تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قضية عزمي بشارة

2007-06-19

علي الخليلي

لا تتوقف القضية التي تثيرها إسرائيل الآن، حول الدكتور عزمي بشارة، عند هذا الـمفكر الوطني والناشط السياسي الكبير وحده، في الـمجتمع العربي الفلسطيني داخل حدود العام 1948، بل تتجاوزه أو تؤسس عليه لشمول هذا الـمجتمع كله، في سياق منهجي لها متراكم على مدار عدة أجيال.

والى ذلك، فإنها ليست قضية جديدة. وإنما هي الأقدم في تاريخ إسرائيل، تتحرك ما بين حين وآخر، وفق حركة الأيديولوجية الصهيونية منذ نشأة إسرائيل قبل تسعة وخمسين عاما، إلى حينه، في إطار رؤيتها لـمعايير "التعامل" مع "هؤلاء" الذين بقوا من العرب الفلسطينيين، راسخين في وطنهم، رغم الـمذابح التي ارتكبتها بحقهم في العام 1948، وفي الأعوام التي تلته أيضا. وهي في كل مرة، تختار لها، من داخل هذا الـمجتمع الذي تعتبره "أقلية معادية"، شخصية معينة ذات حضور قوي ومؤثر، توجه لها الضربات الـمتتالية التي تقصد بها أساسا ضرب نمو وطموح الهوية الوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل، في إطار محاولاتها الـمتكررة لإبقاء هذه الهوية ممزقة ومتهالكة، أو مضطربة ومشوشة تحت مخالب وأنياب الأجهزة الأمنية.

تقوم الـمعايير الإسرائيلية الصهيونية بشأن هذا "التعامل" على قاعدة ثابتة هي أن إسرائيل دولة يهودية بحتة، أي أنها دولة لليهود وحدهم، دون "أغيار" ودون "غرباء". وهو ما يعني تلقائيا أن العرب الفلسطينيين الباقين تحت حكم هذه الدولة، أغيار وغرباء لا يحق لهم التمتع بديمقراطية دولة اليهود، حتى وهم يحملون جنسيتها الإسرائيلية. وفي التطبيق العملي لهذا الـمعنى، أخضعت إسرائيل هؤلاء "الأغيار والغرباء" الذين صاروا يحملون لقب أو صفة "عرب إسرائيل" لحكم عسكري فاشي وعنصري، لـم ترفعه عنهم إلا في مطلع السبعينيات. غير أن هذا الرفع الذي اضطرت إليه إسرائيل بعد نضالات وطنية عديدة خاضها "عرب إسرائيل"، لـم ينعكس بأدنى استجابة جدية لحقوقهم ومطالبهم.

ومع تكاثر هؤلاء "العرب" بالولادات الطبيعية، ليصل عددهم إلى حوالي مليون نسمة، ضمن وعي وطني متصاعد بينهم، في الإصرار على النضال الـمنظم والـمتماسك ضد العنصرية االصهيونية التي تطوقهم من كل جانب، تكاثرت بالـمقابل، في الذهنية اليهودية الإسرائيلية، أبعاد ومعالـم ما سمته هذه الذهنية ذاتها "القنبلة الديموغرافية". وهي قنبلة عنصرية تماما، ترى في التزايد السكاني العربي الفلسطيني داخل إسرائيل خطرا داهما على "دولة اليهود" في مستوى قنبلة "ذرية" سوف تنفجر في السنوات القادمة، وتقضي على كل أحلام اليهود بدولتهم الخاصة بهم وحدهم.

مئات الكتب والدراسات والأبحاث الإسرائيلية صدرت ــ ولا تزال تصدر ــ حول هذه القنبلة. وعلى وقعها، نشأت أحزاب صهيونية تطالب بالتصدي الإجرائي الـمباشر لها قبل انفجارها الـمدوي. وأهم عناصر هذا الإجراء تكمن صراحة، بتهجير "عرب إسرائيل" إلى خارجها. ولا بد من البدء فورا، إن لـم يتم هذا التهجير الآن، حسب هذه الأحزاب، بمنع هؤلاء "العرب" من الإفادة من الديمقراطية الإسرائيلية التي توصل بعضهم إلى عضوية الكنيست، بحرمانهم من هذا الوصول، ومحاصرتهم وخنقهم بقوانين استثنائية في عنصريتها البارزة تخصهم وحدهم، باعتبارهم "خطرا استراتيجيا" على إسرائيل.

وقد جاء مصطلح "الخطر الاستراتيجي" مؤخرا، بوضوح عدائي كاسح، على لسان رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) يوفال ديسكين، إثر الاجتماع الذي تم بينه وبين رئيس الحكومة إيهود أولـمرت، وتمحور حول "العرب الفلسطينيين مواطني الدولة"، وفق ما نشرته صحيفة معاريف الإسرائيلية في 13 آذار الـماضي.

ويمكن القول إن قضية الدكتور عزمي بشارة رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي وعضو الكنيست،أثيرت (أو انفجرت على الأصح، في وسائل الإعلام الإسرائيلية)، مع إثارة/انفجار هذا الـمصطلح الـمرتبط حسب هذه الوسائل، بفكر بشارة نفسه وحيوية هذا الفكر داخل حزبه وخارج هذا الحزب على حد سواء، وبخاصة دعوته لأن تكون إسرائيل "دولة لجميع مواطنيها" وليست لليهود وحدهم. وهي الدعوة التي لاقت قبولا واسعا وسريعا وسط "الأقلية الفلسطينية"، في الوقت الذي أصابت فيه الـمجتمع اليهودي الإسرائيلي كله تقريبا، بالذعر والارتباك.

الآن، تحاول إسرائيل بجميع أجهزتها ومؤسساتها السياسية والأمنية والإعلامية، ضرب هذه الدعوة في مهدها، أو إرهابها وتخويفها على الأقل، ومنعها بالتالي، من التحول إلى "عقيدة وطنية" فلسطينية داخل حدود العام 1948، من خلال ضربها للدكتور عزمي بشارة، بكل الوسائل والأساليب التي تملك فيها خبرة واسعة، دون اكتراث من جانبها بأي قانون وأية شرعية في هذا الشأن، كما هي عادتها أصلا، في كل الشؤون الـمتعلقة بصراعها مع الفلسطينيين، في الداخل أو الخارج سيان.

وقبل أن نسأل عن الخطوة الإسرائيلية القادمة، بعد كل هذا "التفجير" الإعلامي في هذه القضية، لا بد لنا من التذكر الهادئ والـمطمئن، أن إسرائيل التي فشلت في كل محاولاتها السابقة لتذويب أو تحطيم أو تشويش الهوية الوطنية الفلسطينية في الجليل والـمثلث والنقب، سوف تفشل أيضا في محاولتها الراهنة، لسبب واحد لا يزال مستمرا منذ ستة عقود، هو أن الفلسطينيين الذي بقوا في وطنهم منذ العام 1948، باقون في هذا الوطن إلى الأبد، حيث لا وطن لهم سواه، ولو تحت حكم إسرائيل.

ويطيب لي في هذا الـمقام، أن أتذكر ما كان أوصى به أديبنا الكبير الراحل إميل حبيبي أن ينقش على رخامة قبره "باق في حيفا". وقد بقي فيها حقا. فلـم يرحل إلا لـمزيد من الثبات على أرض الوطن، حيا وميتا.

الأيام الفلسطينية