تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ما تبقى من الدولة

2003-08-07

لأسباب تستعصي بداهتها على الشرح، ينقسم العقل السياسي المهزوم الى تحد للواقع بانكار وجوده اصلاً وباعتبار أي تعاط معه تقبلاً للهزيمة واستبطاناً لها من ناحية، وتعامل مع الواقع السياسي القائم يتقمص البراغماتية ويتألف من تراجع بعد الآخر في تقبل منطق الانسحاب امام القوة من ناحية أخرى، الأمر الذي من شأنه أن يعزز غطرسة القوة. ومن الفلسطينيين والعرب من روّج علناً لفكرة الهزيمة كأننا أمام حال صراع جيوش وقوى متكافئة نوعاً في نظر ذاتها أو في نظر بعضها بعضاً، وكأن النضال ضد الاحتلال لا يجسد قضية عادلة، وكأن اسرائيل انتصرت في هذه المواجهة. وكان من الفلسطينيين من علّل قبول وقف اطلاق النار بـ"اننا هزمنا". ومن يدعي بـ"اننا هزمنا" يفعل ذلك بعقلية "اننا انتصرنا" نفسها في بيروت عام 1982 على شارون. ومن يدعي أننا هزمنا ينبغي أن لا يستغرب عندما يدعي موفاز ان قبول الفلسطينيين وقف اطلاق النار هو نتيجة لانتصار اسرائيل، ونتيجة لاصرارها ومثابرتها على افهام الفلسطينيين بأن من الأفضل لهم الانصياع للتفوق الاسرائيلي. والحقيقة انه لا يوجد معنى حربي للتفوق العسكري الإسرائيلي في سياق العلاقة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال.

 

لكن منطق التراجع امام غطرسة القوة لا يعتبر ما يقوم به تراجعاً، وهو يجتهد ليحصي الانجازات. ولكي يكون بإمكانه ذلك ما عليه إلا أن يغير الهدف وينسى الناس ونفسه والقضية التي كانت مصدر شرعية التعاطي بالسياسة اصلاً في أوساط شعب سلب وطنه ويقبع جزء آخر منه تحت الاحتلال: قضية التحرر. أما إذا أردت المساهمة في الحوار حول الخطوات الاخيرة بتفاصيل تفاصيل أحاديث الأروقة والانجازات التي تمثلت بالاعجاب الاميركي بفلان أو ما أثار ضحك أو ابتسام الرئيس الاميركي، وما الفرق بين موقف الرئيس الأميركي من بناء الجدار في حضرة الضيف الفلسطيني وفي حضرة الضيف الاسرائيلي وغيرها" فما عليك إلا أن تغير الموجة تماماً وأن تتبنى منطقاً مختلفاً لمنطق ذلك الموضوع التي تشتق منه شرعية التعامل مع السياسة اصلاً في ظل الاحتلال. واذا لم تفعل ذلك فإنك تصبح بالفلسطينية الدارجة مثل "الأطرش في الزفة"، والمقصود هو زفة العريس. تخيل نفسك عزيزي القارئ انك أصم في زفة عريس وأنك ترى حركات وصخباً ولا تعرف علامَ؟ ولمَ؟ او للدقة: لمن؟ هكذا حال الشعب الفلسطيني.

 

