تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مرحلة خطيرة

2003-08-28

أهم مظاهر خطورة الوضع الحالي في فلسطين هو تعميق التفاهم الاميركي مع اسرائيل على تفاصيل متعلقة بدمج الحملة الاسرائيلية الحالية على الفلسطينيين في سياق ما تسميه اميركا الحرب على الارهاب عالمياً. وربما كان هذا هو مغزى مفارقة تزامن الانفجارين في بغداد وفي القدس، لكي تبيعهما اسرائيل تصويرياً لأميركا على أنها المعركة نفسها والخصوم أنفسهم الذين يتوعدهم بوش بنفَس واحد.

 

 وبهذا المعنى فإن حمرة بعض الخطوط الاميركية الحمر المرهونة بحسابات اميركية اقليمية تحدد نوع رد الفعل الاسرائيــلي المتاح قد خفتت حالياً. والأمر الأساسي هو تقدم عملية التراكم بعد كل عملية تستهدف المدنيين. فقد رتبت اسرائيل ملفها الدولي ضد ياسر عرفات وضد فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني ورقة تلو ورقة ووثيقة اثر وثيقة، وقد سمح غياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة وغياب الاستراتيجية العربية على الساحة الدولية بحصول هذا التراكم. ولم نشهد في الاشهر الاخيرة تصديا ديبلوماسياً حقيقياً على المستوى الدولي لهذه المحاولة الاسرائيلية كما شهدنا في بداية الانتفاضة.

 

فمنذ نهاية الحرب على العراق رسمياً فرغت الساحة الدولية تماماً من النشاط العربي، اللهم إلا جهد استرضاء اميركا او العتب عليها من قبل اصدقائها، كل يجس نبض الموقف الاميركي منه. وقمة النشاط الديبلوماسي تلقي دعوة من فرنسا لمصافحة الرئيس الاميركي او دعوة للترحيب به في شرم الشيخ. هل هو الصيف وايقاعه؟ ربما. ولكن لا مناص من رؤية آثار الحرب في رؤوس العرب و"جيت لاغ" ساعات المشاهدة التلفزيونية الطويلة والمتتالية لبرامج الثرثرة التي سبقت الحرب واعقبتها، من نوع آثار سكر الليلة الفائتة واوجاع الرأس والدوار بعد الاستيقاظ. وعلى رغم الفراغ لم تستيقظ الديبلوماسية العربية من خبل حالة ما بعد الحرب.

 

ففي حين كانت اسرائيل تشير الى حماس وياسر عرفات و"المقاطعة" والفصائل الفلسطينية بأصبع الإتهام لم يكن هنالك رد فلسطيني أو عربي موحد، بل قوبل المشروع الاسرائيلي بفتح هذا الملف دولياً مرةً بالموافقة، مفهومياً على الاقل، على ما تقوله اسرائيل مع التأكيد على ضرورة اعطاء "القيادة الفلسطينية الجديدة" الوقت الكافي للاستعداد ولإعادة بناء الاجهزة الأمنية ولإنهاء موضوع فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني، أو بإعتبار النضال الفلسطيني ارهاباً وشرعنة هذا الادعاء، أو جاء الرد بعمليات ضد المدنيين دون خطاب سياسي عقلاني جدي يرد على الادعاءات الاسرائيلية. وكان السلاح الافتراضي الامضى بيد العرب هو تحذير اميركا من فشل "خارطة الطريق"، وقد صعق البعض لسماع بوش يحذر العرب والفلسطينيين من فشلها بعد انفجار حافلة الركاب في القدس. وعادت مصادر في البيت الابيض لتؤكد ان بوش "ما زال" حتى الآن متمسكاً... و"ما زال" هنا لا تعني الا التهديد، فهو ما زال متمسكا حتى الآن، وقد لا يبقى متمسكاً في ما بعد.

 

لقد حاولت اسرائيل منذ 11 أيلول أن تدفع بالنضال الوطني الفلسطيني في خانة الارهاب دولياً، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً وتصاعد التضامن مع الفلسطينيين حتى في اوساط اميركية واوروبية كانت موالية لإسرائيل في السابق. ولكن الادارة الاميركية ومعها الكونغرس ازدادا تلاحماً مع اسرائيل الى درجة تبني وعولمة نظريات الأخيرة الأمنية المتعلقة بالحرب الاستـباقية مثلاً. وفي الوقت الذي يتابع فيه البيت الابيض بهلع مصير هذه النظريات التي ما زلنا نشهد تفاعلاتها في العراق يؤكد المحافظون الجدد على التحالف مع اسرائيل ضد سورية ايضا، ويحاولون باستماتة ان يفتحوا الملف السوري بالطريقة الاسرائيلية، الى درجة التهديد بعمليات ضد سورية، ليكتشفوا المرة تلو الأخرى ان الموضوع أصعب بكثير مما يتصورون فيعودون الى الضغط الاقتصادي والى روتين محاولة عزل ومحاصرة سورية.

 

ولكن الهزيمة العربية الداخلية التي تنازلت عن مبادرة السلام العربية الواضحة للعرب مجتمعين في بيروت، وقايضتها برضا اميركي محدود الضمان عن الانظمة العربية فرادى و"خارطة طريق" لا ترشد الى أي مكان، ثم الهزيمة العربية الداخلية التي زجّت بفلسطين من وراء ظهر الاخيرة في خانة الهزيمة مع نظــام صدام حسين في تكرار غير مبرر لتجربة حرب الخلـيج من العام 91، هذه الهزائم الداخلية تساعد اسرائيل في حشر النضال الفلسطيني في خانة الارهاب، كما تساهم في تمكين اسرائيل من بدء فتح هذا الملف مثلما فتحت اميركا ملف العراق تدريجاً. نحن امام مشروع اسرائيلي اميركي جديد، وهو لا يبدو جديداً فقط لأن معالمه تتراكم تدريجاً حتى كادت تضيع في التفاصيل. وتقترب اللحظة التي ستبق فيها اسرائيل الحصوة حول خارطة الطريق ذاتها.

