تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قراءة في فكر الدكتور عزمي بشارة السياسي (2/2)

2012-10-31

الكاتب: د.رمضان عمر
المصدر: المركز العربي للدراسات والابحاث

شكلت الثورات العربية انقلابا كونيا في إستراتيجية التفكير العربي، ومنعطفاً خطيراً في رؤية العالم لهذا التغير الاستراتيجي، وبقي العالم مشدوها مترددا أمام توصيف علل و مآلات هذه الثورات؛ فمن رابط لها بمشروع عالمي، تحركه قوى نافذة، مستندا في تبريراته إلى مقولات ربما فسرت عمليا بما يحدث في ربيع الثورات العربية، كمقولات (رايس) عن الفوضى الخلاقة وغيرها. وآخر يرى فيها استجابة طبيعية لتراكمات عديدة أوصلت الوضع إلى هذه المرحلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تبريرات الحكام جاهزة للذود عن (الدكتاتوريات المتسلطة) ذات السمعة السيئة في ذاكرة الشعوب، وكانت نظرية المؤامرة واحدة من (فزاعات) التخويف والتخوين، التي عزف على وترها كل الحكام بلا استثناء؛ ففي تونس اتهم المخلوع (زين العابدين بن علي) وحزبه التجمع الدستورى أحزاب المعارضة، وخصوصا التيار الإسلامي (حركة النهضة) باستغلال الاحتجاجات الشعبية، مع أن شعلة الثورة لم تكن من خلال تصور إسلامي؛ حيث قام الشاب التونسي (محمد بوعزيزى) بإشعال النار في نفسه احتجاجا على البطالة، و تعرّضه للصفع والبصق على الوجه من قبل شرطيّة، لكن التخوف من الإصلاح (الذي لا يحمله إلا الإسلام) دفع هؤلاء للكشف عن الحقيقة التي تؤرقهم (من أن الإسلام هو الخطر الحقيقي على الدكتاتورات المعاصرة).

وعلى نفس الوتر جاء العزف الفرعوني في مصر؛ حينما حاول مبارك وأتابعه من تشويه صورة الحراك الشعبي في ميدان التحرير، وذلك بالقول بان وراء المتظاهرين فى ميدان التحرير أصابع أجنبية أمريكية وإسرائيلية وإيرانية وقطرية وحمساوية، محاولة زج موضوع القاعدة في هذه اللعبة؛ وذلك من خلال الادعاء أن عناصر أجنبية مندسة بين المتظاهرين، و كذلك محاولة الفصل بين الشباب المتظاهر وقوى المعارضة التي ينتمون إليها- أصلا- واتهام تلك القوى بركوب موجة التظاهرات للوصول إلى السلطة.

ولا يختلف الحال في كل من سوريا وليبيا واليمن مع تفاصيل في العرض الكاريكاتوري الكوميدي؛ حيث اتخذت نظرية المؤامرة شكلا غاية فى التهريج والسخف والسفه فى ليبيا عندما صور( القذافى ) والإعلام الرسمي الليبي تظاهرات الشعب المطالبة بالتخلص من حكم هذا الدكتاتور على أنها إنزلاقات شبابية لمتناولي حبوب هلوسة. وعلى منواله نسج الرئيس السوري بشار الأسد، الذي حاول أن يكون أكثر حضارة من أسلافه،مستغلا القضية الفلسطينية وكان الحراك الشعبي ضد الفساد حراك دبابات صهيونية على الحدود الشمالية؛ لكن دم الشهداء في الجولان كشف زيف ادعاءاته.

لكن قراءة أكثر واقعية وتطورا تحدثت عن دلالات وأسباب واقعية وراء هذه الثورات، رابطة ذلك بجملة من المتغيرات على مستوى المنطقة، ووصول حالة الغليان إلى أوجها مما سمح بذلك الانفجار البركاني الهائل.