كيف نفهم أن اطلاق سراح السجناء الفلسطينيين بالنمط الاسرائيلي الأخير هو انجاز؟ أولاً، علينا ان لا ننسى ان اسرائيل تنظم بالجملة حملات اعتقالات إدارية تحولها الى قضية تمكنها من تقديم "مبادرات حس نية" من هذا النوع. ثم علينا ان نفترض انه لا وقت عند "العالم" لتفاصيل من نوع أن قسماً كبيراً منهم كان سينهي فترة اعتقاله الاداري خلال فترة وجيزة على أي حال، وليس لدى اسرائيل تهم محددة ضده تمكن من محاكمته، وان هنالك مشكلة ازدحام في السجون الاسرائيلية. ثم علينا ان نتذكر ان اسرائيل تعلن يوميا ان الهدف من اطلاق سراح المعتقلين هو مساعدة القيادة الفلسطينية الجديدة في الشارع الفلسطيني: "نحن ندرك كم أن قضية المعتقلين حساسة بالنسبة اليهم"، (المقصود دائماً هو الضيوف الفلسطينيون الذين التقاهم المسؤول الاسرائيلي لتوه)، و"قد أوضح الطرف الفلسطيني حساسية قضية المعتقلين بالنسبة إليه". وإذا اعيد تحديد الهدف بهذا الشكل، أي لتقوية وترسيخ مكانة القيادة الفلسطينية التي باشرت أو بوشر بها في "خريطة الطريق" يصبح اطلاق سراح المعتقلين انجازاً. وكذلك زيارة البيت الأبيض في حد ذاتها انجاز، لماذا؟ لأنه يشتم منها طرف مقدمة بداية طريق عودة الى شهور العسل الاميركية - الفلسطينية. وغالباً ما عنعن وتبجح مجتمع السياسة الفلسطيني ان ياسر عرفات سجل أرقاماً قياسية فلسطينية في دخول البيت الأبيض مقارنة ببقية زعماء العالم قاطبة، وذلك بغض النظر عن مشاغل رئيسه النسائية أثناء انتظار الوفود لدخول الغرف البيضوية، أو المستطيلة، والشيطان يعرف لماذا يجب أن نعرف هندستها. على كل حال إلامَ انتهت شهور العسل تلك؟ كانت المؤسسة الفلسطينية، كما يبدو، منشغلة ومسحورة بمجرد زيارة البيت الابيض لكي تدرك او تقوّم سياق العلاقة الأميركية - الفلسطينية ولكي تقرر اذا ما كانت الزيارة في حد ذاتها انجازاً سياسياً فعلاً.

 

ويواجه الفلسطينيون الآن وضعاً شبيهاً، إذ يحاول البعض حصر أفكاره أو عصرها لكي يجد الانجاز السياسي الفلسطيني منذ قبول "خريطة الطريق" من دون قيد أو شرط وبحماس، فلا يجد إلا مجرد الزيارة والوعود بالتمويل. الزيارة هي انجاز الحكومة الجديدة بصفتها هذه، أي أنها تشكل تعزيزاً لمكانتها وعلاقاتها الديبلوماسية وشرعيتها الدولية لغرض واحد هو تمكينها من تنفيذ حصتها من "خريطة الطريق". لا أكثر ولا أقل. وهي تفهم ذلك خلافاً لعرفات الذي اخطأ في قراءة مغزى زياراته للبيت الابيض. لم يفهم عرفات ان المقصود منها مكافأته على أنه تغير وتشجيعه على الاستمرار. ولم يكن المقصود التدليل إلى أن البيت الأبيض قد تغير، وبالتأكيد لم يكن المقصود "تدليل" ياسر عرفات. وقد كلف هذا الخطأ ياسر عرفات كثيراً عندما بدأ "يتدلل" ويرفض في كامب ديفيد.

 

وغني عن القول ان الأموال الموعودة تخدم أيضاً الغرض ذاته من ناحيتين. الأولى تمكين الحكومة الجديدة من اقامة أجهزة أمنية قادرة على حفظ "الأمن والنظام" ومن توظيف فئات عاطلة عن العمل وكسب ود شرائح اجتماعية أوسع في ظروف ركود اقتصادي شديد الوطأة على الفئات الفقيرة والوسطى على حد سواء.

 

ما هو ثمن هذه الانجازات المتعلقة جميعها بتمكين القيادة الفلسطينية من القيادة أو تمكينها من التمكن؟ الثمن هو اختزال المشروع الوطني الفلسطيني الى مشروع دولة باتت واضحة المعالم بينة الحدود والادوات. لقد بدأت على مستوى الشعار سلطة وطنية فلسطينية على أي منطقة تحرر، ثم اصبحت دولة على اي منطقة تحرر، ثم دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران (يونيو) وعاصمتها القدس الشريف متجاورة متعايشة في الجملة نفسها مع حق العودة، من دون أن ينظر شق الجملة الواحد في عيني الآخر، الى ان وصلنا الى دولة شارون وجورج بوش، وشروطهما لتنفيذ عملية اقامة هذه الدولة ومنها الاعتراف بأن المقاومة الفلسطينية هي ارهاب يتم التعامل معه بالحوار فلسطينياً وبالقمع اسرائيلياً، انتظاراً لتمكّن السلطة من بسط سلطتها وتنفيذ نفوذها قبل أن ينفد صبر إسرائيل.

