تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

موجز تاريخ الفصل

2005-07-07

1- كثر اللغط عن الديموغرافية في الحياة العامة الاسرائيلية، وهيمن على الخطاب السياسي حتى حسبنا "الدولة" تخلت علنا عن تعريف ذاتها كـ"دولة يهودية ديموقراطية" لصالح دولة يهودية ديموغرافية. قطع الاستحواذ كل رسن، وفقد كل عقال في طريقه نحو الهوس والجنون، وسوف لا اتردد في تسميته "مانيا ديموغرافيا".

 

انطلق الجنون من مبدأ صهيوني هو الحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة في الدولة اليهودية تمكن من ممارسة الديموقراطية على أساس القواسم المشتركة الصهيونية اللاصقة: "لم الشتات واستيعاب الهجرة"، "الطلائعية والاستيطان"، افتراض تاريخ مشترك، قدسية الخدمة العسكرية.

 

والبديل ان تعبر الدولة اليهودية عن حكم الأقلية، وحكم الأقلية يقود الى الابارتهايد، أو الفصل العنصري لغرض السيطرة على الأغلبية من خارجها في حالة انفصال عنها ذلك لأن حكم الاقلية القومية واعتبار الدولة تجسيدا لسيادتها يتطلب منظومتين حقوقيتين.

 

ولم تكن دولة ذات اغلبية يهودية في فلسطين في حكم التصور ناهيك عن التوقع والتآمر والتنفيذ دون تهجير العرب. يقع التهجير في لب المشروع الصهيوني بإقامة دولة يهودية، ذات اغلبية يهودية، في بلد تقطنه أغلبية عربية، وفي منطقة عربية.

 

من يدرك هذه الحقيقة لا ينتظر سمحا فلابن وبني موريس، الأول بحكم اخلاقي يدين التهجير والثاني باعتباره ضرورة موضوعية، وغيرهم ممن اوردوا الاثبات الموثق على تهجير الفلسطينيين من بلادهم.

 

وليس صدفة ان الجزء الذي كان من المفترض ان يشكل الدولة اليهودية بعدد من العرب يكاد يبلغ نصف سكانها قد "طهر عرقيا" قبل غيره. ولم يبق على الساحل الفلسطيني المزدهر في حينه الا قريتين عربييتين. كانت اولى المهام تطهير مناطق الدولة اليهودية، بموجب تعريفها في قرار التقسيم، من العرب وذلك في الحدود التي رسمها لها حدود التقسيم. ثم تلى ذلك تهجير بقية العرب من الجليل وغيره من مناطق الدولة العربية المفترضة في الجزء الذي احتلته "الهجاناة" ثم الجيش الاسرائيلي. والنتيجة، أغلبية يهودية كبيرة تمكن من ممارسة سيادة منظمة ديموقراطيا لليهود وان بشكل غير لبرالي وفي ظروف هيمنة قيم عسكرية واستيطانية. ل

 

قد قامت الديموقراطية اليهودية التي حولت الانتماء الديني الى تشكل قومي على أنقاض وخرائب الشعب العربي الفلسطيني. من هذه الزاوية، وبلغة المرحلة الحالية، يمكن رؤية تشريد الفلسطينيين عام 1948 كحالة فصل ديموغرافي بواسطة التهجير. ولذلك أيضاً "نصادف" افتتاح مبادرات الفصل الديموغرافي المسماه مؤخرا مبادرات سلام بالتعليل الأول وهو عدم امكانية تكرير الترنسفير.

 

هكذا بدأ يغئال ألون طرحه خطة ألون بعد احتلال عام 1967 والقاضية بإعادة أراضٍ مأهولة للأردن، وهكذا أيضاً علّل أولمرت طرح مبادرته الأخيرة للإنفصال أو فك الارتباط من طرف واحد "الترنسفير لم يعد ممكناً. لا الدفاع عنه أخلاقياً ممكن، ولا هو واقعي أصلاً".

 

واذا لم يكن الترانسفير ممكنا فلا بد من نمط آخر من الفصل الديموغرافي. ولذلك أيضا لم يتورع يعلون رئيس الاركان الاسارئيلي عن تسمية المرحلة الحالية: "النصف الثاني من عام 1948". لدينا حالتا فصل ديموغرافي لصالح الأغلبية اليهودية. أولاً حالة التهجير عام 1948، وثانياً، حالة مواصلة احتلال عام1967 دون التجرؤ على الضم، الذي يسمى باللغة القانونية: "احالة القانون الاسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة"، ودون منح مواطنة وحقوق سياسية. ولم يفتضح امر اليمين الاسرائيلي، ولم تكشف عورة تناقض ايديولجيته مع ممارسته باطلاق شارون تصريحاته في العام الأخير، بل منذ ان وصل الليكود سدة الحكم عام 1977 في مارش استعراضي خلف شعارات ارض اسرائيل الكاملة دون أن يجرؤ على ضم المناطق المحتلة عام 1967، اللهم الا هضبة الجولان القليلة السكان بعد الاحتلال، والقدس طبعا. الفلسطينيون خارج اطار المواطنة والحقوق السياسية هم حالة منفصلة عن الكيان السياسي الذي يستند الى اغلبية يهودية حتى دون جدار.

