تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة في الإجابة على سؤال "ما العمل؟" إزاء صفقة ترامب-نتنياهو

2020-05-18

مقال عبّاد يحيى

في كتابه "صفقة ترامب – نتنياهو.. الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال ما العمل؟" الصادر مؤخرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقدّم المفكر العربي عزمي بشارة تحليلًا نقديًا لنص وثيقة ترامب المعروفة إعلاميًا بصفقة القرن (الفصل الأول من الكتاب)، ليخوض من خلاله في المسار الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى وضعها الراهن (الفصل الثاني)، ومن هذا المسار يصل إلى سؤال "ما العمل؟" (الفصل الثالث)، وفي الفصل الرابع قراءة بشارة في نتائج المؤشر العربي للرأي العام العربي إزاء القضية الفلسطينية. وهذا المقال هو مراجعة بشيء من التفصيل للفصل الثالث "ما العمل؟"، السؤال الأكثر إلحاحًا فلسطينيًا اليوم.

ما نحن بإزائه عند قراءة هذا الفصل هو إجابة بتمهيد توصيفي تحليلي للواقع الفلسطيني اليوم، وصولًا لطرح استراتيجية نضالية شاملة. ومع أن أجزاء من التحليل طرحها بشارة مرارًا طوال ثلاثين سنة من رؤيته للواقع الفلسطيني والمسار السياسي للسلطة الفلسطينية منذ أوسلو، وكان شاهدًا على تحوّل التحليل الاستشرافي إلى واقع، إلا أنها تأتي في سياق كتابه مؤطرة بتزمينها الراهن، وصولًا إلى طرح شامل للاستراتيجية النضالية التي يقدمها بشارة لمواجهة صفقة ترامب- نتنياهو التي يتواصل تطبيقها، وصولًا إلى ضم الضفة الغربية، موضوع الساعة بالتزامن مع الذكرى الثانية والسبعين للنكبة.

في فصل "ما العمل؟" ما يستوفي شروط برنامج نضالي فلسطيني وعربي، ومع أن أن كاتبه يقدمه اليوم بمنهجيته كمفكر في السياسة والاجتماع والتاريخ بخلفية نضالية طويلة، إلا أنه يرتقي ليكون بمثابة بيان سياسي مؤسِّس، لم يصدر عن أي جهة أو فاعلين وشخصيات وطنية فلسطينية ما يشبهه، في مرحلة هي الأحلك في تاريخ القضية الفلسطينية من ناحية توسع نظام الفصل العنصري، وانفضاض المحيط الرسمي العربي عن القضية الفلسطينية، بل وتآمره عليها بالتحالف مع إسرائيل لا مجرد التطبيع معها.

واقع العمل السياسي الفلسطيني اليوم

يستهل بشارة إجابته على السؤال الأكثر إشكالًا "ما العمل؟" إزاء صفقة ترامب- نتنياهو، بتوصيف واقع العمل السياسي الفلسطيني كما يراه، في إجمال يوضّح محدودات هذا الواقع وما جعله ينتهي إلى شكله الراهن. فالعمل السياسي الفلسطيني حسب بشارة تحوّل إلى مسارين: "أولًا، تجنيد الأموال لضمان استمرار وجود السلطة. وهو خاضع لضغط وتأثير أميركي إسرائيلي مستمر، وحكمته موازنة إسرائيلية بين استخدام المال للضغط على السلطة عند أي خلاف، وتمكين السلطة من القيام بأدوارها الأمنية. وثانيًا، مبادرات الانضمام إلى منظمات دولية".

أما بالنسبة للمقاومة السلمية فرُفعَت شعارًا ولم تُنفذ، إلا على شكل مبادرات محلية في قرى بعينها على تماس مع المستوطنين، وفي القدس حيث غياب السلطة والتزاماتها الأمنية والاحتكاك المباشر مع الاحتلال، رفع القدس درجات على سلم المقاومة المدنية.

أما الخطير الذي وقع في آخر عقد ونصف فكان احتدام الصراع على السلطة. و"صار هذا الصراع يستهلك الطاقة السياسية الفلسطينية محليًا ودوليًا. ولما استيقظت فتح على وثيقة ترامب وجدت نفسها منشغلة بمن سيخلف عباس في رئاسة السلطة فضلًا عن صراعها مع حماس وأصبحت هذه الصراعات الداخلية والتحالفات المتبدلة موضوعًا للنقاش اليومي في الضفة الغربية".

تلخّص فخ أوسلو حسب بشارة "في قبول منظمة التحرير استبدال حركة تحرر وطني بسلطة دون دولة، فانطلقت الصراعات على السلطة قبل نشوء الدولة. نجم عن ذلك تهميش منظمة التحرير وحركات التضامن مع فلسطين أيضا". وتحولت أوسلو إلى مبرر لكثير من الدول لتطوير علاقتها مع إسرائيل بحجة أنهم لا يريدون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين.

