أجرى التلفزيون العربي مساء الأربعاء حديثا خاصا مع المفكر العربي عزمي بشارة تناول في جزئه الأول أبعاد وتداعيات الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي الذي أفضى إلى إعلان تطبيع العلاقات بين البلدين، ومدى إمكانية أن تلتحق دول عربية أخرى بهذا التوجه، في حين تطرّق اللقاء في جزئه الأخير إلى تداعيات انفجار مرفأ بيروت على النظام الطائفي في لبنان ومدى إمكانية تغيير هذا النظام مستقبلا.
التحالف الذي تحول إلى تطبيع
اعتبر الدكتور عزمي بشارة أن الإمارات انخرطت منذ فترة، تمتد حسب بعض المصادر الإسرائيلية إلى عقدين من الزمن، في مسارٍ من الاتصالات والعلاقات مع إسرائيل شملت التنسيق الأمني والتدريبات العسكرية المشتركة وزيارات المسؤولين الإسرائيليين لأبوظبي وتبادل الخبرات المتمثل في شراء الإمارات برامج وأجهزة التجسس الإسرائيلية التي استخدمها النظام الإماراتي في متابعة واختراق حسابات وأجهزة المعارضين وتتبع المثقفين وحتى غير المعارضين، وبالتالي فإعلان الاتفاق بين البلدين لا يمكن اختصاره في مجرد إعلان التطبيع لأنه يرقى إلى مستوى تحالف استراتيجي، فنحن لسنا أمام دولتين كانتا في حرب، بحسب تعبير بشارة، إلا أن ذلك لا يستنقص من أهمية الإعلان خاصة بالنسبة لإسرائيل.
عن خلفيات هذا التحالف وإعلانه في قرار التطبيع اعتبر بشارة أن هذه التحولات مرتبطة بتصورات مشتركة بين الإمارات وإسرائيل في موقفهما من التحول الديمقراطي في المنطقة، فكلا البلدين يقفان موقفا معاديا من الديمقراطية في البلدان العربية، فإسرائيل منذ 2011 وهي في حالة من عدم اليقين، وغير مستعدة لانتظار نتائج انتخابات قد تسفر كل فترة عن حكومة ونظام جديد، وبالتالي فإنها تفضل بقاء الاستبداد والتعامل مع أنظمة غير ديمقراطية. أما الإمارات فإنها اختارت معاداة الديمقراطية والعمل على إعاقة أي انتقال ديمقراطي في أي بلد عربي. وفضلا عن هذا التصور المشترك بين إسرائيل والإمارات في مسألة الموقف من الديمقراطية في البلدان العربية، فإن الإمارات حسب بشارة تعتبر إيران عدوها الرئيسي، بالإضافة إلى عدائها مع تركيا وتيارات الإسلام السياسي وهو ما يتقاطع مع الموقف الإسرائيلي.
على صعيد آخر اعتبر بشارة أن الاعتبارات الإقليمية كانت عاملا أساسيا في التحالف الإسرائيلي الإماراتي وإعلان التطبيع، فالإمارات تحاول منذ فترة أن تجعل من نفسها الفاعل الإقليمي البديل لإيران والسعودية معا، لأنها تعتبر نفسها الدولة الأكثر رسوخا لدى الغرب والأكثر قدرة على أداء هذا الدور، ولذلك نشطت في السيطرة على طرق الملاحة وفي إيجاد موطئ قدم في البحر الأحمر من خلال الاستحواذ على موانئ في عدن والقرن الإفريقي، كما شرعت في تأسيس وجود عسكري هنالك من خلال إنشاء قواعد عسكرية. ويتطلب هذا الطموح الإقليمي حليفا إقليميا قويا، ويبدو أن حكّام الإمارات وجدوا ضالتهم في إسرائيل التي أصبحوا مقتنعين بها، إلا أن بشارة اعتبر أن الإمارات ستكون في النهاية ضحية لهذا التصور، لأن إسرائيل لن تحارب عن الإمارات ضد إيران. ونظرا لأهمية العامل الإقليمي في هذا التوجه الإماراتي نحو إسرائيل جاءت ردود الفعل الناقدة لاتفاق إسرائيل والإمارات أساسا من طرف تركيا وإيران.
على مستوى التداعيات اعتبر بشارة أن القضية الفلسطينية ليست ذات اعتبار في الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، وأن الإمارات حاولت الظهور بمظهر الاعتدال وتجلى ذلك في تسمية الاتفاق "اتفاق إبراهيم" وكأن الموضوع تصالح أديان بينما هو في حقيقته موضوع سياسي همّش القضية الفلسطينية وتخلى عمليا عن المبادرة العربية وكرّس رؤية اليمين الإسرائيلي المتمثلة في مبدأ السلام مقابل السلام، وليس السلام مقابل الأرض، وهو ذات المنطق الذي تقوم عليه ما تسمى "صفقة القرن"، ولذلك اعتبر بشارة أن الإمارات بذلك حققت نصرا لليكود وقوى اليمين داخل إسرائيل بإثبات صحة وجهة نظرهم المتمثلة في أن الموقف العربي لن يتغير بالكلام والتنازلات وإنما بالتترّس بسياسات القوة وتكريس الاحتلال والاستيطان بدون أي شروط أو تنازل. ويبدو أن هذا المبدأ هو الذي يسود الآن بهرولة الإمارات نحو التطبيع العلني.
وإجابة عن سؤال أي الدول العربية مرشحة للالتحاق بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي استبعد بشارة أن تُقدم سلطنة عمان على خطوة مشابهة لأنها لا تريد أن تكون تبعا للإمارات، أما البحرين فلا يمكن أن تقوم بذلك دون موافقة السعودية التي سيكون الموقف البحريني مؤشرا على موقفها من الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي وما إذا كانت ستنخرط في ذات المسار.
