تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

استمرارية مشروع دولة المواطنين وتداعياته الحالية

2012-04-01

*أمل جمال

ليس من السهل طرح منظومة فكرية ومشروع سياسي متكامل، خصوصًا في واقع تتظافر فيه الجهود لتغييب التفكير والعمل على بناء الذات وإعادة اللحمة لهوية مزقها التاريخ وغيبتها القوى السياسية الفاعلة في محيطها. كما أنه ليس من السهل بناء مشروع سياسي يتجاوز محدوديات الظروف المعيشية المباشرة والاقتناع بالحاجة لتطوير رؤية منقطعة عن بنيتها المادية المباشرة، بالرغم من أن المواجهة والتحدي هما عاملان أساسيان في بلورة الأفكار وتطويرها، إلا أنه من غير السهل إقناع مجموعة إنسانية أي كانت بأن تأكيدها لذاتها، كما تمت صياغة هذه الذات على مدار عقود، ما هو إلا نفي لوجودها ومساهمة في تقبل شرعية قطعها عن تاريخها وبالتالي تفكيك مقومات وجودها.

إن تطوير مشروع وجداني يتعامل مع مركبات الواقع المعقد ويحول مجمل الأفكار السائدة إلى مشروع سياسي متكامل ومتجانس لا يمكن إلا أن يأتي على مراحل، والمواظبة في بنائه تتأثر بتغيّر الظروف، العامل الذي يؤدي إلى تضاربات ممكنة في المنظومة الفكرية ليس لعدم تماسكها أو عدم اتساقها وإنما لكون الواقع هو العامل الأساسي في تطوير الفكر السياسي الذي بتقلباته وتحولاته يلزم تعديلات وملاءمات من الممكن أن تؤدي إلى تساؤلات حول بعض الأفكار أو المقولات، ونوعية وكيفية تماشيها مع بعضها البعض.

كما أن وضع النقاط على الحروف ليس بعملية سهلة عند الحديث عن تطور الفكر السياسي. فكم من الزمن تطلب زيادة النقاط على أحرف اللغة العربية! هذه المدة الزمنية لا يمكن إلا أن ينظر إليها على أنها فترة مخاض كانت مبطنة في أعماق التاريخ غير مرئية ولكنها موجود بالقوة حتى وإن لم تكن بالفعل. فالفكر الإنساني هو عملية تراكم، تبنى من أحجار وأعمدة فكرية قائمة ولكنها لم تأخذ شكل بناء إلا من خلال شخص محدّد، استطاع أن يخترق الواقع الملموس إلى المركبات الفكرية المبطنة فيه ليخرجها إلى حيز الواقع ويبلورها كمنظومة متماسكة لها مظهر البناء. وما أسهل مهاجمة البناء الملموس وما أصعب طرح بدائل له في حال تحول إلى جزء لا يتجزء من الوعي الجيو-فيزيائي وبالتالي الوجودي.

إذا ما أخذنا هذه المقاييس ونظرنا بواسطتها إلى معظم، إن لم يكن كل المفكرين السياسيين، على مدار التاريخ فنرى بأن هنالك تناقضات وعدم تكامل في منظومة فكرهم في بعض الأحيان، كما نرى محاولات للتغلب على تناقضات ممكنة في أفكارهم بعد عملية تأمل ذاتيه معمقة. لكن التناقضات لا تفسد كون منظومة أفكارهم ذات زخم وتأثير وتحدٍ. كما أن جدلية العلاقة بين أفكارهم وتبدل ظروفهم الحياتية، خصوصًا إذا ما كانت قسرية، يمكن أن تتحول إلى إشارة لحيوية مشروعهم السياسي ولاتساقه وواقعيته وعدم انقطاعة عن واقعه.

هذا هو منطلق تحليل الأفكار الموضوعي والحقيقي في مجالات الفكر الإنساني، القاصد الفهم والتبحر والتعمق وليس المناكفة والمساومة والمشادات. كما أنّ هذا هو المنطلق الذي يمكّن الوصول إلى تجسير إجرائي على الأقل بين مشاريع سياسية وفكرية متنوعة، ومتضاربة في بعض الأحيان، من أجل التوصل إلى تلاحمات ماهية وعقيدية ممكنة تمنح هذه المشاريع منحى متماسكًا ومنهجًا موحدًا.

إن الفكر السياسي العربي في الداخل الفلسطيني مرّ بمراحل عديدة وما زال متقلبًا ويشكي من تناقضات وتفسخات من الصعب تجاوزها في بعض الأحيان. وعند النظر إلى مجمل الفكر السياسي العربي من خلال مقياس شخصي يبدو بأن المنظومة الفكرية التي طرحها عزمي بشارة ما زالت الأكثر تماسكًا وحدةً والأكثر عمقًا والأوسع أفقًا. لا يعني هذا بالطبع بأن هذه المنظومة الفكرية لا تعاني من نواقص معيّنة وبأنها لم تتقلب على مدار السنوات، بل على العكس، هذا ما يمنحها حيوية ويعطيها قوة واستمرارية في مواجهة أفكار وانتقادات لها. وبما أن الفكر لا يجب أن يخضع للحسابات الشخصية فلا بد من محاولة التساؤل عن مكانة الأفكار التي طرحت قبل أعوام قليلة على الواقع السياسي اليوم.