 

وعندما تطورت حالة المجتمع الواقع تحت الاحتلال الى حالة نضالية من أجل السيادة الوطنية وللإنفصال في دولة مستقلة ذات مواطنة فلسطينية، طرحت اسرائيل فورا عدة خطط للإنفصال عن الفلسطينيين بالشروط الاسرائيلية او بكلمات اخرى: الانفصال عن أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الارض. خطة الحكم الذاتي في المفاوضات مع مصر من كانون الثاني 1980، خطة أوسلو واقتراحات كامب ديفيد فيما بعد، اقتراحات شارون وألمرت للإنسحاب من طرف واحد. واقتراحات جنيف من ابتكار اليسار الاسرائيلي الصهيوني، وأهم من هذا وذلك جدار الفصل العنصري. ان العطب السياسي الجوهري في كل هذه المبادرات والدليل الأوضح والاوثق على كونها مبادرات منزوعة السلام، هو أنها خطط فصل ديموغرافي تنطلق من ضرورة الحفاظ على اغلبية يهودية كبيرة في الكيان السياسي الاسرائيلي.

 

في هذا السياق الديموغرافي تتعامل الصهيونية مع قضية الأرض. و"لسبب ما" ينتشر في الثقافة السياسية الصهيونية ومفاهيمها ورموزها ومصطلحاتها الاعتقاد الواثق القائل ان أي أرض غير مأهولة هي أرض مرشحة للمصادرة والضم، يقال كأنه بديهية، الى درجة ان العربي يشعر بتأنيب ضمير اذا ترك أرضاً غير مبنية، فكونها غير مأهولة يعني أن يد المصادرة سوف تطاولها اما بواسطة مستوطنة، أو نقطة استيطانية او شارع الى مستوطنة او "معسكر ناحل" (الناحل اختصار تسمية وخدة عسكرية تعمل ايضا في اقامة نقاط استيطانية وتمهد لاسكانها بالمدنيين لاحقا)، او منطقة خضراء تابعة لسلطة حماية الطبيعة او "القيرن قييمت" او دائرة اراضي اسرائيل. كل أرض غير مأهولة هي أرض مرشحة للسرقة وللالتهام حلالاً زلالاً.

 

ومن هنا خطورة الحجة الديموغرافية. إنها أولاً عنصرية، وثانياً لا علاقة لها بالارض. قد يتم الانفصال الديموغرافي دون أرض كما في حالة التهجير، وقد يتم الانفصال على اصغر رقعة من الأرض المأهولة بالفلسطينيين كما في منطق شارون الحالي.

 

لقد وصل الأمر ببعض العرب والفلسطينيين ان يذوتوا، يستبطنوا، الخوف الديموغرافي الصهيوني حتى اعتبروا تكنيتهم "قنبلة ديموغرافية" مديحاً. وبدأوا بالتفاخر برحم المراة الفلسطينية، لكي لا يتفاخروا بأمر آخر. هل هذه استراتيجيتنا الموحدة؟. فيما عدا التخلف وبدائية التعامل مع المرأة من منطلق وظيفة الرحم الذي يتضمنه هذا التفاخر، لا يؤدي التخويف الديموغرافي بحد ذاته الى الاقتناع بضرورة احقاق الحق، بل يعمق النظرة العنصرية التي لا تدفع الى حلول عادلة.

 

العنصرية هي دافع للانفصال، "هم هناك ونحن هنا"، على حد تعبير شعار باراك الانتخابي في حينه. والنضال يتم لكي لا تكون شروط هذا الانفصال مريحة لاسرائيل ومأساوية للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال. وقد بلغ حد تذويت النظرة الاستعمارية كأننا عدد، كم، الى تقديس العدد وتبخيس الكيف بما في ذلك من آثار اجتماعية مرعبة. وغالبا ما تطرح حتى القوى السياسية الاجتماعية المتقدمة التي ترغب بالتقدم نحو مستقبل أفضل من نوع الدولة الثنائية القومية تصورها بصيغة التهديد الديموغرافي: "اذا لم يتم الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران 1967، واذا لم تقم الدولة الفلسطينية في هذه الحدود فسوف نتحول الى اغلبية ديموغرافية وعند ذلك لن يكون لكم مفر من الدولة ثنائية القومية."

