تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة..

2012-04-08

زهير أندراوس

لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال، اختزال ما قدّمته لشعبك ولأمتّك، بسبب موقفك من النظام السوريّ، وسيُثبت التاريخ للجميع ما كانت كتبته صحيفة عبريّة في وصفك: رجلٌ يُصارع دولة، عزمي، سترجع يومًا إلى فلسطين، وهذه ليست فرضيّة، هذه حتميّة..

عزمي، لا أُريد أنْ أُسّميك أيّ شيء، سأُسّميك كل شيء، كما قال شاعر فلسطين الأوّل، الراحل محمود درويش. سنحتفل يوم بعد غدٍ، الأحد، بعيد الفصح المجيد، ونحن، ما العمل، شئنا أمْ أبينا، نسير حسب التقويم الغربيّ، والغرب، كما تعلم، لم يألُ جهدًا في العمل على احتلال بلادنا، والتآمر على شعبنا الفلسطينيّ وأمتنا العربيّة.

***

أكتب هذه الكلمات، ونحن نُحيي أسبوع آلام السيّد المسيح عليه السلام، أميل إلى الترجيح بأنّك ستحتفل بالعيد مع أبناء عائلتك في منفاك القسريّ، ترشيحا قريتك اشتاقت إليك، اشتاقت كثيرًا، بشوارعها، بأزقتّها، بمسجدها، بكنيستها، بسكّانها، فلسطين موطنك، الذي ينزف دمًا ودموعًا منذ 64 عامًا، يحّن إليك، كما تحّن أنت إليه، عزمي، أنتَ من رحم الأمّة العربيّة خرجت إلى النور، ومن رحم الشعب الفلسطينيّ رأيت الحياة، وهذا ما كُتب لنا وعلينا، نحن أبناء هذا الشعب الجبّار، المنفى والشتات، التهجير والتشريد، القتل والذبح، جماعيّ وفراديّ، ومع ذلك، أوْ بالأحرى على الرغم من ذلك، ما زلنا نسير بهاماتٍ مرفوعة وقاماتٍ منتصبة، لأننّا أصحاب قضيّة عادلة، أصحاب حق، والقاصي والداني وما بينهما، على علمٍ وعلى درايةٍ، بأنّه لا يضيع حقٌ وراءه مُطالب، الزمان ليس مهمًا، كذلك المكان، فالحقُ حقٌ، لا يعرف الحدود الزمنيّة أوْ الجغرافيّة، أوْ الاثنين معًا، ولا يعترف بهما.

***

ربّما يسأل هذا، ومن الممكن أنْ تتساءل تلك: لماذا قررت أنْ أُوجّه لك هذه الرسالة، سؤال وجيه، إذا كانت النيّة صافيّةً، حقيقيّة بدون رتوشٍ. لم أتمكّن من تحديد السبب الذي دفعني إلى الكتابة، من غير المستبعد، لأننّي اشتقت إليك كإنسان، كعربيّ، كقوميّ، كفلسطينيّ، كمنفيّ من هذه الأرض الطيبّة، التي نعيش معها قصة حب متبادلة وأزليّة، نُحبها وتُحبنّا، الأمر الذي يزيدنا إصرارًا وثباتًا على التمسك بكل حبّة تراب فيها. وكما تعلم يا صديقي، فنحن نُعاني من مرضٍ مُزمنٍ نُطلق عليه اسم المزايدة الزائدة، فإذا كتبت وقلت الحقيقة، فإنّ العصابة المتخصصة في نشر هذا المرض، إنْ لم يكن الوباء، تُسارع إلى توجيه الاتهامات بأنّ وراء الأكمة ما وراءها، وبأنّ السبب في كتابة هذه السطور مرده النفاق والرياء، ولذلك أُعلنها صراحة وبصوتٍ عالٍ: إننّي على استعداد لتحمل الشوشرة والمهاترات والهمس والغمز، لأننّي أعرف ما لا يعرفه الأخر عنّي، ذلك أنّه لا يوجد على وجه هذه البسيطة كائنًا من كان، بقدرته منعي من قول الحقيقة الموضوعيّة، على الرغم من إيماني المطلق بأنّ الحقيقة هي موضوع ذاتيّ، نختلف عليه، ونُمعن في فلسفته.

