تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ليست مسؤولية أهالي الشهداء

2014-12-14

د. عزمي بشارة

حالما نطق القاضي بتبرئة الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، ووزير داخليته وأقطاب من وزارته، حتى انتقلت عدسات التلفزة إلى أهالي شهداء ثورة 25 يناير خارج قاعة المحكمة، لتظهر انهيار أخٍ، وصراخ أم، وغير ذلك من المؤثرات التي تبحث عنها الكاميرا. وكانت الكاميرا قد نقلت صورة وقوف جمهور منظّم من المصفّقين بحماسة للحكم داخل قاعة المحكمة. وانتشرت، بعد ذلك، التعليقات المتسائلة حول المسؤول عن مقتل الشهداء: من يتحمّل المسؤوليّة؟ من سيدفع الثّمن؟ من قتلهم؟

لقد تحوّلت القضية إلى مسألة قتل شهداء يناير، وحُمّل أهالي الشهداء مسؤوليّة مواجهة هذا الحكم وتبعاته. ولكنّ تبرئة مبارك، مثل نظام مبارك، ليست قضيّة أهالي الشهداء، ومن الغبن أخلاقيًّا، والغباء سياسيًّا إلقاء وزر مواجهة الحكم ببراءة مبارك على أكتافهم. إنها بالأصل قضيّة الشعب المصري وقضيّة ثورة 25 يناير.

كمنت الخطيئة المميتة التي ارتكبتها النيابة في اتهام مبارك بإطلاق النار على الثوار في 25 يناير. أمّا الخطأ الثاني فكان محاكمته في محاكم نظامه، وبموجب قوانينها. في لحظة الاتهام هذه تحديدًا، تحوّلت 25 يناير من ثورة إلى حدثٍ في تاريخ النظام المصري.

لقد نشبت الثّورة ضدَّ النظام، بسبب جرائمه في أثناء حكمه، والمتمثلة، أساسًا، في الفساد والاستبداد، وليس بسبب الجرائم التي ارتكبها في أثناء الثّورة. فالثورة نشبت قبل أن تُرتكب الجرائم ضد الثوار. كما أنها ليست حدثًا في تاريخ النّظام المصري، لكي تتم معالجة ما جرى خلالها بأدوات هذا النظام، إلا إذا نجح الأخير في صراع البقاء.

يُفترض أن تؤسس الثّورة لنظامٍ جديد، وهذا النّظام الجديد يحاكم النّظام السابق، ليس على ما ارتكبه في أثناء الثّورة، بل على ما ارتكبه في أثناء حكمه. وإلى حين نشوء محاكم وقوانين النظام الجديد، تُنشأ محاكم خاصّة انتقاليّة، تحكم بموجب مبادئ الثّورة ومبادئ حقوق الإنسان والمواطن والقانون الطبيعي، ويوضع لها نظامٌ خاص، تحكم بموجبه إلى حين نشوء البرلمان، وسن قوانين جديدة وإجراء تغيير في بنية المحاكم. وبعد ذلك، يصح الحديث عن استقلال القضاء. أما عدم المس بالمحاكم القائمة في ظل الدكتاتورية، بحجّة استقلال القضاء، فهذا يعني الحفاظ على القضاء الفاسد والمرتشي والمتورط بالولاء السياسي للنظام السابق، وأجهزته الأمنيّة. هنا، يكون شعار استقلال القضاء أداةً لحماية الفساد، بحيث لا يمكن محاربة الفساد إذا كان داخل القضاء، مع أنه أسوأ أنواع الفساد وأخطرها، كما لا يمكن الحفاظ على موضوعيّة القضاء وحياديته، بحجّة استقلاله بالذات، مع أنه غير مستقل، بل تابع للنظام القديم سياسيا (إلا القضاة الذين خرجوا على إملاءاته في مرحلة النظام السابق ذاتها).

ليس المطلوب على الإطلاق أن يتصرّف القضاء الثّوري كما تصرّف القضاء بعد الثّورة الإيرانيّة، إذ تشكّلت محاكم خاصّة، وقام مدّعي عام الثّورة بطلب أحكام الإعدام بالجملة، واستجيب لطلبه.

لا. ليس هذا هو المطلوب في حالة الثورة الديمقراطية التي لا تستبدل استبداداً باستبداد. لكن المطلوب بالحد الأدنى هو إدانة النظام السابق، فتبرئته تعني إدانة للثورة وللجماهير التي خرجت، وللشهداء الذين قدموا أرواحهم ثمنًا لمبادئ العدالة والحريّة والكرامة. وقد كانت الحيلة لتبرئة النظام السابق اتهامه بتهم جنائية عن علاقة الحاكم الشخصية المباشرة، كفرد، بجرائم القتل التي ارتكبتها قوّات الأمن في أثناء الثّورة. هذه معادلة للفشل، ولا نستبعد أن تكون اللوائح قدّمت بهذه الطريقة عن قصد، وسبق أن نبهنا لذلك عند تقديمها، في فترةٍ كانت جماهير الثّورة ما زالت قادرةً على التأثير على أجهزة الدولة والنيابة. ولكن، فات الأوان الآن، ويستحيل إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. لكنها عبرٌ يُستفاد منها للمستقبل.

إن محاكمة نظامٍ سابق تكون بموجب قوانين ومبادئ جديدة، تقوم بها محاكم عدالة انتقاليّة، تحاكم طبيعة النظام وظلمه وفساده، وهي تختلف عن المحكمة الجنائيّة للحكام كأفراد، بما في ذلك صلتهم المباشرة بالجرائم. لكنها لا تستثني هذا النوع الأخير من الجرائم الجنائيّة، والتي يمكن إثباتها. والمهم أن لا تقتصر المحاكمة عليها.
ختامًا، نقول إن تحويل القضيّة إلى صراخ يمزّق نياط القلوب، احتجاجًا على مُصاب أهالي الشهداء، هو هروب من مواجهة آثار تبرئة أقطاب النظام السابق. فهذه مسؤولية جماهير الثّورة المصريّة وقواها السياسية، وليست مسؤولية أهالي الشهداء.