 

ان من يريد ان يقنع الناس بالدولة ثنائية القومية لا يخيف الناس منها، ولا يستخدم الحجة الديموغرافية أصلاً، فتربة هذه الحجة عنصرية ولا يمكن ان تطلق نبتة صالحة.

 

ربما لا يدرك العديد من القراء العرب ان فكرة بناء جدار الفصل العنصري هي فكرة حزب العمل، وكان أول من طرحها بقوة ومن منطلق ضرورة الانفصال من طرف واحد عن الفلسطينيين وخلف جدار عالٍ قدر الامكان هو حاييم رامون.وقد تبنى الليكود الاقتراح وطبقه كما يرى هو مسار الجدار مناسباً.

 

اليسار الذي يخوف شعبه ليل نهار من الخطر الديموغرافي العربي بدل النضال ضد الاحتلال يحاول اقناع القلسطينيين بالتخلي عن أي منطق آخر في اتفاقيات افتراضية لا تنجز الا هذه القناعة الفلسطينية واقتناع الاسرائيليين ان الفلسطينيين قد اقتنعوا.

 

اليسار الذي يستحق التسمية يصنع سلاما عندما يكون في السلطة ويعمل في المعارضة ضد الفصل العنصري، مما يعني مقاومة الجدار وليس صنع اتفاقيات افتراضية، هذا هو امتحانه كيسار. ما دام منطق التسوية ديموغرافياً ويتلخص بالانفصال عن اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، فإن قضية الارض تبقى ثانوية مقارنة باقامة كيان فلسطيني.

 

2- يقع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بين نموذجين منقرضين: نموذج جنوب أفريقيا ونموذج الاستيطان الفرنسي في الجزائر. ولكنه لا يقع في منزلة وسطى بينهما، بل يقع على تقاطع أسوأ ما فيهما. ورغم الفصل العنصري الذي يعنيه الابارتهايد ويطبقه الا أنه في حالة جنوب افريقيا مبتكرة الابارتهايد لم يكن الفصل مطلقاً، بل كان فصلا داخل الوحدة السياسية الواحدة.

 

لقد اعتبر النظام العنصري الافارقة السود جزءً من النظام، مركبا من مركبات الكيان، وقبل ذلك جزءً من الطبيعة والفضاء، كما حاول البيض ان ينتموا اليه بمن فيه وبما فيه. ولكنهم شيدوا صرح هرمية عنصرية داخل هذه الوحدة كترجمة لنظام كوني في العالم والطبيعة، وفسروا النصوص الدينية المسيحية بموجيه: السود والبيض. ثم السود والبيض والملونون، مراتب ومنظومات حقوقية مختلفة ضمن وحدة واحدة هي نظام الابارتهايد.

 

الفصل العنصري هو نظام واحد يشمل البيض والسود. ولم يخطر ببال البيض اقامة جدران فصل ممتدة على طول اقاليم، ولم يخطر بالهم الاعتداء على الطبيعة بهذا الشكل. لقد التفوا على البلدان والمجمعات السكانية السوداء، وأقصي السود في غيتوات فقر و"سكواتر كامبس" مكتظة وبائسة، وقيدت حرية حركتهم، ولكنهم انفصلوا عنهم بموجب منطق فقهي حقوقي شامل في نفس الوحدة السياسية دون جدار شامل، اللهم إلا جدرانهم السكنية الخاصة العالية. خلفها اختفوا في حدائقهم مع خدمهم السود.

 

ولأن الانفصال والتمييز العنصري تم داخل نفس الوحدة فقد تجلى نضال السود في جنوب أفريقيا نحو تحقيق المساواة داخل نفس الوحدة، ضد الانفصال والتمييز العنصري في الوحدة السياسية الواحدة. لا انفصال ديموغرافي ولا غيره، بل توجه منطق النضال كله ضد العنصرية والفصل العنصري. والهدف اقامة أمة واحدة من السود والبيض، أمة جنوب أفريقية في دولة واحدة ديموقراطية ذات سيادة. ما زال هذا المشروع في بداياته ومن المبكر الحكم على فشله او نجاحه، ولكن هذا هو منطقه.

 

بالمقابل تبدو حالة الاستيطان الكولونيالي الفرنسي للجزائر معكوسة تماما. الانفصال الجغرافي والثقافي والحضاري قائم بين كيانين؛ مستعمِر ومستعمَر. وفي حين اعتبر البوير جنوب افريقيا وطنهم وخاضوا حربا ضارية ضد ما اعتبروه استعمارا انجليزيا، كان للمستعمِر في الجزائر "دولة أم"، وطن، خلف البحر. ونزعة الاستعمار الفرنسي هي تحقيق وحدة في الانفصال القائم بين فرنسا والجزائر، وليس فصل داخل الوحدة كما في جنوب أفريقيا. ولذلك أيضاً رافق الاستعمار الفرنسي سعي محموم لفرنسة الجزائر، بما في ذلك البشر.