ولعل قراءة المفكر العربي عزمي بشارة للأحداث شكلت واحدة من القراءات الملفتة للنظر،التي اتسمت بالدقة والعمق.لكن هذه القراءة- مع احتفاظها بقدر كبير من الدقة والموضوعية- إلا أنها انحرفت- في رأينا- بالتحليل السياسي عن حقائق جلية لعببت دورها الواضح في تشكيل هذه التحولات الإستراتيجية؛ غيبت بقصد منه؛ ذلك أن منطلقات بشارة الفكرية ترفض أن تجعل الإسلام محركا حقيقيا لهذه الظاهرة،وترفض أن يكون الفضل في هذا الحراك الشعبي للمشروع الإسلامي، المتمثل في الصحوة الإسلامية العالمية، ولعلنا نقف على جملة من القراءات التي تابعت هذه الظاهرة لنتبين حقائق التوجيه الفكري لهذه التحليلات.

نعم، هذه القراءة لم تكن بعيدة عن تصورات صاحبها الفكرية التي اشرنا لها في الحلقة الأولى،.فالرجل في قرأته للحدث لا ينطلق من مجرد تحليل للخبر بل يتجاوز ذلك للحديث عن إستراتيجية رؤيوية في الفكر الثوري،محاولا إسقاط هذه الإستراتيجية على الواقع من خلال تصوراته الأيدلوجية لمفهوم النهضة،ومن هنا؛ فإن المنطلق الأولي لهذه الثورات في قراءة بشارة ينطلق من التصور القومي المتجرد من احداثات الايدولوجيا التي فشلت في رأي بشارة قي تقديم إجابة لمسالة الضياع والتخلف العربي.فإذا كانت إحدى مبررات هذه الثورات رفض الواقع (الكراكاتوري) المتمثل في النظام العربي الهزيل،فإن نقطة أخرى تبرز في تحليلاته،تتمثل في اعتبار هذه الثورات رفضا للمنطق الحزبي في التغيير الذي فشل عبر سنوات في تقديم رؤية واضحة وحل ناجع في هذا السياق ؛ فجاءت ثورة الشباب متمردة على حكمة الشيوخ لتصوغ واقعا أكثر حيوية وانفلاتا من الأيدلوجية الفكرية.

لم تكن قراءات بشارة المنطلقة من أيديولوجيته القومية وليدة اللحظة،بل كانت ديدن الرجل، فهو يعتبر التيار القومي التيار الوحيد القادر على حل هذه الإشكالية ورأب الصدع العروبي، وحل إشكالية الوطن والمواطن، يقول في مقالة له ( سابقة): ( .... تنظيم التيار القومي على أساس ديمقراطي في المنطقة العربية بحيث يشكل بديلاً حقيقياً وليس مجرد حنين إلى الماضي أو شعارات لا تخاطب الواقع المعاصر للأمة العربية. وباعتقادي هذا كفيل بمنع فرز على الساحة العربية بين قوى راديكالية متطرفة دينية من جهة، وقوى موالية للأمريكان من جهة أخرى. وأنا لا ألوم القوى الدينية الحركية أنها لا تطرح خطاً من النوع الذي نريد لأننا نحن الذين يجب أن نطرح فكرنا وبرنامجنا وليست هي - ولا يفترض أن نلومها إنها لا تطرح مواقفنا - وباعتقادي من الضرورة وضع تصور أساسي في التيار القومي الديمقراطي في مخاطبة قضايا العصر وتحدياته المرحلية وحاجات المجتمعات وتجديد الفكر القومي والبرامج السياسية وهذا ما حاولت أن أقوم به في محاضراتي الأخيرة).(1)

القضية الثانية التي تتجلى في قراءة الرجل للحدث تنقلنا إلى عالم النقد الأدبي،حين تتشكل هذه الشخصية على غرار "الراوي كلي المعرفة" الذي يوجه الحدث ويكشف الأسقف، وينقل ب(كمرته الخاصة) مجريات الأمور ومكنونات الأحداث متكئا على ذلك النفس القومي الصارخ الذي جعل الرجل يعطي نفسه الأحقية في التنظير ليصرخ عاليا في رسالة له موجهة للشباب الليبي ".

