تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. عاشق ويكتب الشعر

2008-09-18

«نشيد الإنشاد الذي لنا» الوجه الآخر لكاتب سياسي

سعاد جروس

الوجه الآخر لعزمي بشارة، وجه العاشق والأب والأديب الذي يكتب الشعر والرواية، قد يكون أكثر ظرفاً من وجه المفكر المرهق والمشغول بهموم أمة بأكملها. وبمناسبة صدور كتابه الجديد «نشيد الإنشاد الذي لنا» حاورنا بشاره لنسأله عن الشاعر والروائي والإنسان الحالم الذي يسكن بداخله ويتخفى وراء أقنعة السياسة والتحليلات المتجهمة. عزمي بشارة يتحدث... ولكن عما لم يتحدث عنه من قبل.

«لم أعد انتظر إلا نفسي التي أطلبها بالهاتف «دليفري» أو انتظر في المقهى أن يوضبوا لي نفسي «تيك أواي» أو «دوجي باج» للثلاجة. وفي الليل حينما أكون وحدي أذيب الجليد عن نفسي في الـ «مايكرويف» كي أتمكن من استهلاكها».

بهذه اللمحة الاستعراضية يخرج قارئ «نشيد الانشاد الذي لنا» من معارضة الباحث عزمي بشارة الأدبية الحديثة لنشيد الانشاد للنبي سليمان. ففي هذا النص يكشف بشارة عن وجه آخر له غير الذي عرفه به الجمهور من خلال مؤلفاته الفكرية، وغير الوجه المعروف في إطلالاته في البرامج السياسية التلفزيونية. وجه يشبه ذلك الذي سبق وكشف عنه في كتبه «الحاجز» ورواية «حب في منطقة الظل». فالأدب أعطى بعداً آخر لشخصية الباحث الجاد، وصارت علاقته مع الناس «أكثر غنى» حسب ما يقول. فمن يقرأ كتبه: «يجد الشخص نفسه، وبالتالي الإنسان ـ اذا كانت لديه شخصية مستقلة - لا ينقسم إلى أفراد مختلفين، فهو واحد في الأدب والفكر والعمل، لكن التعبيرات مختلفة».

وربما لأن متعته الأساسية كانت: «في كتابة الفكر المجرد او الفلسفة وتاريخ الأفكار، وتشخيص الواقع كي يخدم رؤية سياسية نقدية لمن أراد»، ظلت مقاربته للأدب خجولة. فهو لم يكتب الرواية، بل اقترب منها في «الحاجز»، ولا يعتبر كتابه الأخير «نشيد الإنشاد» شعراً، بل اقتراب منه، ويصفه بأنه «نص أدبي إيقاعي»، شاعري، إلا أن هذا لا يمنع أن يشكل الأدب لدى بشارة: «رغبة تلح علي، وأحاول أن ألبيها». ومع التأكيد على أنها «متعة حقيقية، تساعد الإنسان على البقاء والاستمرار في الظروف الصعبة، خصوصا إبان حملات التحريض الصهيوني والملاحقات المستمرة».

لكن كيف يجد متسعاً لها في خضم معاركه السياسية وتنقلاته الكثيرة، خاصة بعد أن نُفي عن بلده: «مشكلتي أني لست ناقداً محترفاً، ولست أديباً محترفاً، أنا قارئ أدب وكاتب ولكني غير محترف، وحاجتي للكتابة الإبداعية الجمالية كبيرة». من هنا يمكن فهم شعوره بـ «فراغ كبير» بعد انتهائه من كتابه نشيد الإنشاد رغم انشغاله الحالي بكتاب فكري جديد. فالعمل الأدبي بالنسبة لبشارة -على ما يبدو- ما زال يدور في حيز «تفريغ عاطفي خارج الذات وتصوير حر للتفاعل مع الدنيا». و«يأتي الانشغال الأدبي بسبب أن هنالك مكامن في النفس لا يعبر عنها المقال السياسي ولا يعبر عنها التحليل الفكري، خصوصا تلك التعبيرات التي يختلط فيها العقل بالعاطفة بالحب بالحس الجمالي بحرية. فأنت لا تستطيع ان تسمح بأن يختلط العقل بالعاطفة بحرية في الإنتاج الفكري، والحس العاطفي والجمالي يظهران بحرية كعملية خلق حرة في الجانب الأدبي، خصوصا اذا كان ذلك على مستوى راقٍ، او ما يسمى (الأدب العالي)، وهو لا يكتشف دائما في لحظة إنتاجه، ولكنه هو الذي يبقى».

