تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كاميكازا بداية القرن.. المنطق الانتحاري لا يمسّ المصالح الأميركية

2001-09-15

استخدمت اليابان طائرات وطياري الكاميكازا منذ شهر تشرين الاول 1944 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اسطول الحلفاء. وتعني كلمة كاميكازا “الريح الالهية”، وقد اطلقت هذه التسمية على الاعصار الذي دمّر اسطول منغوليا الذي هدد اليابان عام 1281.

 

صمم بعض طائرات الكاميكازا خصيصا لاغراض انتحارية بحيث لا يستطيع الهبوط بعد تحليقه، وحمل رأس الطائرة بأكثر من طن من المتفجرات (نصف وزن الطائرة). كما صممت لها خزانات كبيرة من الوقود، واصطدمت الطائرة بهدفها بسرعة 970 كم في الساعة مولدة طاقة تدميرية هائلة. دمرت مئات هجمات الكاميكازا 40 سفينة حربية واعطبت المئات اثناء الحرب.

 

وفي معركة اوكيناوا خسرت الولايات المتحدة خمسة آلاف جندي بفعل عمليات الكاميكازا الانتحارية، وهو اكبر عدد من الخسائر بالارواح تتكبده الولايات المتحدة في معركة واحدة في تاريخها. وفي النهاية خسرت اليابان الحرب ونُكبت بالقنبلة النووية.

 

فعلت جرأة طياري الكاميكازا وجسارتهم فعلها في نسج خيال الشعوب المضطهدة منذ الحرب العالمية الثانية، مع ان اليابان كانت دولة مضطهِدة (بكسر الهاء) واستعمارية ومعتدية على جاراتها ومتعالية عليهم ثقافيا.

 

لم تكن العمليات اليابانية الانتحارية جزءا من استراتيجية انتصار، بل بداية الهزيمة، وتعاملا يابانيا ثقافيا دينيا مع الهزيمة، بحيث يقضي الواجب ان يتكبد الطرف الآخر اكبر كمية من الخسائر، وبحيث تتضاءل اهمية الحياة الفردية عندما تصل الى مبتغاها بتنفيذ هذا الواجب.

 

لقد دمرت الطائرات الاميركية، او الاميركية الصنع، بغداد وبلغراد وهانوي وكامبوديا ودريزدن وبيروت ورفح وخان يونس. وقد دمرت يوم الثلاثاء 11/9 اهم رموز القوة والسطوة الاميركية في مركز التجارة العالمي والبنتاغون، هذه هي المرة الاولى في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية التي “تقصف” فيها مدن ومواقع مدنية اميركية. فهل ادى هذا “القصف” الكاميكازي الى “فشة قلب” الشعوب “المقصوفة”، هل هدأ روع المضطهدين بعد هذه الكارثة؟

 

لم يهدأ بال احد، بل زادت معاناة المدنيين الاميركيين من معاناة المضطهدين في كل مكان في العالم. اولا لان المضطهدين بشر لا يبغون الانتحار، بل ينشدون الحياة الحرة الكريمة، وثانيا لانهم يحسون بمعاناة الآخرين. ولا شيء يعوّض الانسانية التي فينا عن انكسار الروح الذي ولده مشهد البشر، الافراد، الناس وهم يترددون بين الموت حرقا وبين التحطم بالقفز من ارتفاع مئات الامتار. لا شيء يعوّض الانسانية التي فينا عما تبقى من القلب الذي قفز إليهم عندما رأيناهم احياء يختارون القفز الى الموت.

 

نعم هنالك فرق قسري ومفروض وغير عادل، بين الموت الذي يحظى بكاميرا وذلك يحظى بخبر عن عدد القتلى والآخر الذي لا ينال هذا ولا ذلك... لماذا يؤثر فينا هذا التمييز ويحبطنا؟ لاننا تحولنا رغم التمرد على العولمة، الى كائنات استهلاكية اعلامية، ولاننا بتنا نتأثر بمعاناة سكان العمارتين التوأم، اكثر مما نتأثر بمعاناة سكان رواندا وبورندي، او نغضب على هذا الواقع، وكأن الكاميرا تمنح فعلا قيمة للموت، وما قيمة الموت إلا مساوية لقيمة الحياة.

 

ولكن عندما نجري الحسابات السياسية بعد هذا الانفعال وهذا الغضب على سرعة التأثر وانعدام العدالة في توزيع الحزن، نجد فعلا ان موت آلاف الاميركيين يؤثر على العالم وعلى مصيره اكثر مما يؤثر موت مئات آلاف الرونديين والبورنديين، وان من يعمل من اجل تغيير هذا العالم ليصبح اكثر عدالة لا بد ان يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار. قد يحظى التعبير الانفعالي ضد هذا التوزيع غير العادل للدموع بتفهم وهنهنة بالرؤوس في برنامج ثرثرة تلفزيوني، ثم يعود العالم الى مسلكه وعاداته مع نهاية البرنامج.