***

لم أعشْ في المنفى، ولكن لا أعرف ماذا يخبئ ليّ ولأبناء جلدتي المستقبل المنظور أوْ غير المنظور، ذلك أنّه في ظلّ التطورات والمستجدّات في الشرق الأوسط بات الرهان على البقاء في الوطن أُحجية من غير الممكن، إنْ لم يكن مستحيلاً، فكّ أسرارها، فدولة الأكثريّة اليهوديّة، كما تعلم، معربدة ومارقة مع علامة الامتياز، وبما أنّ العلاقات الدوليّة محكومة وفق موازين القوى، فإننّا الطرف الضعيف في المعادلة، كعرب وكفلسطينيين، وبالتالي، وأنا متشائم سوداويّ، لا أنفي أنْ نتحوّل، نحن أبناء الأرض الأصلانيين في مناطق الـ48، إلى سلعة للتفاوض، ذلك أنّ من تُطلق على نفسها القيادة الفلسطينيّة، وافقت على مبدأ تبادل الأراضي، والدولة العبريّة تلقفت هذه الموافقة، وأقنعت المجتمع الدوليّ بأهميتها، وبما أننّا منذ قرن ونيّف نُصارع حركة استعماريّة كولونياليّة، أيْ الصهيونيّة، وصنيعتها إسرائيل، فإنّه من الجائز جدًا أن ترفع الأخيرة سقف مطالبها، بحيث يكون التبادل مع ضريبة القيمة المضافة: أي الأرض ومَنْ يسكن عليها، عندها سنُصبح كالأيتام على موائد اللئام؟ تخيّل، يا عزمي، وتخيّلوا يا رفاقي ويا أبناء شعبي، أنْ تكون المقايضة كالتالي: عرب الداخل مقابل لصوص الأرض والعرض في الضفة الغربيّة المحتلّة، الذين يُسمون بالمستوطنين. نعم إنّه سيناريو يبدو في هذه الأيام دون كيشوتي، خياليّ، ولكن مَنْ كان يؤمن بأنّ فلسطين ستضيع من أيدينا، فالواقع يفوق الخيال أحيانًا، والخيال يتفوق على الحقيقة لمامًا، ومع ذلك، في هذا الزمن الرديء الذي اختلطت فيه الأوراق، ونُهبت الحقوق، أصبح الفرق بين الواقع والخيال ضيُقًا.

***

لا أُريد يا عزمي، في هذه العجالة، أنْ أستعرض إنجازاتك التي صنعتها ورفاق دربك للمجتمع العربيّ الفلسطينيّ في الداخل، ولكن أسمح لنفسي أنْ أقول وأنْ أفصل أيضًا: كنت السّباق في مقارعة الصهيونيّة في عقر دارها، واجهتهم، الحجة بالحجة، الأمر الذي أثار حفيظتهم، ومبدأ دولة جميع مواطنيها أحرجهم، حشرهم في الزاوية، إنّهم لا يتحملون مفكرًا عربيًا ينتمي إلى شعب الله المحتار، خصوصًا وأنّهم يُسَمَوْن شعب الله المختار، وعندما توصّلوا إلى نتيجةٍ بأنّ أفكارك وطروحاتك باتت تُشكّل عليهم خطرًا، سارعوا إلى نسج المؤامرات والتخطيط للمكائد لإبعادك عن المشهد السياسيّ، فكان ما كان، وبت منفيًا في وطنك العربيّ، فأنت لا تعيش في الوطن العربيّ، إنّما الوطن يعيش فيك، وبعد هذا الحدث التراجيديّ باشر "الأصدقاء" قبل الخصوم في إطلاق الشائعات المغرضة، وهي بالمناسبة مبنيّة على المثل العربيّ العاميّ، ولكنّه الفصيح: طلّع صيتك وخبّي حالك، ومنذ خمس سنوات ونحن نُحاول صدّ الهجمة الشرسة من قبل الدولة العبريّة ومن قبل الخصوم السياسيين، ولكن لا حياة لمن تُنادي، التساوق بين التيارين أصبح وأمسى واضحًا وجليًا، وهنا تكمن المصيبة.

***

واندلعت ما يُطلق عليها اسم الثورة السوريّة، أعلنت موقفك، المؤيد لحريّة الشعب السوريّ، وهو ما يُجمع عليه كلُ ناطق بالضاد تسري في عروقه دماء العروبة، الخلاف أوْ الاختلاف معك كان بالنسبة للنظام، وأقوالك هزّت العالم العربيّ من محيطه إلى خليجه، وبطبيعة الحال، استأسد الانتهازيون في ذمّك وإلصاق التهم بشخصك. مضافًا إلى ذلك، باتوا يعزفون نشازًا على لحن تواجدك في قطر وإطلالاتك من على شاشة (الجزيرة) لإثبات نظرياتهم التي لا تستحق الردّ. الوقت عاملٌ مهمٌ في هذا الظرف، ونحن على ثقة، يا عزمي، بأنّك تعيش ظروفًا صعبة، كما أننّا على ثقة، بأنّك تملك القدرة والذكاء على اجتياز المحنة، ذلك أنّه على الجميع أنْ يعلم، ويُذوت أيضًا، أنّه لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال، اختزال ما قدّمته لشعبك ولأمتّك، بسبب موقفك من النظام السوريّ، وسيُثبت التاريخ للجميع ما كانت كتبته صحيفة عبريّة في وصفك: رجلٌ يُصارع دولة.

عزمي، سترجع يومًا إلى فلسطين، وهذه ليست فرضيّة، هذه حتميّة.

كلُ عام وأنتَ بخير.

المصدر: موقع كلام