ثم وضعت السلطة كل أوراقها في البيت الأبيض، ولذلك تحديدًا هزّتها وثيقة ترامب، حسب قراءة بشارة.

يقول بشارة: "لم تكترث السلطة لحركات التضامن، التي توجهت هي أيضا صوب غزة، لم تهتم لأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى للرأي العام في دول وازنة متحالفة مع إسرائيل مثل الهند. في المقابل لا يعول التيار الإسلامي المقاوم إلا على دول إسلامية، ففهمه للتضامن يعتمد على التضامن على أساس الدين، ما أسهم في تصوير الصراع كصراع ديني، وهو ما يوافق رغبة الإسرائيليين في تعريف الصراع. وخسارة الرأي العام الدولي في الغرب وكذلك في دول مثل الصين وروسيا، كانت من أعراض تديين الصراع. بذلك خسرت القضية الفلسطينية رمزيتها لشعوب العالم الثالث بما في ذلك الأمة الإسلامية التي كانت سندًا كبيرا".

وهكذا انفصلت- وفق بشارة- حركة التضامن العالمية الديمقراطية مع الشعب الفلسطيني عن العمل السياسي الفلسطيني، وسط مراهنة السلطة على الإدارة الأميركية، وهو ما سقط مؤخرًا، أو على اليسار ونتائج الانتخابات الإسرائيلية، وهذا "وهم قاتل" بلغة بشارة، "إذ لا يوجد أي احتمال أن يحل اليسار الإسرائيلي محل اليمين في الحكم، فقد انقرض عمليًا على مستوى التيار المركزي في الشارع الإسرائيلي. أما الرهان على الصوت العربي فهو مهم لو كان الهدف منه تنظيم عرب الداخل للنضال من أجل قضاياهم بوصفهم مواطنين وجماعة قومية في الوقت عينه، والحفاظ على هويتهم العربية الفلسطينية في الوقت نفسه، لكنه رهان فاشل وبائس حين يقوم على وهم أن حكومات إسرائيلية يمكن أن تستند إلى أقلية يهودية وأصوات عربية لحسم قضايا الحرب والسلام والمفاوضات". ويرى بشارة أن هذا التوجه "يعكس سوء تقدير لمعنى صهيونية إسرائيل، عدا عن تشجيعه العرب على الأسرلة في دولة تعرّف نفسها بأنها يهودية ودولة يهود".

وثيقة ترامب.. نهاية وهم أوسلو

يرى بشارة أنه إن كان هناك من "إيجابية" في رؤية ترامب فهو الإجهاز على أوهام أوسلو، "فالطرف القوي يفرض ما يريد على الطرف الضعيف الممتنع عن المواجهة، ويسمح له أن يطلق ما يشاء من أوصاف على "الكيان" الذي يملي جوهره عليه". إن أهم ما في رؤية ترامب حسب بشارة هو اعترافها بالواقع الذي غيّرته إسرائيل جذريا منذ 53 عاما، وإيقاف الوهم بإمكانية العودة إلى الخلف. هذا ما يحتفي به اليمين الإسرائيلي، وينبغي أن يدفع فلسطينيًا للتفكير باستراتيجيات جديدة.

قبل ثلاثين عاما وصف بشارة واقع الاحتلال في الضفة وغزة بأنه "أبارتهايد"، ينتج بانتوستان، ويقول إنها اليوم صارت بانتوستانات، ما يميزها عن تلك التي كانت تحت وصاية جنوب أفريقيا العنصرية، أن بانتوستاناتنا تكابر ولا تعترف بواقعها الأليم.

فلسطين.. قضية استعمارية غير محلولة

يجزم بشارة أنه لا يمكن مقاومة مشروع ترامب-نتنياهو والذي أيده خصمه بيني غانتس إلا بتسمية قضية فلسطين باسمها: قضية استعمارية غير محلولة، بل هي آخر قضية من هذا النوع في العالم. أصبحت تتجلى على شكل نظام فصل عنصري. يؤكد بشارة أن رمزية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب وشعوب العالم الثالث نابعة من كونها قضية استعمارية وليس من حجم المعاناة تحديدًا، ضاربًا أمثلة عن معاناة الشعوب العربية، "فالشعب السوري أو الليبي أو اليمني لديهم مصائبهم وهمومهم وقضايا لاجئين، وإن كان ثمة أهمية لقضية فلسطين بالنسبة لهم فهي تكمن في أنها آخر قضية استعمارية في المنطقة، وأنها قضية الأمة كأمة، أي أن الأمر مرتبط بانتمائهم العربي".