 

ولذلك تتخذ ردة الفعل التحررية عليه صيغة انفصالية حادة ومطلقة، وتتخذ أيضاً طابع سياسات هوية متوترة جداً ما زال المجتمع الجزائري يعاني منها حتى يومنا هذا. وحتى الصراعات الطبقية والسياسة الداخلية تتخذ شكل صراع هوية حاد يكاد يكون بين هويتين تنسخان تجربة الكفاح ضد الاستعمار ودمويتها بحدة أكبر وتطرف أكبر. والانفصال الذي تم تحقيقه بالاستقلال كان انفصالا كاملا يشمل الارض كلها والسكان. ورحل المستوطنون الذين بلغوا المليون عددا رغم تخييرهم بالبقاء كمواطنين جزائريين. حالة فلسطين ليست محاولة تحقيق انفصال في وحدة واحدة، كما في الابرتهايد، ولا توحيد ما هو منفصل كما في الحالة الكولونيالية في الجزائر، بل هي محاولة للتوحد مع الارض والانفصال عن السكان. يريدون البقاء دون حقوق مواطنة للسكان، والانفصال دون ازالة الاستيطان. والحواجز والجدران هي القاعدة وليس الاستثناء. ولا "يطور" هذه الاستعمار السكان المحليين كما كانت انماط الاستعمار الأخرى تفهم مهمتها في نوع من ممارسة "عبء الرجل الابيض" التاريخي. فهو يهجر السكان ويصادر أرضهم أو يلتف من حولهم (مصطلح الطرق الالتفافية معبر جداً)، و"يطور" المكان من اجل الاستيطان لا من أجل السكان الموجودين فيه.

 

في هذا الاطار تم اتباع سياسة الجسور المفتوحة من موشي ديان ومساعديه بعد حرب 67 لكي يترك متنفس اقتصادي وديموغرافي بإتجاه الاردن ودول الخليج وغيره، مما يحرر اسرائيل من مسؤوليات اقتصادية وغيرها تحملها أي قوة مستعمرة تجاه السكان. لقد اطال هذا المتنفس من عمر الاحتلال كما زاد من قدرة الناس على تحمل الاحتلال في آن معاً. نلتقي في كل مستعمرة سابقة مع عمارة فرنسية أو انجليزية أو هولندية وبلجيكية وحتى روسية (مسكوبية)، كما لا يصعب ان نجد مستشفى ومقر ادارة عامة وسجن، وربما جامعة وسكة حديد وغيره.

 

أما في حالة المناطق المحتلة عام 67 فلا توجد عمارة اسرائيلية واحدة في رام الله ونابلس وغزة وغيرها، ولا حتى سجن. فما بني فيها بناه العرب. وهدمت اسرائيل حتى بعض ما كان قائما من منشئات. واستخدمت مراكز الشرطة الاردينة والانجليزية، ولا يوجد أثر عمراني اسرائيلي في مناطق عربية. فقط في المستوطنات او في البنية التحتية لغرض الاستيطان.

 

الانفصال في الانفصال هو منطق الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وهذا هو المنطق الذي ولَّّد جدار الفصل العنصري الذي تتم خلفه الجرائم الاسرائيلية الهمجية والبربرية حاليا. والانفصال هو منطق الاقتراحات الشارونية الجديدة لإقامة عوائق مادية جديدة شرقي الجدار ايضا حيث سترابط القوات الاسرائيلية للسيطرة على المدن والقرى الفلسطينية من خارجها. يصعب وصف المتاهة التي تقيمها الجدران والأسيجة حول قرى منطقة القدس جنوباً وشمالاً، ويصعب استيعاب القباحة التي تتطلبها عملية سيطرة من هذا النوع على السكان وعلى الأرض: بوابات وأبراج مراقبة وجدران مزدوجة واسلاك شائكة ومكهربة.

 

انه تعميم لنموذج معسكر الاعتقال الذي اعتبره جورجيو اغمبن جوهر الدولة الفاشية الحديثة. الاستثناء يصبح هو القاعدة. وحالة الطوارئ هي الحالة العادية كما يقول والتر بنيامين. ما يجري حاليا على الحواجز ووراء الجدران في فلسطين هو جرائم فاشية على ايدي مراهقين عنصريين وقحين وبدائيين سلموا شعبا يتحكمون به بادوات الفصل العنصري.