(انتم أحفاد عمر المختار بحق وهو حفيد موسولويني المعنوي. هذا النظام هو وصمة عار في تاريخ العروبة. وقد أساء للفكرة العربية أكثر مما أساء لها أعداؤها جميعا. وهو وصمة عار في تاريخ العقل العربي بنرجسيته واستخفافه بعقول الناس. الغريب ليس أن يسقط. الغريب كيف بقي كل هذه المدة. سوف يسقط ولكنه سيكون دمويا لان ليس لديه روادع أخلاقية أو اجتماعية أو عقلية، ولأنه ليس لديه مؤسسات، ولأنه مريض بجنون العظمة. والأهم من هذا كله لأن المعركة بالنسبة له هي معركة حياة أو موت. فهو لن يجد من يستقبله حتى إذا هرب....سيكون دمويا ولكنه سوف يسقط. المهم أن تنهض طرابلس وتتجاوز حالة الخوف المفهوم طبعا).(2)

البعث القومي يشكل أساسا في شعلة الثورة،هذا البعث في رأي بشارة- نسخ مرحله ايديلوجية أمنية مثلت سمة عامة لما عرف بالنظام العربي: (انتهت مرحلة عربية. وقد تميّز فصل الختام الطويل بالتخلص حتى من المظهر الإيديولوجي، وبتقارب شكل الأنظمة العربية حتى انتهت إلى مركّب يكاد يعم عربيا لتشترك فيه الجمهوريات والملكيات. وتشمل عناصر هذا المركب أسرا حاكمة (بحزب، أو من دون حزب)، والأجهزة الأمنية التي دخلت السياسة بشكل علني، ورجال الأعمال الجدد، الذين يختلطون في علاقات القرابة والمصاهرة والصداقة مع رجالات السياسة والأمن. لقد نشأت طبقة حاكمة جديدة, وبدا لفترة كأن هذه الخاتمة هي المستقبل القاتم ذاته).(3)

وإذا كان الواقع الدكتاتوري قد شكل سمتا مشتركا في كافة الأنظمة العربية؛ فان المساحة المتاحة للفروقات الفردية ضيقة،وتكاد تتمثل في تلك الن سب المتفاوت فقط،فنراه مثلا يحدد جملة من خصائص النظام التونسي التي ساعدت على اشتعال الثورة، فيقول: (النظام التونسي هو أيضا نظام بلا قضية. دكتاتوريته رمادية لا صلة لها بمزاج الشارع والرأي العام. وقد بدا غير مبال بشكل كامل بالقضايا العربية، ورتّب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو، وجعل قبلته الشمال بشكل سافر وعلني. ولم يكن لديه ما يتباهى به سوى العلمانية التي عمت أعين الكثير من المثقفين والفنانين وغيرهم عن رؤية طبيعة النظام الحقيقية. فالعلمانية لا تكفي للتدليل على شيء، وهي ليست نظام حكم، ولا هي سياسة اقتصادية اجتماعية. وتوسعت الفئات المتضررة منه المتدينة والعلمانية على حد سواء، والمجتمع التونسي مجتمع متجانس لا يتحوّل فيه الصراع بسهولة إلى صراع طائفي أو عشائري. ولا تتحوّل فيه الصراعات الطبقية والسياسية إلى صراعات على مستوى الهويّات الجزئية).(4)

أما فيما يخص الوضع المصري فإن عدة (عقود من تراكم الشعور الشعبي بالقهر، انتفض الشعب المصري أخيرا ضد النظام الحاكم. لقد ربطت غالبية الشعب ما تتعرض له بطبيعة النظام الحاكم. وأصبح النظام عنوان المرارة من الظلم في أقسام الشرطة ومن الفساد في المعاملات الرسمية ومن الشعور بالفاقة في ظل الإثراء بواسطة الفساد والتقرب من ذوي السلطة)(5) هكذا يصور بشارة الحراك الشعبي وهو تصور ينسجم تماما مع منطلقه كما بينا سابقا.

لا يخفي بشارة منطلقاته الايديلوجية التي غذيت بالفكر اليساري الذي تربى عليه في صغره،فهو يرفض أن تكون بواعث هذه الثورات دينية آو لها علاقة بمفهوم الصحوة الذي يقدمه الإسلاميون،فهي ثورة شعبية خالصة،ثورة الكادحين، لكن الكادحين المتنورين الذي تلمسوا طريق المعرفة، عبر مفهوم الحرية والديمقراطية والانتماء.