قضية العرب الأولى؟

"هل قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى؟" يطرح بشارة التساؤل الرائج عربيًا بصرف النظر عن دوافعه وسياقات طرحه مؤخرًا، ويصوغ إجابته المباشرة والشرطيّة، "نعم، قضية العرب الأولى بوصفهم أمة، ولكنها ليست قضية السوري الأولى، فقضية السوري الأولى هي قضيته الوطنية المتعلقة بالصراع مع الاستبداد والحفاظ على سورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العراقي ومسألة الطائفية والفساد والتدخل الخارجي، والمصري وقضية الاستبداد والإفقار، والسوداني وغيرهم. كل الشعوب العربية لديها قضاياها، لكن حين يجتمع العرب باعتبارهم أمة تكون قضيتهم الأولى هي فلسطين".

ولكن قضية فلسطين مهمة جدًا أيضا لكل شعب عربي على حدة، فإسرائيل لا تنفك "تهدد سيادة كل دولة... من خلال التدخلات الإقليمية في دول متعددة دعمًا لنزعات انفصالية، أو للعبث في العلاقات بين العرب وجيرانهم. والخطر الإسرائيلي ماثل على العرب بوصفهم أمة، وعلى سيادة دولهم التي يفترض أن تخضع لشروط إسرائيلية في سياستها الخارجية التي يجب أن تفصّل على مقاس إسرائيل حين يعاد تقسيم المنطقة بين متطرفين ومعتدلين وفقا للرؤية الإسرائيلية، أو يفرض نموذج الدولة الطائفية بوصفه حلًا للصراعات وتهمّش الهوية العربية وتكون دول المنطقة العربية كلها طائفية مثل إسرائيل".

ويرى بشارة أن على القيادة الفلسطينية حمل هذه الرسالة الواضحة للدول العربية، وأن تضع برنامجًا مشتركًا للعمل الدبلوماسي العربي بشأن القضية الفلسطينية ينطلق من رفض صفقة ترامب-نتنياهو، هذا المسعى يتطلب نبرة نضالية، لا نبرة مستسلمة للتطبيع الذي تقوم به بعض الدول العربية.

في حتمية ديمقراطية حركة التحرر من الاستعمار والاستبداد

"أوهام" هو الوصف الذي يطلقه بشارة على اعتقاد معارضي نظم عربية تاجرت بالقضية الفلسطينية شعاراتيًا، أن رفض التطبيع مع إسرائيل هو أحد شعارات تلك الأنظمة، وحجتهم أن إسرائيل أمر واقع. يقول بشارة "إن الشعب الفلسطيني أمر واقع أيضًا وكذلك الاحتلال والفصل العنصري". و"لا يمكن أن تكون مناهضًا للاستبداد، وغير مكترث للعنصرية واحتلال أراض عربية في الوقت ذاته، مثلما لا يمكن أن تكون مناضلًا حقيقيًا للتحرر من الاحتلال، وغير مبال بمعاناة شعب عربي في ظل الديكتاتورية". ويجزم بشارة أن التطبيع مع إسرائيل "لا يحل أي مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، كما ثبت في مصر والأردن وجنوب السودان، بل ربما يكون مصدرًا لأزمات اجتماعية وسياسية"

يحسم بشارة هذه الحتمية الديمقراطية بالقول: "إن أية حركة تحرر وطني فلسطينية متجددة هي حركة تنسجم مع التيار الديمقراطي العام في المنطقة. فإذا كان النضال الفلسطيني حاليًا موجهًا ضد نظام فصل عنصري (أبارتهايد) في فلسطين، فهذا يعني أن مطالبه ديمقراطية. ويجب أن يكون خطاب هذا النضال ديمقراطيًا، فلا يمكن في هذا العصر حين تدور من حولك نضالات عربية ضد الاستبداد أن تخوض نضالًا من أجل العدالة بخطاب غير ديمقراطي، فلن يقتنع أحد بصدقيتك إذا كنت تدافع عن النظام السوري أو المصري". ويستدرك بشارة استدراكًا عمليًا متصلًا بالممارسة السياسية ويوجّه مقولته للفاعل السياسي الفلسطيني: "ليس مطلوبًا أن تخاصم هذه النظم، وإذا لم تستطع أن تعبّر عن موقف واضح ضد الاستبداد في الوطن العربي فاصمت على الأقل! والكل سيقدر ظروفك".

ما العمل؟ استراتيجية تحرر لا مقترحات حلول

يقدم بشارة توصيفا مركبّا لنظام الأبارتهايد في فلسطين ومستوياته، قائلا: "إن فلسطين الآن هي وحدة واحدة وفضاء واحد خاضع لدرجات مختلفة من سلب الأرض ومصادرة الكيان الوطني، وتلوينات وأساليب سيطرة مختلفة للسلطة الإسرائيلية الحاكمة نفسها. يخضع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة والمواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، وأولئك الواقعون في منزلة بين المنزلتين في القدس لهذا النظام. ولكن ظروفهم مختلفة وكذلك مطالبهم العينية. ووسائل نضالهم مختلفة بالضرورة، وكذلك جبهات المواجهة التي يخوضونها. ويمكن تشخيص قضية اللاجئين ضمن نموذج الأبارتهايد نفسه. فالفصل العنصري اتخذ في عام ١٩٤٨ شكل الطرد والتهجير لتحويل الأقلية اليهودية إلى أكثرية في دولة يهودية، ويتخذ الفصل حاليا شكل الاحتلال والتمييز العنصري".