 

ولم يكن هذا ممكناً لولا وجود قوى فلسطينية متجاوبة مع قراءة الاحداث الدولية بهذا الشكل تأكيداً لرأي تحتفظ به منذ فترة طويلة ان اسرائيل تكاد تستحق الشكر على ما "تمنحه" للفلسطينيين حالياً وفي هذه الظروف "لأننا ببساطة هزمنا". لم يكن بالامكان من دون هذا الموقف تخيل استقبال شارون في اوروبا في طريق عودته من اميركا بهذا الشكل.

 

يفتح تفجير الحافلة في مدينة القدس واغتيال القيادي البارز في حماس اسماعيل ابو شنب حلقة تصعيد اسرائيل جديدة تذكر بالاجتياح بعد عملية نتانيا. في حينه ركزت اسرائيل على مقتل عجزة في فندق بارك ليلة عيد الفصح. وفي هذه المرة على أشلاء أطفال أثناء عودتهم من رحلة صلاة الى حائط المبكى. لن تفوّت اسرائيل هذه الفرصة من دون استثمارها بشكل منظم، على الأقل في قضايا محددة مثل ملاحقة قيادات حماس والجهاد وكتائب الاقصى. صحيح أن اسرائيل كانت تغتال قياديي حماس والجهاد وكتائب الاقصى عندما تستطيع، ولكن في هذه المرة بالامكان الحديث عن مشروع اسرائيلي لتصفية قيادات الحركات الاسلامية في مرتبة متقدمة على جدول الاعمال الاسرائيلي بمنهجية ومثابرة يرغب الاسرائيليون بتشبيهها بقرار غولدا مئير بملاحقة تنظيمات فلسطينية بعد عملية ميونيخ. كما أن اسرائيل، ومن دون الدخول في تفاصيل، ستضع السلطة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما ان تنفذ ما تعهدت به في خارطة الطريق من هدم بنى الفصائل المسلحة، أو تندفع اسرائيل نحو هذا الهدف بطريقتها مدمرة ما تدمره في طريقها، بما فيه بعض بنى السلطة الفلسطينية ورموزها، وهم يتحدثون عن ذلك صراحة في الأيام الأخيرة. وعلى القيادات الفلسطينية بموجب هذا الطرح الاسرائيلي ان تصنف نفسها الى تيار من يعتبر نفسه ضحية ما تقوم به اسرائيل حاليا ومن يدعي أنه ضحية ولكنه يعرف ان اسرائيل تقوم بما لا يستطيع القيام به، انها في الواقع تريحه من مهمة مستحيلة.

 

طبعاً ستدرك اسرائيل في النهاية أنها لن تجد فلسطينيين يوافقون على تسوية بشروط شارون، ولكنها ستدفِّع الشعب الفلسطيني ثمناً غالياً قبل أن تقتنع بذلك. وسوف يكون هنالك من الفلسطينيين من هم جاهزون للموت لتدفيع المجتمع الاسرائيلي بعض الثمن. وقد حاولت اسرائيل كل ما في وسعها لاجتثاث هذه الظاهرة الأخيرة فأدت المحاولة الى زيادة عدد الشباب الفلسطينيين الذين فقدوا معنى حياة تسر الصديق لصالح ممات يكيد العدا.

 

وحتى لو لم تنجح اسرائيل سياسياً في النهاية فإن الحالة الراهنة حبلى بالمخاطر وبإسقاطاتها وآثارها المباشرة على الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية ويجب إيجاد الطريق فوراً الى وحـدة بين كافة القــوى الوطنية الفاعلة الرافضة لإملاءات شارون السياسية. ويجب ان تتوفر قناعة تثير الثقة بين الأطراف الوطنية على الساحة الفلسطينية أنه لا تسوية في عهد شارون لكي يتم الانتقال الى المرحلة الثانية من الحوار والمتعلقة بوسائل النضال.

 

لا علاقة لهذا السؤال بوقف اطلاق النار مع اسرائيل، فهذه مسألة أخرى. اسرائيل لن توافق بأي حال على وقف متبادل لإطلاق النار في صيغة اتفاق بينها وبين الفصائل. ولكن، وبغض النظر عن موافقة اسرائيل يجب ان ينطلق التفكير في هذا الموضوع من حاجة ومصلحة النضال الوطني الفلسطيني، ويجب ان تتغير موجتا البث والاستقبال لدى الفصائل الفلسطينية المختلفة لصالح الاتفاق فوراً على قيادة سياسية موحدة تنظم النضال، فالحوار ليس استراتيجياً وهو على كل حال لم يعد يكفي، ولا يفي باغراض العمل الوطني في هذه المرحلة الخطيرة. وقد يتطلب النضال الوطني في هذه المرحلة إضافة الى توحيد وترشيد الخطاب السياسي الموجه نحو العرب ونحو الغرب الى وقف لإطلاق النار أو الى توقف للعمليات المسلحة من نوع معين ومواصلة المقاومة بوسائل اخرى. ولكن الترتيب يكون أولاً بالاتفاق على طبيعة التسوية السياسية الممكنة وغير الممكنة، والاتفاق على ان مرحلة شارون هي مرحلة منزوعة التسويات، ثم التفاهم على أي الوسائل يستخدم في النضال وأيها لا يستخدم بغض النظر عن رأي اسرائيل، فالمنطق الذي يجب استخدامه هو ما يدفع بالنضال الفلسطيني الى الأمام.