ففي تعليقه على الثورة المصرية تحديدا يقول : (كانت الثورة المصرية عفوية وانضمت إليها القوى السياسية ذات الحيثية الشعبية بشكل طبيعي. وهي الآن في طريقها نحو الهدف ولم أسمع في تاريخ الثورات كلها عن ثورة أخرجت هذا الكم من المتظاهرين ضد النظام بشكل متزامن. لم تعد هذه الثورة بحاجة إلى أدلة بأنها شعبية، لكنها بحاجة إلى تصميم وإستراتيجية للوصول إلى الهدف، فالنظام المصري يقاوم مصيره المحتوم بوسائل عديدة، من ضمنها ترويج الأكاذيب والتخويف من الفوضى وادعاؤه قبول مطالب المحتجين حين يلزم وادعاؤه أنهم جواسيس حين يلزم وقمعهم حين يلزم.

لقد أخرجت الثورة المصرية من الشعب أفضل ما فيه، وأظهرت صورة من التمدن والتنوع والحوار والتواضع غير مألوفة في الحياة السياسية المصرية في ظل النظام. فمتى سمعنا آخر مرة خطيب يوم الجمعة يتحدث عن ملايين المصريين والمصريات أو يتحدث عن أخلاق الإسلام والمسيحية، ومتى رأينا هذا الكم من الرجال والنساء المحجبات وغير المحجبات دون ظواهر التحرش، ومتى رأينا الملايين تُنشد سوية وتسير في مظاهرات منظمة من دون فوضى؟).(6)

أما فيما يتعلق بالنظام السوري تحديدا، فقد كان الرجل حذرا، لكنه- أيضا- كان جريئا فقد كشف عن حتمية التغيير،ولم يحاول أن يبرئ النظام وإن لم يجرمه بنفس المنطق الذي جرم به النظم الأخرى، ربما لأنه كان يعتقد أن النفس الثوري آو القومي في هذا النظام البعثي كان يمكن أن يستجيب للمنطق الثوري، فيحدث إصلاحات وتنقذه، لكن النظام السوري لم يجيب ظن الجماهير وكشف عن حقيقة بنيته الدكتاتورية،يقول بشارة "لا يمكن أن يستمر النظام السوري على حاله، وكان عليه إما أن يتغير أو يغيره الشعب السوري. وقد اختار النظام ألا يتغير، ومن هنا فسوف يغيّره الناس)(8).

في الختام، لم تكن الغاية من هذه الدراسة الرد على واحد من المفكرين، بقدر ما هي استقراء حالة من حالات التحليل السياسي لواقع عربي ، تلك القراءة التي قدمت من مفكر عربي، لا ينطلق في تصوراته من الفكر الديني الإسلامي ، لكنه يشعر بانتماء ما إلى هذه الأمة، هذا الانتماء يلتقي في نقاط كثيرة مع غايات التصور الإسلامي، لكن الإخفاق في التصور ينشأ عن المنطلق العقدي الذي يحرك ذلك التحليل.

وأنا إذ أقدم هذه القراءة اعترف أنني انطلق من تصور فكري يشدني إلى مربع الايديلوجيا (الإسلام) لكني حاولت أن أكون منصفا؛ من خلال قراءة موضوعية لما قاله الرجل؛ لذا اسأل الله أن أكون قد تحريت الإنصاف فيما كتبت، وان يغفر لي إن زللت.

------------------------------------

المراجع:

  • 1) مجلة الوعي العربي ، الأحد 2/9/2007م. نقلا عن صحيفة الثورة السورية.
  • 2) رسائل عزمي بشارة لشباب ليبيا، موقع الوان: http://alwan.co.il/article.php?ID=7893
  • 3) د.عزمي بشارة،بصدد ثورة تونس الشعبية المجيدةـ الجزيرة نتالموافق 17/1/2011
  • 4) المرجع السابق.
  • 5) دكتور عزمي بشارة ، الثورة المصرية الكبرى.. آفاق ومخاطر،الجزيرة نت ، لسبت 1/3/1432 هـ - الموافق 5/2/2011 م.
  • 6) المرجع السابق.
  • 7) الثورة المصرية الكبرى: آفاق ومخاطر.. عزمي بشارة السبيل،الأحد، 06 شباط 2011
  • 8) عزمي بشارة، أفكار حول الثورة السورية تحديداـ الجزيرة نت،الجمعة 8/7/1432 هـ - الموافق 10/6/2011