بناء على ذلك يقول بشارة إنه "لم يعد ثمة مجال لتصور "حل لقضية فلسطين" يشمل فقط جزءًا من الشعب الفلسطيني، ولن يكون تنفيذه ممكنًا. وقد أسهم فشل مسار المفاوضات الهادفة إلى التوصل إلى مثل هذا الحل في إظهار عبثية هذا الطرح وغرابته".

وبشمولية نظام الأبارتهايد العنصري تكون شمولية انخراط الفلسطينيين في مواجهته، في كل أماكن وجودهم، وهذا شرط رئيس تتطلبه الاستراتيجية النضالية التي يصوغها بشارة. وهذا يحتاج إلى "درجة عالية من التنظيم والتنسيق، من دون التنازل عن خصوصية كل تجمع فلسطيني وطبيعة جبهة المواجهة التي يخوضها، فلا يجوز أن تكون تجمعات الشعب الفلسطيني كلها خاضعة لأجندات سلطة فلسطينية أو سلطتين، ومن هنا أهمية وجود قيادات محلية تتمتع باستقلالية بشأن قضايا قاعدتها الاجتماعية ومواطنيها، وإطار فلسطيني جامع يحدد الأجندات الوطنية الجامعة".

الروح الفلسطينية الجديدة

 وفق بشارة، انطلقت حركة التحرر الوطني الفلسطيني بعد النكبة من الشتات، من مخيمات اللاجئين والمثقفين الفلسطينيين من أبناء الطبقات الوسطى في الخارج، وأصبحت حركة الشعب الفلسطيني كله. ولكن "حين قبلت أن تختزل إلى كيان في الضفة والقطاع، لم يتوقف التشظي عند هذا الحد، وما لبث أن تفرّق هذا الكيان إلى ثلاث وحدات مختلفة: الضفة الغربية، قطاع غزة والقدس. وأصبح كل منها يشكّل قضية سياسية قائمة بذاتها".

يعتقد بشارة أن الروح الفلسطينية الجديدة المتمردة المنبعثة من أنقاض مسار أوسلو ترفض هذه التجزئة، وهذا ما يكتسب أهمية قصوى هنا.

أما كيف يستعاد تفاعل هذه القطاعات المختلفة حاليًا في صراع يدور على جبهات مختلفة ضد النظام الصهيوني نفسه، "فهذا سؤال يفترض أن يوجّه إلى الفصائل والأحزاب، فمن يقود فصيلًا أو حزبًا يفترض أن يجيب عن سؤال البرامج والخطط النضالية، فهذه ليست مسألة نظرية، بل ترتبط بوجود تنظيم سياسي".

يقطع بشارة بالقول إنه "لا معنى لوجود أي حزب سياسي فلسطيني، إذا لم تكن لديه إجابة عن سؤال البرنامج في الظروف الجديدة. وليس التنظير من مهمات التنظيم السياسي، بل وضع برامج سياسية عملية تهتدي بمبادئ وأفكار معينة. ومن ينضم إلى حزب أو فصيل سياسي من هذا النوع يفترض أن يتوقع إجابة من قياداته عن سؤال البرنامج وألا يكتفي باجترار شعارات فقدت الصلة بالواقع وأصبح هدفها الوحيد الحفاظ على هوية التنظيم".

يطرح بشارة التساؤل عما يفعل الفلسطينيون في الخارج بعد تحويل منظمة التحرير إلى أداة بيد السلطة التي تحفظت عليها لتُستدعى في المواسم فتشّل حركتها وينقطع دورها. "هل يقيمون تنظيمًا جديدًا؟ إن أقدموا على إنشاء التنظيم سياسيًا فسيُتهمون فورًا بأنهم يقيمون بديلًا من منظمة التحرير". هذه المعضلة حسب بشارة يجب أن تحلّ في ما بين الفصائل التي وصلت إلى طريق مسدود ومعها النضال الفلسطيني. و"لا شك أنه إذا لم تحل هذه المعضلة فسوف تتولد بدائل في أي حال. ويجب ألا تستغرب الفصائل إذا تجمعت المبادرات المنتشرة في كل مكان وتنظمت، وألا تغضب من صعود بدائل تتحداها".

