تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ملامح صفقة قريبة على نموذج أوسلو

2003-10-23

تعرضت مدينة غزة يوم 20 تشرين الأول (اكتوبر) الجاري لعملية قصف جوي متواصل لمدة ثلاث عشرة ساعة. وقد تألف القصف من خمس غارات متتالية. وكانت النتيجة استشهاد أربعة عشر مواطناً غزاوياً وجرح ما يقارب المئة. تعاملت اسرائيل مع قطاع غزة كأنه قاعدة عسكرية. ويتضح من تصريحات المسؤولين الاسرائيليين الأمنيين أن ما تشهده غزة هو غيض من فيض. لقد بثت الطائرات نوعاً من الـ"ساوند أفّكت" الذي رافق بيان الحكومة الاسرائيلية السياسي الذي ألقاه شارون أمام الكنيست في اليوم ذاته. كان الرجل يخطب، وخلفه تقطع الطائرات قول كل خطيب.

 

يتلخص دليل شارون للاسرائيلي الحائر في كيفية التعامل مع الشعب الفلسطيني بأنه "اذا لم تنفع القوة فما يلزم هو المزيد من القوة". وقد طالب شارون الشعب الاسرائيلي بأن يتحلى بالصبر في فترة الانتظار الصعبة هذه. وفترة الانتظار "تكوفات ههمتناه"، هي بالعامية الاسرائيلية فترة انتظار حرب 1967، أي الأشهر التي عاش فيها الجمهور الاسرائيلي على أعصابه، كما يقال، بإنتظار من يبدأ الحرب أولاً. فقد استفزت اسرائيل مصر وسورية في حينه دافعة بإتجاه حرب ارادتها وخططت لها الى ان وقعت الدولتان في الفخ خطابياً لتبدوا وكأنهما تعدّان العدّة لحرب دخلتاها من غير عدة، الأمر الذي اعتبرته اسرائيل تبريراً للضربة الاستباقية الاكثر شهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. على كل حال استدعى شارون بعبارة "فترة الانتظار الصعبة" الى ذهن المولع بالتداعيات استخدام العبارة نفسها في تلك المرحلة. ولا أدري اذا كان الأمر مقصوداً أم لا، ولا أدري اذا كان أحد غيري قد انتبه لهذه العبارة، ولكن أكاد أجزم ان شارون لم يخترها صدفة، فإما كان الامر مقصوداً او تداعت العبارة عن غير قصد، والأمر في الحالين ليس صدفة لأن تداعي العبارة ينم عن مزاج سياسي قائم. وليس صدفة أن يطلق موفاز تصريحات متتالية طوال الاسبوع الماضي تشكك بقدرة الحكومة الفلسطينية الجديدة على الصمود. فاسرائيل تلمح للحكومة الجديدة بشروط قبولها شريكاً وتهددها في الوقت ذاته. وشارون يزف للحكومة الفلسطينية الجديدة بشرى انه في حال تبنيها موقفاً معادياً للارهاب فسيتعامل معها مقدماً تنازلات كما للحكومة الفلسطينية السابقة، يا فرحة الحكومة الجديدة! المواجهة هي مع فصائل المقاومة وليست مع الحكومة، وقد اتخذت القيادة الاسرائيلية قرارها ولن يثنيها عن تنفيذه إحراج او عدم إحراج الحكومة الفلسطينية.

 

تتجه الحكومة الاسرائيلية نحو مواجهة شاملة مع فصائل المقاومة والمجتمع الذي يحتضن شبابها، بل هي في خضم هذه المواجهة وذلك في سباق مع الزمن ومع جدول الانتخابات الامريكية. وهي تفعل ذلك متحدية القانون الدولي والقيم والمعايير المتبعة دولياً. لا يقف أمام حكومة اسرائيل جيش ولا حتى حركة وطنية موحدة، ولا تقف امامها حركة وطنية منظمة بالمعنى التقليدي. فإسرائيل تقصف احياء غزة الشعبية، وذلك ليس في مواجهة شاملة مع حركة وطنية كبيرة تخطط الصمود كما تخطط الهجوم. انها تقصف مجتمعاً محاصراً لا يلتقي فيه سياسيوه مع مقاوميه.

