتبدو شعاراتها واستراتيجيتها النضالية مخالفة تماماً لمفهوم وروح الدولة الواحدة وفكرة المواطنة الديمقراطية في دولة علمانية.
 

ومن الواضح أنه ليس ثمة جدوى في انتظار فئات اجتماعية “إسرائيلية” كبرى لتنضم لمثل هذا الطرح. لأن الفئات الاجتماعية الكبرى لا تتنازل عن امتيازات عن طيب خاطر. إن “حل الدولة الواحدة” هو تنازل عن امتيازات اليهود، وذلك بدرجة أكبر في حالة الدولة الديمقراطية العلمانية القائمة على المواطنة، وبدرجة أقل في حالة الدولة الديمقراطية العلمانية القائمة على الاعتراف بقوميتين على شكل اتحاد فيدرالي.
 

لا يبدو في الأفق القريب وجود تيار سياسي اجتماعي “إسرائيلي” يدفع بهذا الاتجاه في تناقض مع فكرة الدولة اليهودية. وأقصى ما نسمعه من اليسار الصهيوني هو فصل الضفة والقطاع عن “إسرائيل” في دولة، ورفض حق العودة في كافة الحالات.
 

المشكلة أن من تبنى خيار “حل الدولة الواحدة” مؤخراً تبناه نتيجة لقناعة بفشل “حل الدولتين” على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران، وليس نتيجة لتبين فرص نجاح “حل الدولة الواحدة”، وأيضا لأنه بات واضحاً أن حل الدولتين لا يستوعب تطبيق حق العودة... لا يفرز فشلُ “حلِّ الدولتين” بحد بذاته مقومات نجاح حل “الدولة الواحدة”.

لا يمكن استنتاج “حل الدولة الواحدة” فورياً من فشل “حل الدولتين”. وإذا قبلنا الحديث بلغة الحلول فإن “حل الدولة الواحدة” برأينا أيضاً هو الحل الأفضل والأكثر استيعاباً لمركبات الحقوق الفلسطينية ويتضمن رسالة ديمقراطية للمجتمع “الإسرائيلي”.
 

على كل حال، أهم أسباب عدم نجاح هذا النموذج المطروح حالياً هو رفض “إسرائيل” مجرد التفكير بالفكرة، وغياب أية قوة “إسرائيلية” جدية قادرة على طرح الموضوع على جدول أعمال الرأي العام، اللهم إلا بهدف تخويف الرأي العام “الإسرائيلي” من الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على الفلسطينيين. تطرح فكرة الدولة الواحدة في “إسرائيل” حتى الآن سلبياً، أي للتخويف بها، ولإقناع المجتمع بضرورة التخلي عن مساحات مكتظة بالسكان الفلسطينيين مثل قطاع غزة.
 

والمشكلة أن “إسرائيل” باتت تلجأ إلى خيار “حل الدولتين” خشية من تطور واقع كهذا يدفع باتجاه “الدولة الواحدة”.
 

وما تقدمه “إسرائيل” حالياً كـ“رؤيا بوش” أو كـ“رؤيا شارون” هو ليس خيار “حل الدولتين” فعلاً، بل هو إثبات لفشل هذا الحل. ومع ذلك فإن النخبة السياسية الفلسطينية المتولدة عن “عملية السلام”، ومعها أنظمة عربية تريد أن “تتخلص” من هذا “الهم” تساعد “إسرائيل” على تخريجات وصناعة خطاب سياسي، بحيث يبدو ما يطرح وكأنه دولة فلسطينية في إطار “حل الدولتين”... وذلك بآليات مثل “تبادل أراضٍ”، من دون القدس، “الاعتراف بحق العودة من دون ممارسته”، وبكيان من دون سيادة كاملة يسمى دولة، وغيرها من التخريجات والتسميات التي لا ينضب لها معين.
 

ولكن أليست هذه التسوية سلاماً حتى لو لم يكن عادلاً؟ حول هذا الموضوع في الحلقة القادمة.