حلّ السلطة بلاغة خطابية.. المهم هو دورها

لا يرى بشارة في تهديدات عباس بحلّ السلطة في خطابه بجامعة الدول العربية في مطلع شباط/فبراير من العام الجاري، تفكيرًا جديدًا أو استراتيجية، بل مجرد بلاغة خطابية، مثل تهديداته المتواترة بوقف التنسيق الأمني التي لم تنفذ والتي أعلن هو نفسه أنها لن تنفّذ. ففقدت هذه الخطابات أية صدقية. يتساءل بشارة: "كيف يمكن حل السلطة؟ أهذه السلطة شركة؟ أم فريق كشفي أم فريق كرة قدم؟ السلطة هي شبكة مؤسسات ومصالح ومئات آلاف من الموظفين ورجال الأمن. قال أبو مازن إنه دعا الاحتلال إلى أن يعود ليتسلم مسؤولياته، ماذا يعني هذا؟ هذه ليست دعوة إلى حفل. إسرائيل ستشكره على الدعوة ولن تلبيها".

ويضيف بشارة: "إذا حل عباس السلطة فسيرحل هو والمرجح أن يتلقى انقلابيّ أو رجل أمن طموح دعمًا إسرائيليًا أو أميركيًا لاستلام السلطة. ستجد إسرائيل جماعات تتسلم السلطة عوضًا عنها فهي لا تريد أن تعود وتحكم السكان مباشرة. لذلك ليس الخيار قائمًا بين حل السلطة وبقائها. السؤال هو حول دورها والخيارات السياسية المتاحة".

يرى بشارة أنه لا يمكن ترك الشعب الفلسطيني بلا مؤسسات اقتصادية وتعليمية وصحية واجتماعية وشرطية، "فأي شعب يسعى للتحرر يجب أن يثبت قدرته على التنظيم الذاتي، وتتضاعف أهمية هذه المهمة الحضارية في حالة الشعب الفلسطيني، سواء أكان تحرره في دولة فلسطينية (مع تحقيق مطالب أخرى متعلقة بالشعب الفلسطيني خارج الضفة وغزة) أم في دولة تجمع شعبين، فالمجتمع اليهودي منظم في دولة قوية واقتصاد متطور وقطاعات صحية وتعليمية وثقافية متطورة".

قيادة سياسية جامعة للشعب الفلسطيني.. فوق السلطة

إذن، يمكن أن تبقى السلطة حسب بشارة "لكن بوصفها نوعًا من إدارة مركزية لحكم ذاتي، سلطات محلية... تدير شؤون السكان ولديها مهمات شرطية. وهي ضرورية ولا مجال للتخلي عنها. ولكنها ليست القيادة السياسية للشعب الفلسطيني". هنا يقترح بشارة مسارًا تفصيليًا: "لا بد من إحياء منظمة التحرير لتتولى هذا الدور أو يعقد مؤتمر وطني جديد تتولد منه قيادة سياسية، وفي الأثناء تجتمع الفصائل المركزية غير التابعة مباشرة لأنظمة، إلى جانب شخصيات مستقلة لتأليف قيادة مؤقتة للتحضير لمؤتمر كهذا".

السؤال الذي يكتسب مهمة قصوى هنا كما يطرحه بشارة، هو هل يمكن أن يسهم وجود قيادة سياسية للحركة الوطنية الفلسطينية فوق السلطتين في غزة والضفة في توحيدهما تحت هذا الإطار؟ يجيب بشارة: "ليس التفاوض بين سلطتين هو الطريق إلى المصالحة، ففي وضعهما الحالي لا يمكن تحقيق الوحدة بالتفاوض بينهما، لأن لا حركة حماس ولا حركة فتح ستتنازل عن السلطة المحدودة على الثروة والسكان وأجهزتها الأمنية وعلاقاتها الدولية المنفردة بما في ذلك التفاوض مع إسرائيل مباشرة أو بواسطة. هذا فخ السلطة بدون سيادة، فقد تفوق الصراع الحزبي الفصائلي على السلطة على النضال من أجل السيادة. ولا طريق إلى الوحدة سوى إعادة تعريف وظائف السلطات الفلسطينية بتحرر من الإملاءات والشروط الواردة في الاتفاقيات، وتحويل السلطتين إلى مؤسسات تعترف بقيادة سياسية واحدة".

إن التسليم بوجود سلطة فلسطينية ذات مهمات داخلية في بناء المؤسسات وتطوير الاقتصاد والتعليم وغيره، "يفسح المجال لإنشاء مؤسسات سياسية بأفق جديد وبرامج جديدة تتعامل مع الواقع المفروض على الأرض بوصفه واقع فصل عنصري وتبني النضال على جبهات مختلفة ضد العنصرية الصهيونية وهو النضال الذي يشارك فيه السكان الفلسطينيون الأصليون في بلادهم على أرض فلسطين كل حسب موقعه وظروفه. وهذا يعني عدم فصل قضايا الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وغزة وعرب 1948، فهم جزء من سكان أصليين يعيشون في ظل منظومة حكم إسرائيلية واحدة. ولا يمكن في الوضع العربي الراهن وفي الأفق المنظور الانتصار عليها بقوة السلاح ولا يمكن تفكيك البنية الصهيونية من دون انخراط اليهود أنفسهم في هذه العملية".

