تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. المثقف الجوهري الذي لا يشبه غيره

2008-12-26

فيصل دراج

كيف يمكن تقديم شخصية عامة ، مثل عزمي بشارة ، إلى جمهور عام؟ والجواب سهل ، طالما أن الشخص المقصود معروف ، لدى الجمهور ، اسماً ولقباً وجنسية ومواقف. غير أن السهولة خادعة ، فالعام لا موضوع له ، يريح البلاغة والخطابة والمديح ويضع الخاص جانباً. ولهذا ينبغي الانزياح إلى الخاص ، الذي يقول ما يميّز عزمي من غيره ، ويجعله صوتاً منفرداً ويعيّنة موضوعاً له أسئلة خاصة به.

ومع أن الانزياح من العام إلى الخاص يعطي الكلام مدخلاً ملائماً فهو ، بالنسبة لي ، لا يمحو الارتباك تماماً لأكثر من سبب: فهناك ، أولاً ، جمالية الأطياف التي يوقظها المفكّر عزمي ، الممتدة من لبناني - مصري يتحزّب للاستنارة والتسامح وتأسيس معارف جديدة يدعى: فرح أنطون ، إلى عربي سوري هتف طويلاً للقومية العربية يدعى: ساطع الحصري. دعا الأول إلى المجتمع المدني وحاور الشيخ محمد عبده وعالج الرواية والمسرحية ، وآمن الثاني بعروبة قديمة وحاضرة وقادمة ، وبوعي قومي ، إذا استيقظ صاغ مصير العرب من جديد. بين المتعدد النبيه ، الذي عاش في الربع الأول من القرن العشرين ، والمربي العروبي الذي كره التخلّف والتجزئه وشهد سقوط فلسطين ، تتراءى صور فكرية قليلة ، من بينها صورة عزمي بشارة.

يشير البعد الأول إلى نسق ثقافي ، يجمع بين الجديد المعرفي والاجتهاد النظري والرسالة الاجتماعية ، نسق مسؤول يشتد ويضعف ولا ينتهي ، فضمان استمراره من صحة رسالته. يشير البعد الثاني إلى فلسطين ، التي أعطت قبل سقوطها وبعده ، مثقفين يؤمنون بالعقل الفاعل ، ويؤمنون أكثر بأن العقل الفاعل ملكية جماعية ، لأنّ قيمة العقل من الأحلام الخافقة فيه ، تحققت أو مالت ، يوماً بعد يوم ، إلى الأسى. عرفت فلسطين ، ذات مرة ، روحي الخالدي ، المثقف المعجب بالثورة الفرنسية والناقد الأدبي الرائد في مجاله وممثل القدس في مجلس "المبعوثان" العثماني. وعاش فيها المربي خليل السكاكيني ، الذي آمن بـ "صناعة العقول" ، واعتبر المدرسة الحديثة "مصنعاً للرجال"... إلى هذين الإسمين ، وغيرهما ، يميل بشارة ، الذي كتب رواية لم يكتبها الخالدي ، وأعاد صياغة أفكار السكاكيني بمنظور معرفي أكثر تقدماً. يرهّن عزمي في خطابه أفكار نجباء سبقوه ، ويبرهن ، أن القول المفيد يمتد في غيره ، وأن بين الأفكار المفيدة حواراً ومؤانسة وتكافلاً في الدفاع عن وطن ، كان مهدداً ولا يزال. تستيقظ الأطياف ، في حفيفها الحزين ، مرة أخرى ، إذ روحي الخالدي يحمل دفتراً ويسجّل عدد المستوطنات اليهودية عام 1910 ، وإذ ناجي العلي يسهر على دالية في مخيم مريض في أرض لبنان ، وإذ عزمي يرفع صوتاً عربياً في كنيست إسرائيلي ، ويستمر في رفع الصوت إلى أن يقف خارج الوطن... مثقفون وقضية ، هم وجهها العادل ، في مواجهة مثقفين من لون آخر ، يرون في "استثمار القضية الوطنية" قضيتهم الأولى.

يتكشّف البعد الثالث في ما يمكن أن يدعى بـ "المثقف الجوهري" ، ذلك الذي يطرح أسئلة نظرية خاصة به ، ويحاول أن يعطيها إجابات لم يتقدّم بها غيره. فلا مجال للتكرار والمحاكاة ، ولا إلى وضع كتاب ، كُتب سابقاً بأشكال مختلفة. ولهذا عبّر عزمي عن وطنيته مرتين: مرة أولى وهو يستأنف ما طرحه الخالدي والسكاكيني ونجيب نصار ، ومرة ثانية وهو يضع الأسئلة في خطاب فكري يتسم بجدة كاملة... تضع هذه الجدة كلمة المثقف ، التي تعني شيئاً ولا تعني شيئاً على الإطلاق ، جانباً ، وتستدعي كلمة أخرى هي : "المثقف الجوهري" ، ربما ، أو "المثقفون الكبار" ، بلغة غرامشي ، أي تلك القلة التي تنتج الأفكار ، على مبعدة عن أكثرية تقول ما قاله غيرها ، بألف مرة ، وتشعر بالرضا.