إذا ما ألقينا نظرةً إلى هذه المنظومة الفكرية لا بد من القول إنها ما زالت تلعب دورًا مهمًا في المجتمع العربي في الداخل، بالرغم من عدم ذكر المصدر في أغلب الأحيان.

لأسباب تتعلق بضيق الحيز، سأتطرق فقط لمركبات أساسية في هذه المنظومة الفكرية وأولها يتعلق بطرح التكامل بين تجمعات الشعب الفلسطيني ليس كحقيقة تاريخية واجتماعية فحسب وإنما كالتزام سياسي عملي، يجب أن يتم تحويله إلى جزء من مشروع سياسي يرى بتشكل مجموعة سكانية تدعى عرب الداخل كالجانب الآخر لتكوّن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

بالرغم من بساطة هذه المعادلة، إلا أنها تقلب كل موازين القوة في المنظومات الفكرية الطاغية على الواقع وقت ظهورها. فهي لا تقبل التغاضي عن العلاقة الاشتراطية بين حل القضيىة الفلسطينية كقضية شعب لها ترجمة مؤسساتية تنعكس في الحق لتقرير المصير وبين الإجابة على سؤال مكانة فلسطينيي 1948 في هذا الحل. بعبارة أخرى، إعادة صياغة مكانة فلسطينيي الداخل كجزء من معادلة حل القضية الفلسطينية تنافي الفكر المهيّمن القائل في تلك الفترة بأن قضيتهم هي مسألة إسرائيلية داخلية.

إن هذه الفكرة المبنية على أن حق فلسطينيي الداخل هو حق جماعي يشتق من حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير تطرح تحديًا قويًا ليس للفكر السياسي والمصالح الإستراتيجية الإسرائيلية فحسب وإنما للرؤية الإستراتيجية الفلسطينية المهيمنة والمتمثلة بقبول معادلة حل الدولتين وبالتالي تجذير القطيعة بين التجمعات الفلسطينية المختلفة. كما أنها تتحدى تفريغ هوية فلسطيني الداخل من مضمونها القومي والوطني، وتتحدى طرحها كشعار فلكلوري أو تاريخ بعيد غابر مبني على النوستالجيا، فهي تأكد مضمون الهوية التاريخية كجزء من عملية صقل وبناء مرحلي لا يوقعها في شرك الغيبيات العضوية ولا في أتون العصبيات القبلية ويبقيها ديناميكية، تتشكل وتتقلب مع تقلبات الزمن لتلائم نفسها لواقعها الذي يحدّد معالمها كما هو الحال عند قوميات أخرى. وقد تجلت وما زالت تتجلى هذه المعادلة الرؤيوية في كل المشاريع السياسية القائمة اليوم في المجتمع الفلسطيني في الداخل بالرغم من حذف المرجعية الفكرية أو التغاضي عن الانتقائية في امتصاص الأفكار.

تتكامل فكرة جدلية الهوية الوطنية من خلال فكرة أخرى تبدو للوهلة الأولى على أنها مناقضة للأولى وهي فكرة المواطنة الكاملة. والكاملة لا تقل أهمية عن المواطنة في هذه الحالة وذلك لأن المواطنة الحقيقية لا بد أن تكون بماهيتها كاملة ولأنها تكشف انغلاقية وشوفينية مشروع المواطنة الإسرائيلية المقترحة على فلسطينيي الداخل. وبالرغم من أن فكرة المطالبة بالمساواة للفلسطينيين في إسرائيل ليست بجديدة، إلا أن إن فكرة المواطنة الكاملة هي منظومة فكرية متكاملة وليست مطلب سياسيًا برغماتيًا فقط. تحويل فكرة المساواة إلى مشروع المواطنة الكاملة فيه إبداع فكري بمجرد تكوينه بناء على جذوره الفكرية والقيمية كما تطورت في فكر المواطنة التنويرية الأوروبية، التي تتغنى الصهيونية بالانتماء إليها وتأكد العقيدة السياسية الإسرائيلية المتجلية في نصوصها التكوينية مثل وثيقة الإستقلال أو القوانين الأساسية بالولاء لها.

من هذا المنطلق تتحدى فكرة المواطنة الكاملة مقومات الفكر السياسي الإسرائيلي برمته وتخضع مشروع الدولة اليهودية-الديموقراطية إلى عملية محاسبة داخلية، مفككة مركباتها الأساسية ومبرزة تناقضاتها المبدئية. إن مشروع المواطنة الكاملة، الذي يستقي جذوره من مشارب فكرية تنويرية يتحدى تناقضات الديموقراطية اليهودية كفكر وكممارسة ويدخل المؤسسة الإسرائيلية في عملية دفاعية تؤدي إلى وضع حدود للنقاش في هذا الموضوع وإخضاعة للهيمنة الفكرية والقانونية بدل التعامل معه بموضوعية وجدية.