 

والمجتمع السياسي الفلسطيني يدور بالمعنى التفاوضي في دوامة نقاش الحكومة الفلسطينية حول صلاحيات وزير الداخلية كما يدور نقاش بين قيادات فتح المختلفة. وقسم من الحكومة قد تبنى اعلان تسوية مع جزء من المعارضة الاسرائيلية قبل بدء المفاوضات، والولايات المتحدة تشبك خطوط اتصال عدة مع قيادات فلسطينية عدة في آن وفي عز ظهيرة القصف الاسرائيلي والاغلاق المستمر و"الفيتو ينطح الفيتو". وتجري منافسة حامية الوطيس بينها للفوز بثقة الاميركان. واسرائيل تقصف الشعب الفلسطيني في غزة وتضع مدنه وقراه كافة تحت وطأة الاغلاق. انها ماضية في المواجهة مع المقاومة بتواز مع الحوار الفلسطيني الاميركي الجاري. ولا مانع ضد الحوار مع اميركا، الحوار مطلوب، ولكن الجاري ليس حواراً موحداً مع حركة تحرر وطني، انه حوار اميركي مع طموحات مختلفة بالقيادة، انه يخلط حابل الطموح بنابل القضايا.

 

لا يمكن القول ان هذه ظروف مواجهة، ولا يمكن الادعاء بأن اسرائيل تحارب قوات وميليشيات حركة تحرر وطني الى درجة ملاحقتها في المناطق السكنية كما يجري في المستعمرات؟ بل ترتكب اسرائيل جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين من دون علاقة بين هذا القصف الشامل وبين أي مواجهة شاملة مع حركة تحرر وطني منظمة. لقد قررت اسرائيل ان يتوازى النشاط السياسي بنشاط اجرامي اسرائيلي يسهل على الفلسطينيين التنازل أكثر فأكثر، انه قصف يؤمل منه ان يعلق الشعب الفلسطيني آمالاً على حل قريب ليتخلص من هذه المصيبة.

 

ان القصف الاسرائيلي الأخير لغزة يوماً واحداً فقط بعد عملية فلسطينية ضد دورية احتلال اسرائيلية في عين يبرود هو عملية ضغط على الشارع الفلسطيني. وملخص الرسالة المبثوثة انه ليس لديه من أمل في مواجهة القوة والمزيد من القوة الاسرائيلية.

 

ورد الفعل الطبيعي والغريزي على مثل هذا القصف لدى أي جماعة بشرية هو ان تتوحد وتنظم شؤونها وتنظم نوع ردود الفعل المطلوبة. ولكن في التقاليد السياسية الفلسطينية والعربية هنالك مفهوم "الإدانة" غير المرتبط بالسلوك مثل مفهوم "التأييد". نسمع إدانة للقصف في غزة لا شك بتعاطفها ولكن هنالك شكاً بإسقاطات هذا التعاطف على السلوك السياسي النقيض، كما سمعنا تحية للمقاومة في جنين في حينه عند الاجتياح. لا تعني الادانة أي خطوة عملية لمواجهة مثل هذا القصف، كما كان من الممكن ان يحيي المقاومة في "الفضائيات العربية" أناس يمارسون ممارسة سياسية ضد المقاومة ويناقشون ضدها بقناعة تامة، ووسائل الاعلام العربية كما هو معروف ليست مصفاة الفاظ عندما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية، كما انها لا تقارن اللفظ بالفعل، ولا لفظ اليوم بتصريحات الأمس. لا توجد علاقة ضرورية او ملزمة بين اللفظ والفعل من جهة وبين اللفظ والموقف من جهة اخرى.

 

بهذا المعنى فإن القصف الاسرائيلي غادِر وتراجيدي في الوقت ذاته. وهو يرافق خطاب شارون مثل موسيقى المارش، او مثل عزف ريتشارد فاغنر عند تحليق المروحيات في فيلم "ابوكليبس ناو" لفرانسيس كوبولا مع مقطوعة "النابالم الصباحي" الحديثة، او النابالم على الريق بالعامية الفيتنامية. قد تصم الضوضاء الآذان، ولكنها لا "تصم" الأعين عن قراءة الجريمة مع الفقرة التالية في خطاب شارون: "إنني واثق بأننا سننجح في هذه السياسة اذا تحلينا بالصبر والاصرار والنفس الطويل، سنحقق الأمل الكامن في البرنامج للتوصل الى حل سياسي جذري يحقق لنا وللفلسطينيين الأمن والهدوء. طريق السلام طويلة وشاقة ومزروعة بالعراقيل، ولكن ليس لنا ان نفقد الأمل. وأنا اقدر على اساس كل المعلومات الموجودة في أيدينا ان هنالك احتمالاً جدياً لكسر الجمود خلال الأشهر القريبة القادمة والتقدم من جديد نحو تسوية". (بروتوكول الكنيست، خطاب شارون، 20 تشرين الأول)