ولعل هذا الرضا البليد ، أو عادة الكلام بلغة مدرسية مزركشة ، هو الذي يسمح لي ، من موقعي كناقد روائي ، أن أضيف إلى أبعاد عزمي بشارة بعداً آخر أدعوه بـ : "المحرض الفكري الإشكالي". فإذا كان البطل الإشكالي ، في نظرية الرواية ، هو الإنسان المغترب ، الذي وقع على واقع أقل مما يريد وأضيق مما يرغب ، فإن عزمي ، في إمكانياته الخصيبة المتعددة ، هو ذاك الفلسطيني المغترب ، الذي يوزّع ذاته على أكثر من مكان ويطوف في أكثر من زمن ، في انتظار التحرّر من الضرورة ، الذي يجعل الأمكنة مكاناً والأزمنة زمناً ، ويصالح بين المعيش والمرغوب. ولهذا يأخذ الاغتراب ، عند عزمي ، شكل المعركة ، حيث المحارب ينظر إلى ما كان وما سيكون ، متطلعاً إلى جسر محتمل ، يوحّد بين مكان الولادة والميلاد.

يستثير "العام" الخطابة التي تقيل الفكر من وظيفته وتحتفي بالتصفيق ، ويستدعي "الخاص" المفكّر المغترب الذي يحاور المأساة ولا يلتفت إلى الفرح. ولعل التفكير النظري ، الذي تحجب المفاهيم الدقيقة حزنه ، هو ما دفع عزمي إلى كتابة الرواية ، حيث للحزن موقع لا اقتصاد فيه ، وللفكر القلق المتوتر فضاء يبوح فيه ولا يقتصد في الشكوى. إنها فضيلة التعدد التي تبرهن أن العقل الإنساني الفاعل متعدد: يعمل في التنظيم السياسي ، ويحاور الفلسفة السياسية ، ويعالج الكتابة الأدبية ، ويفتح باباً على التاريخ والمؤرخين ، ويظل لديه نافذة على موضوع يشتهي ترويضه.

ولكن أين نرى ذلك "المثقف الجوهري" ، الذي لم يشأ أن يقول كلاماً قاله غيره؟ في منتصف التسعينات الماضية قرأت كتابه "المجتمع المدني" ، حين كان موضوع الكتاب منتشراً إلى حدود الابتذال. وإذا كان من اكتفى بعنوان الكتاب ، في تلك الفترة ، قد هجس سريعاً بكلمة "الموضة" ، فإن قارئ الكتاب المدقق استعاد تعبيراً مشهوراً هو: "الكتابة والسياق" ، أو "اللحظة التاريخية للمداخلة النظرية" ، فقد أراد صاحب الكتاب من كتابه أمرين: الرد على "المقاولين الفكريين" ، الذين أوحوا بأن قضية المجتمع المدني من اختصاص مثقفين يعبثون بالمفاهيم في غرف مغلقة ، كما لو كانت السياسة والمجتمع المدني والأخير موضوع نظري - سياسي ، اختصاصاً ضيقاً لمحترفي الكلام دون غيرهم. تمثل الأمر الثاني ، بداهة ، في إعادة الاعتبار للمفهوم ، الذي يقضي بالرجوع إلى تاريخه الفلسفي الطويل ، وإلى معالجته من وجهة نظر عربية في آن. فهذا المفهوم الحديث لا ينفصل عن جملة من المفاهيم الحديثة مثل: الدولة والشعب والديمقراطية والقومية... ، أي أنه سيرورة تاريخية طويلة بعيدة عن "الانبثاق السحري" والولادة المفاجئة. أكثر من ذلك أن الدفاع عن فكرة المجتمع المدني ، في شروط الدولة الضعيفة ، يعني ، لزوماً ، الدفاع عما يقوّي الدولة ، لأنه لا وجود لمجتمع قوي من دولة قوية ، لها مؤسسات لا تستطيع السلطات المختلفة أن تعبث بها.