 

وبمنطق جورج بوش فإن الدولة الفلسطينية هي المكافأة التي تنتظر الفلسطينيين في نهاية الطريق، أو النفق، سمّه ما شئت، إذا ما استجابوا للشروط الاسرائيلية والاميركية. ولكنهم، من ناحية اخرى، إذا فعلوا ذلك سيفقدون أي قدرة للتأثير في القرار المتعلق بهذه الدولة، طبيعتها وحدودها وتعايشها مع الاستيطان على أرضها وعلاقاتها مع محيطها العربي. وستقرر الولايات المتحدة واسرائيل حدود هذه الدولة في مفاوضات بينهما.

 

إسرائيلياً، فسرت البراغماتية الفلسطينية المدّعاة حتى الآن كانتصار لمنطق شارون. وفي غياب مشروع بديل لدى حزب العمل غير مشروع الجدار العنصري الفاصل، ومع استمرار شارون في نهج استثمار القوة و"الصمود" أمام الضغط الفلسطيني غير المنظم والقادم في موجات متلاحقة مبعثرة لا تحكمها استراتيجية لا في الهجوم، ولا حتى في الانسحاب عندما يتطلب الأمر، يبدو شارون الفاشل أمنياً واقتصادياً للمجتمع الاسرائيلي موفقاً في سياسته لأن الفلسطينيين يقابلونها بتراجع. ولا يبدو هذا التراجع تكتيكياً نابعاً عن أخذ ظرف دولي في الاعتبار، بل يبدو كأنه صعود خطاب فلسطيني بديل على انقاض خطاب هزم. هذا ناهيك عن التراجع العربي غير المنظم وغير المبرر بالشأن الفلسطيني بعد حرب الخليج، وناهيك عن أنه بعدما فشل شارون طوال الفترة الممتدة منذ عمليات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بالربط بين النضال الفلسطيني والارهاب، قام الفلسطينيون انفسهم بالربط.

 

ولا أدري كيف يفسر البعض هذا الرضا الاسرائيلي كأنه تغير في الخطاب السياسي الاسرائيلي. الرضا الاسرائيلي عن صدقية القيادة الفلسطينية الحالية هو تأكيد للتغير في الخطاب السياسي الفلسطيني. واما عدم الرضا المتبادل الذي يبدو في الخبر الصحافي المنثور المنزع من أي سياق كأنه هجوم اسرائيلي على القيادة الفلسطينية، أو على صورة اجتماع فشل أو تم تأجيله، فهو تعبير عن نفاد صبر المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة مع تردد الحكومة الفلسطينية في ترتيب وضع الأجهزة الأمنية والبدء في مكافحة الفصائل المسلحة التي تعتبرها "خريطة الطريق" إرهابية، وتعتبرها القيادة الفلسطينية كذلك في خطابها الرسمي بالانكليزية وفي قبولها غير المشروط لـ"خريطة الطريق". هذه "الخريطة" التي يتعهد فيها الطرف الفلسطيني بنزع سلاح المقاومة. ويغضب الطرف الفلسطيني لأن إسرائيل لا تعطيه ما في الكفاية ليتوجه به الى مجتمعه.