 

لقد جمعت صيرورة العولمة عملية تضييق الفجوة بين الواقع الاميركي و”صناعة الاحلام” الهوليوودية مع عملية التمرد الغاضب واليائس على صناعة الكوابيس الاميركية خارج اميركا. لماذا صرخ مشاهدو التلفزيون في كافة انحاء العالم صرخة واحدة “لا اصدق ما أراه كأنه فيلم”، و”كأننا في فيلم”. لم تبق شركة انتاج سينمائية اميركية إلا وانتجت فيلما عن الارهابيين العرب الاشرار الذين تختلط فيهم الغيبية الدينية بالجشع الى المال بالخيانة وقتل الاصدقاء الذين يخدمونهم وهم يخطفون طائرة او يخططون لتدمير نيويورك او لتفجير ناطحة سحاب. ولكن المخططات الجهنمية احبطت دائما في صناعة الاحلام الاميركية التي يقفز فيها شفارتزنجر او رامبو من الطوابق العلوية الى جناح الطائرة وينتصر على الخاطفين الجبناء.

 

وجد الاميركيون امامهم جورج بوش الابن صورة مقلوبة عن بطل الاحلام، ومن مخبأه يصف الرئيس الاميركي عمليات الخطف والتفجير بالجبن. ولا شيء أبعد عن وصف هؤلاء الناس الذين نفذوا الكاميكازا في نيويورك وواشنطن من الجبن. ولكن جورج بوش وتوني بلير، وقد بتنا نعرف شيئا عن شجاعتهم الفردية، هم اسرى مفاهيم البطولة الاميركية التي تقسم الناس الى ابطال اخيار وأشرار جبناء.

 

لا “الابطال” اخيار ولا “الاشرار” ولا الاخيار اخيار ولا الاشرار اشرار ولا الدنيا يسيّرها فيلم هوليوودي.

 

لقد تمنينا جميعا، لاننا قبليون ولاننا نخشى ان يتصرف العالم الاميركي بشكل قبلي، ألا يكون المنفذون عربا، وان تكون قضيتهم يابانية (انتقاما لهيروشيما) او صربية (انتقاما لبلغراد) او اميركية (انتقاما لكورش او لمكي) او طلبا لخلاص مسياني توراتي آخر غير خلاصنا. ولكننا ايضا نخشى الاعتراف اننا شككنا بقدرة عرب، اي عرب، على تنفيذ مثل هذه العمليات المعقدة بإحكام واصرار ومثابرة، دون ان تخترقهم المخابرات رغم عددهم الكبير نسبيا ورغم طول المدة اللازمة للتخطيط.

 

لقد ارتسمت في الاذهان صورة للانتحاري الاستشهادي ابن المخيم الذي يقوم بما يقوم به في ساعة يأس او شهر يأس واحباط في ظروف مسدودة الآفاق، ومن الصعب ان نتخيل من يخطط لموته طيلة اكثر من عام يتدرب خلاله على الطيران، ويدرس المواقع بدقة ويعيش مع فكرة الموت فترة طويلة من الزمن يقوم خلالها بتأدية مهام معقدة. ليست هذه حالة احباط ويأس، ولا الحياة في بوسطن او المانيا حياة في مخيم. نحن نشهد حالة تصميم وعناد ايديولوجيين، وحياة شخصية لأفراد ذوي مهارات وقدرات، كان بالامكان استخدامها في تحقيق نجاح شخصي في مجالات اخرى. ليست هذه حالة انسداد آفاق فردية وانما حالة استغراق كامل في خدمة هدف او غاية.

 

بهذا المعنى، صدق جورج بوش عندما قال ان الولايات المتحدة تواجه عدواً من نوع جديد، بامكان عشرين شخصا من النوع اعلاه ان ينكبوا الولايات المتحدة بما يشبه القنبلة النووية. لقد قتلت قنبلة هيروشيما 40 ألف انسان ونشرت تشوّهات جسدية وأوراما سرطانية. اما “القنبلة” التي ألقيت على مركز التجارة العالمي جنوبي منهاتن فقد ذهب ضحيتها الآلاف كما يبدو، ولا بد ان الكاميرا سوف تساعدها على نشر تشوّهات روحية واوراما نفسية.