خطوات بشارة المتسارعة نحو الكتابة الأدبية، تشير إلى أنه يتجه نحو الاحتراف، وإن لم يجزم بذلك بعد. فهو يتعامل مع الأدب حسب تقديرنا للتعويض عن خصوصية مفتقدة في الحيز العام، كما هو الحال لدى الناشطين في الشأن العام. فالشهرة مهما بدت آسرة، لمن لا يتمتعون بها، تتحول إلى عبء ثقيل وقيود مزعجة، لا بل أن بشارة يشعر أنها في بعض الأحيان «إهانة» وبالأخص بالنسبة للشخص الذي لم يبن حياته على هذا الأساس. والمفارقة دائما أن الناس تراها تعبيراً عن المحبة والتقدير، وهو يراها كذلك ولكنها تصبح أحيانا بمثابة إساءة، كأن «يقبل علي شخص لم يقرأ لي أبداً ويقدرني، ليس بسبب مواقفي او حتى إنجازاتي، بل فقط لأني مشهور».

فحين تحاول سؤال بشارة عن حياته الاجتماعية الخاصة وعن علاقته بالعائلة والأولاد، لا يأتي الرد سريعاً، وكأن الأمر يتطلب منه فرملة لأفكاره، وتوجيه الحديث في اتجاه مخالف غير مألوف، لا يجيد الخوض فيه كثيراً. ففيما يسهب الرجل في عرض الأفكار الفلسفية والسياسية ومناقشتها من مختلف الجوانب، تراه يقتضب عند الحديث عن الأولاد والعائلة والأصدقاء. ونكاد نندهش من قوله انه حين يكون في البيت يحاول استغلال الوقت لمنحه بالكامل للأولاد، وقد ينهمك بتدريسهم وتمليتهم فروض الإملاء مثله مثل أي أب آخر!! هذا الوقت مهما بلغ من الاتساع يبقى أقل مما يرغب. ويقول ممازحاً كناية عن كثرة تغيبه عن البيت في الماضي في فلسطين، إنه قد يضطر للقول لأبنائه ليشجعهم على التعامل معه: «أنا البابا لا تستحوا مني».

عدا ضآلة مجال الحياة الخاصة، هناك فارق السن بينه وبين أولاده نتيجة زواجه المتأخر ما جعل علاقته بأبنائه تبدو كـ «علاقة جد بأحفاده»، إلا أن ثمة شيئاً إيجابياً من حيث إن الأب البالغ النضج (الجد) يتعامل مع أبنائه بروية، دون الحاجة للقوة وإثبات الهيمنة الأبوية. الدردشة حول حياته الخاصة تمر سريعاً، لكنها تعطي بعض الملامح الخفية عن المرجعية التي تجعل نصوصه الأدبية زاخرة بالمفردات الشبابية الحية، كفرد منخرط في هذا المجتمع، يراقبه بنظرة المفكر الثاقبة وحساسية الأديب المرهفة، ويعبر عنه بلغة (مودرن): «هذا واقع موجود لا يمكن وصفه اليوم بأدوات قديمة لكن هناك دائما معايير للغة الجمالية».

فـ «حدة النظر ناتجة عن العمل الفكري» والأدب برأي بشارة يتطلب خفة بمعنى الرشاقة والسلاسة في التصوير والوصف، ويتطلب أيضاً بداهة ورهافة حس، في حين أن التحليل الفكري يعيقه، لذا فهو حريص على عدم تدخل «الأدوات الفكرية في الأدب» لأنها حين تدخل فيه «تخربه» وربما هذا ما يجعل كتابة الأدب صعبة لدى بشارة أحياناً.

في نصوصه الأدبية يُظهر بشارة تفهما للعصر ينأى عن الاستنكار والاحتجاج اللذين يسمان عموما لغة الأبوة، فهو يقرأ من خلال الـ(أنا وهو وهي) انعكاس ثقافة الاستهلاك وتحولات نمط العيش، لدى جيل يصفه بشارة بـ «جيل تائه» مع أن لديه أحلامه الكثيرة، روايته «حب في منطقة الظل» يتناول من خلال حوارات شاب وفتاة عبر «التشات» مفاهيم الوطن والشتات والحب، وقد لاقت اهتماما كبيرا من الشباب، لاقترابها من عالمهم والأفكار التي تؤرقهم. وفي نصه نشيد الإنشاد يتتبع نمط الحياة المعاصر وتمثلات الاندماج في النمط الاستهلاكي (مجمع السوق) وعمليات التجميل (السيلكون) والغناء (الفيديو كليب) و(دليفري) و(تيك أواي).. إلخ من مظاهر وظواهر، يتم وصفها في تعبيرات وجودية عاطفية، يوضح الموقف منها.

( ضاقت نفسك بالتقاليد/ فغادرت حيّك صاغرة للتقاليع/ وعدت اليك/ متمردة عليها).

(ما أحسنك دون لغو المقادير/والفيتامينات وقشور الخيار/

المجتمعة في صباحية إفطار/ في مقهى مجمع تسوق).