يحدد بشارة طبيعة هذه العملية، فيؤكد أنها "عملية طويلة الأمد وتحتاج إلى صبر وتنظيم وتغيير الخطاب إلى خطاب ديمقراطي، وهذا منسجم مع تطلعات الشعوب العربية عموما إلى الديمقراطية. ولأن الطريق طويل، وبالذات لأنه طويل، لا يجوز أن يوصف بأنه طريق تضحيات فحسب، ويجب أن يكون طريق بناء مؤسسات في كافة أماكن وجود الشعب الفلسطيني. إن الشعب القادر على فرض إرادته في صراع مع السلطة الصهيونية يجب أن يكون شعبًا منظمًا وقويًا. والنجاح في بناء المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والصحية وتعزيز مقومات الصمود في الضفة والقدس وغزة وداخل أراضي 1948 والدول العربية والشتات والتشبيك بينها للاسترشاد ببرنامج سياسي في الصراع مع نظام الأبارتهايد هي بمجملها صيرورة تقدم إلى الأمام في هذه المعركة".

هل هذا يعني حل الدولة الواحدة؟

يطرح بشارة هذا السؤال ويجيب بلغة دقيقة ومحكمة أنه يعني "النضال الوطني الديمقراطي من أجل العدالة والمساواة، التي لن يتبيّن نموذجها السياسي إلا من خلال النضال وعملية حوار طويلة بعد قبول مبدأ العدالة. فقد تتخذ شكل دولة واحدة ثنائية القومية أو دولتين كل منهما دولة لجميع مواطنيها، بحيث تحتفظ الدولة الفلسطينية بطابعها العربي والدولة الإسرائيلية بطابعها اليهودي وحل قضايا اللاجئين والجنسية"، والحديث هنا عن طابع فقط، مرتبط بثقافة الأغلبية.

يؤكد بشارة أنه لا يتحدث بلغة الحلول، لا "حل الدولة"، ولا "حل الدولتين"، الشعب الفلسطيني ليس منخرطًا في مفاوضات لحل معضلة. ويشدد على أن "المزاج السياسي يجب أن ينتقل من مفاوضات تطرح فيها حلول إلى النضال طويل الأمد من أجل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني". ويرى بشارة أنه لا تلوح في الأفق طاولة مفاوضات يمكن أن يطرح عليها "حل الدولة الواحدة"، مشددًا "نحن لا نتحدث عن حل تفاوضي بعد، بل عن نضال ضد الأبارتهايد". ويعلق بشارة على سجالات مثقفين فلسطينيين ويهود عن كون حل الدولة الواحدة بديلًا من حل الدولتين، ويقول "إن كنا نتحدث في إطار مفاوضات ومبادرات وحلول فإن حل الدولة الواحدة أصعب تحقيقًا من حل الدولتين في الواقع الراهن الدولي والعربي والإسرائيلي. ولذلك لا أتحدث عن حلول بل عن نضال من أجل العدالة في فلسطين كلها".

يسهب بشارة في مقاربته لطبيعة الدولة الواحدة، منطلقًا من قناعته أنه "لا يمكن أن تقوم دولة واحدة لجميع مواطنيها في فلسطين التاريخية إذا لم تدعم ذلك أغلبية المواطنين اليهود والعرب، لأن فرضها عليهم غير ممكن، ويجب أن توجد ظروف تدفع الأغلبية إلى مثل هذا القبول، والنضال جزء من عوامل نشوء هذه الظروف"، فلا يوجد أي سبب حاليًا يدفع اليهود الإسرائيليين للتنازل عن امتيازاتهم القومية، السياسية والاقتصادية، في إطار نظام الأبارتهايد الكولونيالي، وتفوقهم العسكري، لا من أجل دولة ولا دولتين. القضية، إذًا، موضوع صمود وبناء في الوطن ونضال من أجل العدالة وخطاب ديمقراطي.

وانطلاقًا من التشكّل الطويل للهوية القومية العربية والوطنية الفلسطينية على مدى قرن من الزمان، ونشوء قومية يهودية إسرائيلية عبرية اللغة والثقافة في فلسطين، مع القناعة بمسار تشكلها الاستعماري، فإن أي تسوية عادلة في المستقبل سوف تضطر للاعتراف بوجود شعبين، عربي فلسطيني وإسرائيلي يهودي، و"كل ما تقوله فكرة الدولة الواحدة هو أنهما أصبحتا غير قادرتين على العيش في دولتين وعليهما أن تجدا صيغة للعيش معا بمساواة، ويجب إقناع الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين بذلك وهذا يتطلب نضالًا دؤوبًا ومثابرًا، ومع أن غايته تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني المقهور والمسلوب الأرض والوطن، إلا أنه يتطلب صدقية في الطرح التحرري الديمقراطي لإقناع الشعبين أن تحقيق العدالة والمساواة سيكون في مصلحتهما. والنضال من أجل العدالة هو نضال من أجل الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والمساواة لأفراده من دون إنكار تشكل شعب آخر في فلسطين وإن كان مسار تشكله استعماريًا".