 

إن ما يحكم أي "تنازل" اسرائيلي في هذه المرحلة في ما عدا التصورات والثوابت المتفق عليها ضمن الاجماع الاسرائيلي هو مساعدة القيادة الفلسطينية على مساعدة ذاتها لتنفيذ التزاماتها من "خريطة الطريق" باتجاه تنفيذ الشرط لقيام الدولة الفلسطينية في حدود تصورات بوش وشارون. وفي نظر اسرائيل يفترض ان تتحكم هذه "الأجواء الايجابية" أيضاً بسلوك الطرف الفلسطيني، أي أن عليه أن يظهر "نضوجاً" يليق بوضعه الجديد ويجعله على مستوى استقبال "التنازلات الاسرائيلية" مثل الافراج عن أموال الضرائب، والافراج عن عدد من المعتقلين، وتسهيل وصول المعونات المالية، وتسهيل عملية بناء الأجهزة الأمنية وتسليم الفلسطينيين إدارة هذه المدينة أو تلك أمنياً وصولاً إلى وضع شبيه بما قبل تشرين الأول (اكتوبر) 2000 بشكل معدل يصلح أساساً لدولة فلسطينية مرحلية لفترة طويلة على اربعين في المئة من الضفة الغربية مقابل التنازل عن حق العودة. أما الحقوق الاخرى، فلن تقبلها اسرائيل طبعاً، ولكن لن يطالب أحد الفلسطينيين بالتنازل عنها في الخمس عشرة سنة المقبلة. وسيترك الأمر لواقع المركب الخطير بين الدولة الفلسطينية والبيروقراطية الأمنية الناشئة المرتبطة بها وبالحفاظ على النظام فيها من ناحية، والاستيطان الاسرائيلي من ناحية اخرى ليكون كفيلاً بخلق حقائق جديدة خلال العقد المقبل. لدينا حالة دولة فلسطينية لا تحل حتى مشكلة الاستيطان.

 

لقد كان البراغماتيون، أو للدقة، مدعو البراغماتية يؤكدون على انه إذا لم يقبل الفلسطينيون ما عرض عليهم في اوسلو، والآن في "الخريطة" عودة الى الطريق التي ضاعت في متاهات اوسلو، فلن يبقي الزمن والاستيطان على شيء، وانه كلما اجَّل الفلسطينيون القبول بما يطرح عليهم كلما زادت المستوطنات. فماذا حصل؟ قبل الفلسطينيون بما عرض عليهم وزاد الاستيطان بشكل غير مسبوق. لقد تضاعف النشاط الاستيطاني وتضاعفت المستوطنات منذ أوسلو. وما يجري حالياً هو تأكيد للمنطق نفسه.

 

وإذا كانت الدولة الفلسطينية الموعودة لا تتضمن حلاً لأهم عناصر القضية الفلسطينية وتعويضاً عن الغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، فما الذي يتبقى منها كمشروع وطني فلسطيني؟ وما الذي يميّز بين الصراع على السلطة والصراع على الدولة حالياً؟ الفرق غير واضح والعلاقة بين هذا الصراع وبين العدالة للشعب الفلسطيني أقل وضوحاً.

 

لا علاقة للإجابة عن هذه الأسئلة بكون الصراع عنيفاً أم لا، فقد يكون الصراع على السلطة عنيفاً ودموياً، وقد يكون الصراع على الدولة صراعاً سلمياً في ظروف استنفاد الاستعمار لذاته أو لأدواته القديمة أو في ظرف رأي عام استعماري متقدم جداً في حساسيته كما في حال الانكليز في الهند. قد يكون الصراع عنيفاً وراديكالياً ودموياً في وسائله ومحافظاً ورجعياً و"معتدلاً" في أهدافه. الموضوع ليس وسائل النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي فهذه تحددها طبيعة الهدف وموازين القوى وطبيعة الاحتلال ذاته وطبيعة رأيه العام، وهل هو احتلال استيطاني يبغي البقاء ولو بثمن باهظ. الموضوع حالياً هو طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني. الدولة المطروحة أميركياً وإسرائيلياً، ولا وجود لدولة أخرى في "خريطة الطريق"، ليست مشروعاً وطنياً تحررياً بأي معنى من المعاني. هذه هي الغابة التي لا ترى الآن من كثرة الأشجار، هذه هي القصة التي ضاعت في فوضى الخبر الاعلامي الذي ضيع العلاقة بالسياق، هذه هي الصورة التي امتصت التفاصيل ملامحها.