 

لقد ليَّن شارون لهجته تجاه حكومة ابو العلاء، كما اتهم عرفات في خطابه بالعمل على عرقلتها كما عرقل عمل حكومة أبي مازن على حد تعبيره. لكنه طالب هذه المرة بإقصاء عرفات عن الساحة السياسية. أي أنه بدا وكأنه تنازل عن المس به، يضاف ذلك الى تصريحه حول الضرر من وجوده في الخارج (جيروزاليم بوست، الجمعة 17/10/2003).

 

لا بد اذاً من السؤال: هل هنالك صفقة قريبة بنموذج أوسلو؟ خصوصاً ان في الحكومة الفلسطينية الحالية من يؤمن بالخط المباشر مع اسرائيل سراً.

 

قال شارون في خطابه أمام الكنيست بالحرف: "بالاضافة الى استمرار سياستنا الهجومية سنستمر في بناء الجدار كحاجز أمام الارهاب". ويغطي الأميركان القصف الاسرائيلي لغزة ويمنعون إدانة بناء الجدار بالفيتو. ولكنهم إضافة الى تغطية هذه السياسة الهجومية يقومون بإتصالات سياسية واسعة على مستوى القيادات الفلسطينية من مستويات مختلفة، فهل هنالك صفقة جديدة؟ وكم من الفلسطينيين سيدفع حياته ثمناً لعملية اعداد الشعب الفلسطيني لهذه الصفقة السياسية؟ لا نعلم، ولكن، كما في حال الاجتياح لا نشهد اعداداً فلسطينياً موحداً لمواجهة هذه السياسة الهجومية، ولا حتى سياسياً. والمرحلة تتطلب اتفاقاً على كيفية الصمود، ولكن على الساحة الفلسطينية هنالك انفصام بين حالة المواجهة وحالة التسوية، انفصام بين المقاومة والسياسة.

 

لم يذكر شارون سورية في خطابه، وكان قد رد على سؤال وجهه اليه راديو اسرائيل عن استمرار التصعيد ضد سورية، ان هنالك أموراً لا نتحدث عنها. تزيد هذه الجملة من ايغال خطاب شارون في تطرفه و"سياسته الهجومية". فمن الواضح ان عدم التطرق الى سورية في بيان سياسي رسمي موسمي لا يبشر بالخير.

 

ولا شك أن الادانة العالمية للعدوان على سورية تبشر بالخير. سورية دولة تُحتل اراضيها منذ عام 1967. والدولة التي تَحتل اراضيها تمتلك سلاحاً نووياً، وتتعرض سورية لعدوان من قبل الدولة ذاتها التي تحتل اراضيها، وتحمي الولايات المتحدة العدوان لأنه يهدف سياسياً الى تحجيمها كدولة وكموقف. انه عدوان مغطى اميركياً وله اهداف سياسية.

 

ولكن هذا الجو الـــدولي الــداعي الى تقليص المواجهة في المنطقة بعد الحرب الأخيرة على العراق يجب أن يستثمر، ولا يمكن ان يستثمر اذا لم تكن هنالك قوة عربية حقيقية تنذر اسرائيل بعواقب تجديد العدوان على سورية.

 

والرسالة الأساسية التي يجب ان توجه الى اسرائيل واميركا هي ان العالم العربي لا يقبل أن تتصرف اسرائيل كأنها أميركا. أي أنه حتى أصدقاء الولايات المتحدة العرب والذين يسمحون لأميركا بفعل الكثير لا يستطيعون ان يتسامحوا بالمدى ذاته مع اسرائيل. فهذا امر لا يسمح به لا حجم اسرائيل ولا حجم العالم العربي.