ويقول بشارة إنه "ربما يكون الإطار الملائم دولة واحدة تعترف بقوميتين متميزتين ضمن حدودها، لكنه يشدد على أن الأولوية حاليًا هي للنضال الديمقراطي لتحقيق العدالة لشعب فلسطين، مع إمكانية أن يؤدي النضال ضد الأبارتهايد وتحقيق المساواة بين العرب واليهود في كيانين قوميين تجمعهما مواطنة واضحة متساوية بعد الاعتراف بالغبن التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين، كما يمكن أن يقود على نحو جدلي إلى الاقتناع بدولتين، المهم ألا يكون مجرد "حل دولتين لشعبين" لتخليص الصهيونية من "الخطر الديمغرافي" بل أن يطبق في إطار العدالة لشعب فلسطين في كل أماكن تواجده".

يوضح بشارة موقع القوى اليهودية في هذا النهج من التفكير الجديد، مؤكدًا أنه "لا بد من مخاطبة أوساط أوسع فأوسع من الرأي العام الإسرائيلي والتعاون مع قوى يهودية ليس على إحياء المفاوضات وإسقاط اليمين وغيره، بل على العدالة في فلسطين ومستقبل العيش معًا من دون نظام صهيوني حاكم. وهذا مختلف تمامًا عن الحوارات الجارية من أجل السلام، فموضوع هذه الحوارات بموجب هذا النهج ليس السلام، بل العدالة في ظل نظام غير صهيوني".

مكامن القوة العملية

يختتم بشارة الفصل الثالث من كتابه بالإشارة إلى مكامن القوة في الحالة الفلسطينية اليوم. ويرى أن "مكمن القوة الرئيس في وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وعدم تسليمه بواقع الاحتلال، وعجز الولايات المتحدة وإسرائيل عن فرض رؤية ترامب-نتنياهو عليه".

يرى بشارة أن "استمرار النضال واستمرار بناء المؤسسات الجاري في غزة والضفة هما مساران حيويّان في تنظيم الشعب الفلسطيني وتعزيز قدراته على الصمود. ويضاف لذلك حصول انقلاب مهم في أوساط واسعة من الرأي العالمي لمصلحة قضية فلسطين وتحديدا في الغرب، بعضه أصيل ناجم عن صعود أجيال أكثر أخلاقية وأقل أدلجة، وبعضه يدخل في عملية الاستقطاب ضد الشعبوية اليمينية التي لن تبقى في صعود".

أما موقع المبادرات الشبابية المحلية الجارية في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، فيراها تعبيرًا عن أن الشعب الفلسطيني حيّ وعن وجود أزمة قيادة في الوقت نفسه. و"لكنها لن تظل مفيدة على المدى البعيد إذا ظلت منفصلة عن السياسة وعازفة عن التأثير في السياسة الفلسطينية، ومن هنا أهمية تجميعها ليكون لها قول في السياسة الفلسطينية".

سمات الاستراتيجية النضالية كما قدّمها عزمي بشارة

يتسم طرح بشارة بالشمولية، من ناحية تحليله لمجمل الحالة الفلسطينية أولًا، ثم التركيب الذي يدخله بشارة نظريًا على مستويات الأبارتهايد باختلاف مراحله الزمنية وكذلك مستويات تنفيذه وأشكاله داخل فلسطين كلها. ثم شمولية الاستراتيجية النضالية لكل الفلسطينيين، فلا تقتصر على فئة أو تستسلم لتجزئة مناطقيّة، وهذا فريد فلسطينيًا، فبعد سيطرة ممارسة مرتبطة بكل مجموعة فلسطينية في مكان وجودها وإفراز سلطتها وقياداتها وامتيازاتها، غاب التفكير في استراتيجية تشمل الفلسطينيين كلهم، حتى على مستوى الخطاب انحسرت هذه الشمولية. فالاستراتيجية نابعة من الواقع المتباين ومستويات المواجهة المختلفة والاحتياجات المختلفة لكل مجموعة فلسطينية حسب مكان وجودها وشكل الممارسة الاستعمارية ضدها. فيما يطرح بشارة استراتيجية تجمع الفلسطينيين في النضال من أجل تحقيق العدالة من دون تجاهل خصوصية كل تجمع فلسطيني.

وتتسم هذه الاستراتيجية بمزاوجتها بين حاجات الناس الحياتية وتنظيمهم والقيام بشؤونهم كمجتمع متمدن منظم وذي مؤسسات، وفي الوقت عينه تطاول جوهر القضية بوصفها قضية سياسية وأخلاقية لكونها قضية استعمارية غير محلولة.

