تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة... نبيٌ مِنْ أنبِياءِ السِّيَاسَة

2009-05-25

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية 


شخصيا أدّعي أن كمائن التحفيز (الشخوصية) بيني وبين القضية الفلسطينية هي كاريزما الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأفكار الدكتور عزمي بشارة. فالأول كان يستحضر عفاريت العملانية والقومية والتوَثّب، والثاني يطرح أفكارا أليقُ من النضج نفسه وكأنّ النكبة قد حصلت بالأمس!.

حين تستمع لعزمي بشارة لا تستمع لسيمفونيات مُتكرّرة. هو يعيد إنتاج المشكل الفلسطيني بشكل سياسي وحقوقي متميّز، وكأن الملف الذي هو بصدده أولَى الأولويات ولا يزيد عمره عن أيام أو شهور وبالتالي تَجِب معالجته.

في أفكاره يغالب بشارة التعقيد والتراكم الذي شَحّب من وجه القضية الفلسطينية، ليبحث في أثناء مغالبته تلك على الجوهر والحقائق التي أُرِيدَ لها أن تغيب أو أن تُحجب لقدرتها على استدامة القضية بشكلها الحقيقي.

حينما يصف علاقة الأنظمة بالمقاومة الفلسطينية وبمنظمة التحرير لا يتحدث أكثر مما هو جدير أن يقال. كان يقول إنه وفي الوقت الذي تؤكد فيه «الأنظمة العربية على حق المقاومة إلا أنها تريد هذا الحق ولكن من دون مقاومة (مثل القهوة من دون كافيين)، وبات الاعتراف بمنظمة التحرير هو الهمّ الأوحد بدلا من التحرير بحد ذاته».

يلتزم عزمي بشارة منطوق الحقيقة دون مُواربة. وكان ذلك الالتزام الناسخ لغيره من الالتزامات الكارتونية (بالنسبة إليه على أقلّ تقدير) مدعاة لأن يدفع ضريبة سياسية واجتماعية وشخصية أنتجتها بثور الديمقراطية الصهيونية التي رمته وجذوره بحمم وليم دامبييه.

كان بإمكان الرجل أن يعيش على الخدمات المدنية وعرائض الالتماس في الكيان الصهيوني كما عاش ومات غيره، لكنه اختار البقاء في نخاع القضية، والتفكير بخيال يتجاسر على ما لم يسبق التفكير فيه. ورحل.

كثيرة هي القضايا (ومنها القضية الفلسطينية) التي استهلكت نفسها بفعل الأكلاف الباهضة وتداخل الأطراف المتّحدة والمتنافرة حولها أكثر من اللازم، ثم وصولها لحدود الدّين والثقافة التي تلعب كُمحدّد للسلوك الدولي، وأيضا لرؤى العقل الجمعي والفردي ليزيد الصراع أوارا.

بشارة أدرك ذلك بشكل جيد. وكان يُشير إلى أن الإشكال في القضية الفلسطينية هو أنها «وُضِعَت عند تخوم المسألة اليهودية، التي نشأت في سياق تشكّل الهويات في أوروبا وتعريفها لذاتها، هذه الهويات التي تحددت بالمواجهة مع الآخر في الداخل، أي اليهودي، ومع الآخر في الخارج، أي الإسلام».

لذلك كان يرى أن ديمومة حضور القضية هو بالمقاومة التي يرى أنها لا تهزم الكيان الصهيوني، لكنها تنتصر على عدوانه. وهو ما كان يُعبّر عنه بأن الصهاينة يحتفلون بعيد استقلالهم الحادي والستين وهم مشدوهون أمام شعب هو الآخر يُحيي ذكرى احتلال بلده الحادي والستين دون نسيان.

وهو في ذلك يُصرّ على حفظ الأمّة من داء «تشويه النفوس» حين يتمثّل السوري بقِطْرِيّة سورية وكذا اللبناني لأن ذلك «يؤسس لهويات مشوهة، فتظهر هويات فينيقية أو بابلية أو فرعونية، وهذه نفس العملية التي تقود إلى أن نتدهور من القضية القومية إلى الهويات الطائفية والمذهبية».

في اهتمامات الرجل المُلحّة (وغيره كثيرون في العالم العربي والإسلامي) هو الخشية من أن تُضيع الأمّة بوصلتها تجاه أعدائها. فَصَلْيَة الحرب لا تجوز إلاّ مع عدو أصلي، وليس وهمي يتم اختراعه بسبب تقاطع في المصالح أو النفوذ، لأن ذلك يحصل داخل النظام نفسه. تلك الخشية مردّها السعي الأميركي الصهيوني لتحويل البندقية العربية والقومية من تل أبيب إلى طهران. بل الأكثر أن بشارة يجهر بتمييعه للخيارات الدولية بشأن بلده. بل ولا يراها سوى عنصر ضعف للقضية «لأنه (الغرب) يعكس سعيا غربيا إلى التخلص من المسألة اليهودية المشكِّلة للهوية الأوروبية وتحويل عبئها إلى العرب» وهو بذلك يُناكف هندسة القانون الدولي الذي صاغته مفارز براغماتية الدول ونُظُم المصالح فيها.

الحقيقة هي أنه وفي أحوال المناهضة لمشروعات الهيمنة السياسية أو الثقافية يتوجب تقديم القرابين على مذبح حريّة الشعوب. كانت الحكمة الكولومبية تقول: «وطنٌ بلا أبطال إنما هو بيتٌ بلا أبواب». لكنه أيضا ليس بالضرورة حين يُوجد أولئك الأبطال (وهم بعدد النمل داخل الأراضي المحتلّة) أن ينال المكافحون ضد الاحتلال الصهيوني منالهم اليوم قبل حين آجالهم.

هم كغيرهم من المناضلين في أصقاع مختلفة من العالم وعلى مرّ العصور. دورهم لا يزيد على تقديم جزء أو كلٍّ مما يملكون في السياسية أو الثقافة أو حتى في العسكرتاريا لصالح القضية ليستمر المسار.

لذا فمن غير المعقول أن يُصرّ أحدٌ من منظمة التحرير الفلسطينية على أن يختزل قضية شعبه في مشاريع سياسية واحدة. المطلوب أن يبني الفرد منا حجرا ويمضي. كما بنى مالكوم إكس في ستينيات القرن المنصرف حجرا اتّكأ عليها باراك أوباما في العام 2008.

أعود كما بدأت. فربما هي الأقدار التي شاءت أن يلتحق عزمي بشارة بستة ملايين لاجئ فلسطيني بعد ستين عاما من النكبة، ليكون لسانا هارونيا للقضية. وعقلا يتغذّى عليه شبابها. وهما شرطان أصليان لديمومة النضال إلى جانب البندقية.