 

يمني المضطهدون انفسهم ان هذا هو توازن الرعب الجديد مع قوة الغرب العسكرية التدميرية وفي حين ارتكز التوازن بين المنظومتين الدوليتين (حلف وارسو وحلف الناتو) على قوة الردع المتبادل النووية، يحيد هذا التوازن قوة الغرب النووية، ويهدده رغم ذلك بدمار حربي المقاييس. يقف امام حلف الناتو بعد انهيار حلف وارسو خصم لا يملك سلاحا نوويا، ولا يملك دولة، ولا ينفع معه قصف موقع او موقعين. فهو خصم متشظٍّ ومنتشر، حتى في المدن الغربية ذاتها، تكمن قوته في مكامن ضعف النظام الرأسمالي ذاته. انه يحول القوة التكنولوجية العاتية التي تبني ناطحات السحاب، وتجعل خطوط الطيران نوعا من المواصلات الجماهيرية، الى مقتل تسهل اصابته، ويحول خزانات الوقود الى قنابل نابالم والطائرات المدنية الى صواريخ وناطحة السحاب الى شرك وفخ دونما تخطيط عسكري.

 

هذه احلام الفقراء وامانيهم. ولكن الضعف ليس قوة إلا من باب الاستعارة، ولا يمكن تحويل القوة الى ضعف إلا في “معركة” واحدة او اثنتين، او في حالات استثنائية، وتبقى القاعدة في الاقتصاد والسياسة ان القوة اقوى من الضعف، هذه بديهية تبدو الحاجة الى كتابتها او نصها مصطنعة وسخيفة.

“الائتلاف العالمي المعادي للإرهاب”
نيويورك - 11 أيلول / سبتمبر 2001


     بعد ان عاد جورج بوش الابن الى تشخيص العدو الجديد الذي لن يسمح له بتشكيل توازن الرعب من مخابئه، احتفلت اسرائيل واحتفل معها المسؤولون الاتراك والروس وغيرهم ممن يصعب تعاملهم الارهابي مع “مشكلة الارهاب” في بلادهم عملية قبولهم في “العالم المتحضر” الذي يسعون للانتماء إليه. لم تخف اسرائيل سعادتها من ان اميركا سوف تقتنع اخيرا ان قضية العالم الاساسية هي الارهاب، وليس الاوضاع التي تؤدي إليه، ووصلت سعادتها حد النشوة عندما تأكدت ان اوروبا سوف تضطر للانضمام الى “المعسكر العالمي المعادي للارهاب” في حركة عالمية واحدة مع اسرائيل وروسيا وتركيا، وان الانظمة العربية سوف تضطر الى الانضمام الى هذا المعسكر كما اضطرت في حينه للانضمام الى “الائتلاف الدولي” ضد العراق.

ويكاد المرء يشفق على الانظمة العربية الصديقة لاميركا التي لا يعيرها الغرب اهتماما عندما يوجه نفس “الارهاب” ضدها... فهي تناشد الولايات المتحدة وبريطانيا التي تجوّل فيها بن لادن بحرية حتى يوم غير بعيد ألا تمنح ملجأ سياسيا لاعدائها، دون ان تجد آذانا صاغية لدى الديموقراطيات الغربية. ولكن عندما تصاب الديموقراطيات الغربية في عقر دارها تأمر هذه الانظمة الى بيت الطاعة وتبدو اداناتها كدفاع عن النفس امام الرأي العام الاميركي، وتستدعى استدعاء للانضمام الى “التحالف العالمي ضد الارهاب”. فيذهب المغلوبون على امرهم ولسان حالهم يقول: “ولكن من الذي اقام ودعم النظام القائم في افغانستان؟” ولماذا اصبح الارهاب عدواً عالمياً واحداً في عصر القطب الواحد، بعد ان كان السؤال ارهاب نعم، ولكن لمصلحة من؟ لمصلحة الاتحاد السوفياتي ام لمصلحة اميركا؟”.

وقد يخيّر “الائتلاف الدولي ضد الارهاب” عضوية اسرائيل كدولة عظمى في هذا السياق السلطة الفلسطينية بين الانضمام الى احد المعسكرين كما سعى شمعون بيرس ان يفعل في شرم الشيخ عام 1996 ولا يوجد دول عدم انحياز في هذا الصراع. هذا ما يفسّر السعادة الاسرائيلية الغامرة والتي لم تخفها دموع التماسيح والشموع التي تضاء امام الكاميرات على روح الضحايا.

سارع المواطنون الاميركيون من مختلف الثقافات والاصول والألوان للتبرع بالدم ليس فقط في محاولة للمساهمة في الدراما الانسانية الجارية على شاشات تلفزيوناتهم، وانما ايضا للتأكيد والتأكد ان لون الدم الواحد يختزل الفروق بين ألوانهم كابناء أمة اميركية واحدة. ولكن التبرع بالدم في اسرائيل هو تأكيد على ان اسرائيل واميركا ضحيتان لنفس العدو.