وهذا يقود إلى مسؤولية التحليل والتنظير السياسي بطرح ما يستنكف قادة سياسيون عن طرحه خوفًا على رصيد شعبي يُغذى بالشعارات، أو حفاظًا على هوية التنظيم بصرف النظر عما يحققه من نتائج على الأرض. من هنا يمكن النظر لطروحات بشارة إزاء "صنمية الدولة" في التصور السائد في أوساط واسعة من الفاعلين الفلسطينيين، بصرف النظر عن جوهرها والمتمثل بالسيادة. رؤية بشارة، والتي طرحها منذ أوسلو، ترى السيادة أولا في موضوع الدولة، بعيدا عن التسميات الشعاراتية، فمشكلة إسرائيل ليست مع اسم الكيان الذي تسمح به خطة ترامب في حال وافقت القيادة الفلسطينية عليها، ولا يهمها مقدار التفخيم الذي يطلقه الفلسطينيون على كياناتهم، المهم هو انعدام السيادة في الجوهر بفقدان مقوماتها، والهيمنة الإسرائيلية في الممارسة.

ويمتد التحليل النقدي إلى مراجعة لأساليب النضالية التي جرّبها الفلسطينيون في ضوء ما حققته من إنجاز على طريق تحرير فلسطين من الاستعمار وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، هذه المراجعة التاريخية السياسية والمتسمة بالواقعية لا تساجل بشرعية الأسلوب النضالي والحق باستخدامه، فهذه ثابتة، بل تخضعه لسؤال الفعالية والنجاعة عند الممارسة. فكثير من الأساليب النضالية فرّغت من محتواها ورفعت كشعار، استخدم للحفاظ على ما تبقى من شعبية نضالية أو لمناكفة فرقاء الداخل، أو شعارات فقدت فعاليتها على الأرض من حيث هي مشروع نضالي جمعي مستمر باستمرار المشروع الصهيوني وخطواته.

ومن هنا كانت مراجعة الكفاح المسلح كفصل مجيد في النضال الفلسطيني ومكون مهم للهوية الوطنية، ولكنه اليوم غير قادر على تحرير فلسطين، وفي حالتي غزة ولبنان اعتراف واضح بدوره الدفاعي. ناهيك عن مسار المفاوضات، الذي بات الإصرار عليه مع فشله، استراتيجية لدى السلطة، تستخدمها في الصراع الداخلي مع حماس حيث يسخّر كل شيء في سبيل نكاية خصمها السياسي؛ حتى الفشل نفسه أصبح نكايةً، كما يقول بشارة.

كذلك تفصح الاستراتيجية كما يطرحها بشارة عن التمييز الواضح في الأدوار بين الشعب أو الفلسطينيين بعمومهم وبين الحركات السياسية والفصائل وقيادة السلطة والمنظمة، وهذا التفريق مهم اليوم، حين تتملص القيادة أو الفصائل من أدوارهم النضالية المفترضة أو وضع برامج سياسية واضحة إلى منطق الحلول وانتظارها، ويتلبّس المزاج السياسي العام جدل عن الحلول الممكنة، لا النضال الممكن. وكذلك حين يتضامن فلسطينيون مع فلسطينيين آخرين كما في نموذج قرى المقاومة السلميّة، بدل أن ينخرطوا في نضال واحد متعدد المستويات كل حسب موقعه من خريطة الأبارتهايد الصهيوني. وفي سياق ذلك يفكك بشارة أوهامًا مستقرة لدى السياسيين الفلسطينيين حيال السياسة الإسرائيلية وتوجهات القوى السياسية وتوازناتها، ويفند نقاشات مثقفين فلسطينيين ويهودًا إزاء "الحلول" للقضية الفلسطينية، بإعادة الاعتبار لمبادئ أولية في النضال من أجل العدالة، تفضي إلى خيارات أو ممكنات مختلفة على مستوى الحلول.

أخيرًا، يتعالى هذا "المشروع" النظريّ في تركيبه، العمليّ في إمكانيته، على الطابع السجالي المسيّس-غير السياسي- في تناول الوضع الفلسطيني، حين يضع المشروع الصهيوني بصفة عامة هدفًا للمواجهة النضالية في الممارسة، وفي الفكر أيضًا.

وتتعزز أهمية هذا النموذج الموجه للفلسطينيين جميعهم في كل مكان، ومعهم كل ديمقراطي حول العالم يؤمن بالعدالة والحقوق الوطنية الفلسطينية، كونه يأتي في وقت تستنكف فيه حركات سياسية جماهيرية وقيادة السلطات الفلسطينية عن مخاطبة شعبها بطرح شامل صادق يليق بجسامة ما تواجهه القضية الفلسطينية والفلسطينيون اليوم.