بالنسبة للسودان، اعتبر بشارة أنه يشهد مشاكل كثيرة، تتمثل أساسا في استقرار النظام الحالي والحركات المسلحة، والأزمة الاقتصادية، وبالتالي إذا تم التركيز على موضوع التطبيع فإن عوامل الشقاق داخل النظام ستزداد، وبدلا من ذلك دعا بشارة الفرقاء السودانيين إلى التركيز على مسار التحول الديمقراطي وتجنب حدوث انقلاب عسكري يعيد السودان إلى مربع ما قبل الثورة على نظام البشير. وإن كانت الإمارات تعمل بشكل حثيث على جر حلفائها للتطبيع، ولعل ذلك ما كان سببا في التضارب بين تصريحات المتحدث باسم الخارجية وموقف الوزارة بعد ذلك.
بالنسبة للموقف العربي من الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي والذي تراوح ما بين الصمت والدعم والتأكيد على سيادة الدول على قراراتها، فقد اعتبر بشارة أن الصمت على خطوة الإمارات غير مبرر بحال من الأحوال فالمشكل ليس قانونيا، وإنما المسألة هي الأدوار التي تقوم بها الإمارات وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومن هذا المنطلق ينبغي أن تكون سياسة الإمارات موضوع نقاش. كما أنه لا يوجد أي مبرر لعدم نقد الخطوة الإماراتية فقضية فلسطين هي آخر قضية استعمارية وينبغي أن تكون في المركز، والموقف منها أخلاقي وأيديولوجي وسياسي بعيدا عن اللغة القانونية واعتبارات السيادة على القرار، وهي لغة تدل على تأثير المال الإماراتي أو التخوف من تبعات الموقف المبدئي من القضية بسبب حسابات اقتصادية خاصة.
بناء على ذلك فالمطلوب حسب بشارة هو جبهة فلسطينية موحدة وتوحيد السلطة، والعمل على تشكيل منظمة التحرير من جميع الفصائل والمستقلين، أما ما هو أقل من ذلك فهوم كلام حسب بشارة.
تبعات انفجار بيروت: هل من سبيل لتغيير النظام الطائفي؟
في الجزء الأخير من المقابلة تطرق المفكر العربي عزمي بشارة إلى انفجار مرفأ بيروت وتداعياته، واستحضر بشارة في هذا الصدد حادثة تشيرنوبيل التي كانت من عوامل التغيير في دول أوروبا الشرقية. وبالنظر للحالة اللبنانية فإن نظام المحاصصة الطائفي يقف خلف معظم المعضلات التي تواجه لبنان ويعتبر المسؤول عما جرى، فلا يمكن محاربة الفساد والاستزلام في الإدارة اللبنانية مع بقاء النظام الطائفي.
وعن الخروج من النظام الطائفي اعتبر بشارة أن نموذج الديمقراطيات التوافقية التي يسميها هو "توافقيات"، لم تمثّل حلا جذريا، وأنه ليست هنالك نماذج حتى الآن لتغير النظام الطائفي، لكنه شدد على أن القوة ليست هي وسيلة التغيير وأن المظاهرات ليست أيضا آلية لتغييره، بالرغم من أهميتها في إحراج النظام الطائفي وخلق ثقافة سياسية معادية للطائفية، لذلك يجب أن تتم العملية بالتدريج، خاصة وأن النظام الطائفي يستمد تجدده وإعادة إنتاجه من النظام والقانون الانتخابي القائم، وبالتالي فإن أولى الخطوات لكسر هذه الحلقة المفرغة من الفشل تكون بتغيير طريقة الانتخابات، وذلك بتحويل البلاد إلى دائرة واحدة أو منطقة واحدة، مع تمثيل للحالة الاجتماعية، وقد تكون الآلية المناسبة هي انتخاب برلمانين: برلمانٌ يُنتخب بشكل نسبي يُعبّر فيه المواطن عن نفسه كمواطن وليس كمنتمي لطائفة، والميزة الإيجابية لذلك هي دمج السكان، وبرلمانٌ آخر يُمثّل المناطق أو الطوائف، وبالتالي تصبح هنالك مرحلة انتقالية فيها تمثيل للمواطنين بوصفهم مواطنين وتمثيل للحالة الاجتماعية "الطائفية" التي لا يمكن حسب بشارة تجاهلها لأنها ترسخت عبر مئات السنين وتحتاج لوقت لتجاوزها. واعتبر بشارة أنه يجب طرح برامج من هذا النوع والدفاع عنها، وأن مطلبا من هذا النوع قد يكون رهانا للقوى الموجودة في الشارع التي ينبغي أن يُسمع صوتها وأن يكون ممثَّلا أمام ممثلي الطوائف على طاولة الحوار.
وإجابة عن سؤال أخير يتعلق بحكم محكمة الجنايات في قضية اغتيال رفيق الحريري اعتبر بشارة أن المحكمة تصرفت كمحكمة جنائية وأدانت شخصا واحدا ينتمي لحزب الله اللبناني، وبذلك تكون المحكمة قد أنهت دورها الذي لا يشمل التفسير السياسي للأحكام. وبالتالي فإن الكرة الآن في ملعب القوى السياسية التي إذا كانت تريد التوافق الآن فإنها تستطيع أن تطالب، ممثلة في تيار المستقبل ومن حوله، بتسليم الشخص المدان فحسب، ثم المرور لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهذا هو المرجح حسب بشارة، أما إذا أرادت تلك القوى التصعيد فإنها ستتهم حزب الله بتخطيط وتنفيذ الاغتيال على اعتبار أن الشخص المدان من أعضائه، وهو ما سيقود إلى تفاقم الأزمة السياسية من جديد في لبنان.