إن قمع مشروع المواطنة الكاملة يتجلى في عمليات القوننة والتشريع الجارية في السنوات الأخيرة والتي ما هي إلا دلالة على عجز معادلة اليهودية- الديموقراطية من جهة وعلى تجذر فكرة المواطنة الكاملة في الفكر السياسي لكل مكونات المجتمع الفلسطيني في الداخل من جهة أخرى.

بالرغم من محاولات إظهار تناقض بين فكرة المواطنة الكاملة من جهة والهوية القومية من جهة أخرى لا بد الإشارة إلى أن مكامن ضعف هذه المنظومة الفكرية لا تكمن هنا. فالمواطنة الكاملة لا تعني محو الهوية القومية لا للمواطن الفلسطيني ولا للمواطن اليهودي. إن الهوية القومية في هذه المنظومة هي غير عضوية وبالتالي لا تقبل القصة التوراتية اليهودية التي تمنح الشعب اليهودي حق الاسبقية على أرض فلسطين وفي نفس الوقت لا تدعي هوية فلسطينية كنعانية أو فوق-تاريخية. إن الهوية القومية هي إطار انتماء حداثي أتى للتجاوب مع مقتضيات الواقع في فترة تاريخية متقلبة وبالتالي فهو ليس عقيدة جامدة أو إيمان أعمى. إن الهوية القومية هي مضمون ثقافي وحضاري يتلاءم مع واقعة المادي ويعكسه ولا يتناقض معه. كما أن الهوية القومية هي ثقافة اجتماعية تمنح الفرد الأرضية للاستقلالية وللتحرك بحسب سلم اسبقيات معطي ولكنة غير مقدس.

لا شك بأن فكرة المواطنة الكاملة تحولت إلى الفكرة الأساسية في كل أقطاب المجتمع الفلسطيني في الداخل. إن وثائق التصور المستقبلي التي بلورتها قوى اجتماعية ومدنية وأكاديمية متنوعة في الأعوام 2006-2007 ما هي إلا انعكاس للتأكيد على هوية المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي نفس الوقت مطالبة بالمواطنة الكاملة، التي لا تطرح كمنافية أو مناقضة للمركب الهوياتي الأول.

لا بد من التأكيد على أن التصورات المستقبلية عكست أزمة قيادة ومشادة إيديولوجية بين من يرى الهوية الوطنية تخضع للمواطنة وبالتالي توجهاته مطلبية تخضع للواقع وتطلب تحسينه، وبين من يرى بأن على المواطنة أن تتلاءم والهوية القومية وبالتالي فمشروعه انقلابي على الواقع.

لا شك بأن هذا النقاش ما زال دائرًا وما عمليات القوننة والتشريع الإسرائيلي إلا دلالة على محاولات قمع رؤية معينة لحساب أخرى. ولا شك فيه بأن هذا الصراع الدائر في المجتمع الفلسطيني في الداخل وبينه وبين المؤسسة السياسية والقانونية الإسرائيلي إلا دلالة على استمرارية الحاضر الغائب في هذا النقاش.

وقبل الختام، لا بد من التنويه بأن مكامن ضعف هذا الفكر في أربعة محاور أساسية لا بد من استكمال النقاش حولها والإجابة على تحدياتها وذلك من أجل فحص مدى صمودها في وجه التحديات الفكرية والممارسة؛ أولها يتعلق بضعف الرؤية الإقتصادية والتحليل المادي، حيث أن المصالح المادية لفلسطينيي الداخل تؤدي إلى التغاضي عن الهوية القومية وتقبل مواطنة منقوصة تتماشى مع الرؤية الإسرائيلية المهيمنة، ثانيها يتعلق بانعكاسات مهادنة الهوية القومية مع المواطنة الكاملة على حق المجتمع اليهودي بنفس المطلب ومعنى ذلك على مستوى الحل السياسي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. بعبارة أخرى، ماذا تعني هوية قومية عند الحديث عن هوية المجتمع اليهودي في إسرائيل؟ وما هي حقوقه وهل يمكن الحديث عن مواطنة كاملة وهوية قومية لمجموعتين قوميتين متصارعتين في إطار حل الدولتين؟ أم أنّ هذا ممكن فقط في إطار حل الدولة الواحدة والتي تضع كل المشروع في مأزق، خصوصاً إذا ما أراد الإبقاء على تواجده داخل قوانين اللعب المؤسساتية؟ وثالثها يتعلق بالعلاقة بين الهوية القومية والهوية الدينية، حيث أن التناقض التاريخي بينهما لم يحل ومحاولات تكوين رؤية متصالحة بينهما لم تتبلور بشكل كاف بعد، ورابعها يتعلق بحاجة أي رؤية فكرية إلى قيادي يجسدها في ممارسة يومية ويؤطرها من خلال تواصله مع المنتمين لها ويسخر نفسه من أجلها.

*مدير مركز إعلام ومحاضر في جامعة تل ابيب