هل وضع المؤلف كتابه ليعرض أمام قارئه حزمة كبيرة من مفاهيم الفلسفة السياسية الحديثة ، أم ليضيء الواقع العربي وإمكانية بناء المجتمع المدني فيه؟ يتضمن السؤالُ الجوابَ ، معلناً عن وحدة الفكر والعمل ، فلا ضرورة للحديث عن مجتمع مدني عربي ، قبل تأمل واضح لطبيعة العلاقتين معاً. ولن يختلف الأمر حين وضع عزمي كتاباً ممتازاً آخر عن "الاقتصاد الإسرائيلي" مترجماً إرادة سياسية جديدة ، تقول بما تعرف وتعرف الواقع التي تريد أن تفعل فيه. ومثلما ساجل "مقاولي المجتمع المدني" ساجل ، من دون صراخ ، نزوعات عشوائية فلسطينية ، تشير إلى اتجاه وتمشي إلى آخر ، قبل أن تصل إلى زمن مظلم تحلب فيه تيساً في غربال. كما أن منطق وحدة النظرية والممارسة قائم بدوره في قلب كتابه الأخير "المسألة العربية" ، الذي عالج فيه مسألة الديمقراطية في العالم العربي. فلا يستطيع الإنسان ، أي إنسان ، أن يطالب بديمقراطية خاصة به ، إلا إذا أدرك "من هو" ، وأدرك معنى الشرط التاريخي الذي جعل من المطالبة بالديمقراطية حديثاً يومياً. ربط بشارة بين مطلب الديمقراطية ووعي الهوية القومية ، وبين غياب الديمقراطية وإخفاق العرب التاريخي في بناء "قومية عربية حديثة".

والواضح في كل هذا وعي حاد بوحدة العمل السياسي والعمل النظري ، والواضح أكثر فكرة المشروع الوطني ، التي تجمع بين فلسطين لا تحيا ولا تموت وأمة عربية ليست أفضل حالاً. والواضح في الأمرين اغتراب واسع شاسع مديد ، لأن الواقع يمنع عن الفكر ما يريد ، ولأن الرغبة المتمردة تعالج "الإحباط الماكر" بوسائل متعددة. اغتراب نشيط قديم يحيل على سياسات المثقفين الحالمين بوصال سعيد بين دقة الأفكار وإيقاع الواقع ، منذ أن اعتقد طه حسين أن في المدرسة ترياقاً يشفي الأمراض جميعاً ، واعتقد قسطنطين زريق أن شرح أسباب الهزيمة الأولى يمنع الوقوف في هزيمة ثانية.

ومع أن في الكلام ما يشير إلى إخفاق يتلوه آخر أكثر اتساعاً ، فإن بشارة لا يميل إلى ثنائية التفاؤل والتشاؤم مؤثراً جدل: التحدي والاستجابة ، الذي يواجه المستجد بإجابات جديدة. ولعل عنف المستجد ، الذي يفيض عن اللغة النظرية ، هو ما دفع عزمي إلى الكتابة الأدبية ، التي تقول بشكل آخر ما قالته النظرية ولا تخشى من البوح والتنهّد الطويل. ولهذا كتب الرواية وحاول الشعر ، وأجاد في الحالين ، ناظراً دائماً إلى قول موحد ، بعيداً عن "الاندفاع الموسمي" والأهواء الذاتية. لكنه وهو ينتقل من اتساق المفاهيم إلى حزن الموضوع الأدبي لم ينسَ أن يساجل ، ولم يغفل عن الاستقصاء المعرفي: ساجل رواية فلسطينية أعلن الواقع الفلسطيني المحتل عن ضيق أفقها ، مستبدلاً بالبطل الوحيد عنف الوقائع المتعددة. وساجل قصيدة فلسطينية تخطئ المسافة بين الفلسطيني المحدد والإنساني العام. وأوغل في استقصاء أمراض الشعب الفلسطيني في روايته الكبيرة "الحب في منطقة الظل" ، مقدماً صورة مدهشة وحزينة عن شعب يريد السباق بقوائم من قش ، ودرس "مزامير داود" وأعاد صوغها شعرا ناقلاً الكلمة الشعرية من موروث إلى آخر ومقترحاً على الشعب الفلسطيني "مزامير" لصيقة بمعاناته وهويته وآفاقه وموروثه الأدبي.

عزمي بشارة مثقف بصيغة الجمع ، ينتمي إلى فرح أنطون وساطع الحصري والشيخ محمد عبده ، وينتمي إلى تجربة جماعية - فردية ، عاشها مع شعبه الفلسطيني ، وعاشها مع جهده الفكري الباحث عن جواب في زمن تتآكل فيه الآفاق. إنه وعي الاختلاف ، الذي يدرك أن ماهية المثقف من المثال الذي يسعى إليه ، وهو وعي الاختلاف المشبع بفضول معرفي ، ذلك أن وحدة اللغة لا تعني تماثل الأساليب. إنسان مختلف ، له مواضيع خاصة به ، وهو بذاته موضوع خاص ، لا يختلط بالعام الذي لا موضوع له. وهي سمة كل "مثقف جوهري".

ناقد ومفكر فلسطيني

* كان من المفترض أن تلقى هذه الكلمة في الجمعية الأرثوذكسية في عمان ، لكن ظروفاً حالت دون ذلك.