ما بين نشيد النبي سليمان التوراتي الذي يحتفي بالطبيعة والحب والحياة، ونشيد عزمي بشارة العربي الفلسطيني الحديث، الذي يحتفي أيضاً بالطبيعة والحب والحياة، لكن بلغة مشبعة بالرثاء، فهو لا يستعير قالب نشيد سليمان وحسب، بل يحرره من الزمان الديني والمكان الجغرافي «القدس والتلال والمناطق المحيطة بها وسهل الشارون..الخ»، إلى مكان يمتد على طول الساحل السوري (من يافا وحيفا إلى صيدا وبيروت مرورا بطرطوس ولغاية اللاذقية)، كجزء من العالم العربي. فلا تنعكس الحدود الاستعمارية القائمة في نصه الأدبي إلا كعائق. فيقول بأنه «في نابلس أشم رائحة الحميدية».

وعلى الرغم من المفردات الدالة على فلسطينية النص، كالمستوطنات والشتات والهاجس الوطني المتماهي مع الهاجس الفردي، نقرأ مفردات أخرى تدل على هم عربي وإنساني عاصف ضمن فضاءات الخواء الثقافي والفكري والسياسي (صادفت أناسا يتباهون بحيازة رقم هاتف متسلسل أو نمرة سيارة متجانسة الأرقام، سهلة الحفظ كأنها إنجاز يعتد به. يجري هذا كله بسحنات جدية لا تبتسم حتى لتحسب حملتها يحملون المصائر).

الموضات أو التقليعات التي تسلع كل شيء في عالمنا، بما فيها الإنسان والأفكار النبيلة، تشغل حيزا كبيرا في «نشيد الإنشاد الذي لنا» ليكون بحق لنا جميعاً كبشر، وليس للفلسطينيين فقط، مقابل نشيد الإنشاد الذي للنبي سليمان. فرغم إمكانية قراءة الكتاب على خلفية الصراع السياسي العربي ـ الإسرائيلي، إلا أن اعتبار نشيد سليمان كنص توراتي جزء من الثقافة العربية كما هي النصوص المقدسة المسيحية والإسلامية، تدفع للنأي عن البعد السياسي رغم استحالة ذلك مع نص لهذا الكاتب تحديداً، رغم قوله... طيلة الوقت وأنا أكتب نشيد الأنشاد كان في بالي «العمل على صياغة أدبية جمالية لها علاقة بفضاء نشيد الإنشاد ولم اقدر البعد السياسي لاستعارته، أنا اعتبر ماضي هذه البلاد بما فيها نشيد الانشاد وغيره جزءاً من ثقافتنا وتاريخنا مثلما القرآن جزء من ثقافتنا وتاريخنا مع الانحياز للبعد العربي الإسلامي في النص وهو بوتقة الصهر المتأخرة في تشكيلنا الحضاري».

وبأي حال، وكما يمتلك الكاتب الحرية في التعبير يمتلك القارئ الحرية في فهم النص. ومن زاوية عربية، فإن بشارة نجح في وضع نص أوسع من التصنيفات التي سبق ووضع نتاجه الأدبي فيها. هو نص حب او نص غزلي بالمعنى الواسع للكلمة (كنت أحن إليه في بعده/ويحن هو إليه في ابتعاده/ كنت مأواه حين يخلد لي/ وطيف بيته حين يبتعد/ وحين أوجعه الشوق/ أوجعني مني ما يشتاق اليه).

تمكن بشارة من خلال مونولوج داخلي لحبيبة تناجي حبيبها، وحبيب يناجي حبيبته، وصديق لصديقه، أن يتكلم بلسان إنسان تتعرض إنسانيته للتهشيم اليومي، سواء في الأراضي المحتلة، أو في مجمعات التسوق، أو حتى في عيادات التجميل، ويكاد يقضي على التميز والخصوصية الفردية بدافع البحث عنهما.

(لم يرسب فيّ إلا/ طيف ما فقدت/ كأني أصبحت/ أنا ما فقدت).

التفرد الذي تروجه التقليعات في كل المجالات قضى على التمايزات الخصوصية، ليكون البديل المؤسف بحسب بشارة «إما تميز يشترى ويباع لكل الناس أو تميز في الهوية بمعنى شراء الآراء والمبادئ فتصبح التعددية هي تعددية مذهبية وطائفية وليست تعددية أفكار ورؤى تنعكس على تطور المجتمع». فهناك الآن «صناعة ثقافة وصناعة تميز وصناعة (بست سلير) ملحوظة في البلاد العربية يساهم فيها الإعلام وأشباه النقاد». والحل برأيه يتوقف على ما «يطرح من بدائل ومشاريع». فهذا «جيل مسكين» تعرض لانهيار المشاريع وتدفق الأصوليات على أنواعها، سياسات الهوية من ناحية ثانية وانتشار المجتمع الاستهلاكي بدون قيم، وكأن البديل «انحلال كامل في الحياة الاستهلاكية».

المصدر: الشرق الاوسط