اذا ما قام “التحالف الدولي ضد الارهاب” فسيكون هذا التحالف هو النتيجة الكارثية الثانية للعملية الكارثية في نيويورك وواشنطن بعد الضحايا. فلا بد ان يقوي هذا التحالف في المدى المنظور على الاقل موقف اسرائيل وموقعها الدولي، وسوف يحرر ايديها كما شهدت جنين في الايام الاولى التي تلت العملية، اكثر حتى من السابق، بحجة مكافحة الارهاب... وقد باتت هذه الحجة مكونا اساسيا في العلاقات الدولية الجديدة التي ستحاول الولايات المتحدة تنظيمها.

ولكن الكارثة الثالثة قادمة، لا شك في ذلك. فإذا اختارت الولايات المتحدة بجدية استراتيجية “مكافحة الارهاب” الاسرائيلية على المدى البعيد، واذا لم تكتف به كرد فعل اول تحكمه التداعيات، فلا بد ان تنتج هذه الاستراتيجية المدمرة ردود فعل ارهابية مستمرة ضدها وضد اوروبا على أراضيها وفي الخارج، فمكافحة الارهاب لا تنتج إلا ارهابا. الارهاب هو مجموعة عوارض لحالات عديدة من انعدام العدل والفقر والاحتلال والاضطهاد بأشكاله المختلفة. وهو تمرّد معولم على حداثة معولمة ادارت ظهرها لشعوب بكاملها. انه سلاح الضعيف الذي لم يمسك بتلابيب الحداثة والتقدم والتطور، وتمرد على عقلانيتها بالمس مباشرة بالبنية التحتية اللاعقلانية للعقلانية، ببنية القوة. انه لا يستطيع ان يخاطبها ويحاورها عبر عقلانيتها من موقع الندية، ليس فقط لانه لا يستطيع بأدواته السياسية والثقافية والحضارية القائمة التأثير على عملية صنع القرار فيها، بل لانه بات مقتنعا من التجربة، ان البنية التحتية للعقلانية الغربية هي بنية المصالح الاقتصادية والقوة التنظيمية الادارية ومؤسساتها، وهي صاحبة الحجة الاقوى.

ولذلك تنتشر في أوساط الضعفاء مقولة “المس بالمصالح الاميركية او الغربية”. ولكن الضيف سوف يكتشف بعد عملية نيويورك الدراماتيكية التاريخية ذات الأبعاد الكارثية، انه بهذا المنطق الانتحاري لا يمس “بالمصالح الاميركية” بل برموزها فحسب، وليس صدفة ان توجه الضربة الى رموز القوة والسطوة الاميركية: مركز التجارة العالمي والبنتاغون، وليس صدفة ايضا ألا تمس هذه الضربة لرموز المصالح ذاتها، بل بآلاف المواطنين الابرياء فقط. فليست المصالح بناية او اثنتين ولا هي مجموعة مكاتب للشركات الكبرى التي تضررت فعلا وتضرر بعض اصحابها انفسهم جسديا، وانما المصالح في نظام عاتٍ كالنظام الاقتصادي والسياسي الاميركي هي مجموعة حسابات “عقلانية” للعوامل اللازمة لاعادة انتاج هذا النظام والحفاظ على بقائه على المستويين العالمي والمحلي. وان عملية المس بالمصالح لا يمكن ان تتم دون اقناع صناع القرار باعادة وتغيير حساباتهم، وهذا لا يتم بالحوار العقلاني معهم ولا بالعمليات الانتحارية، وانما بالتأثير عبر مجموعة قوى ومؤسسات يتألف منها النظام الاميركي. ولا بد ان يستند التأثير الى القوة كما يستند الى القدرة على ترجمة هذه القوة الى لغة سياسية مفهومة.
 
الرد على “التحالف ضد الإرهاب”

     سوف يكتشف العرب والمسلمون في الولايات المتحدة ان مسلك القطيع الباحث عن الانتقام والذي يعمم “التهمة” على ابناء القومية الواحدة او الدين الواحد او المظهر الخارجي الواحد ليس حكرا على الدول والمجتمعات المتخلّفة التي خلّفوها وراءهم، وان هذا المسلك قائم في اميركا وفي اوروبا، اما في اسرائيل فحدّث عن العنصرية، ولا حرج، وسوف يضطر المواطنون العرب في اميركا (كما في اسرائيل) الى البحث عن حلفاء ضد العنصرية، والى الدخول في حوار مع المجتمع الاميركي، والى الدفاع عن الديموقراطية وقيمها امام الرعاع الذين يعتدون عليهم وعلى ممتلكاتهم، وحتى الجمعيات الاسلامية سوف تلجأ الى التأكيد على قيم التعددية والتسامح وحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم مستندة الى فهم المجتمع الاميركي لذاته كما هو منصوص دستوريا. اي انهم سيضطرون الى اخذ الديموقراطية الاميركية بجدية امام الهجمة. وسوف يؤكدون انهم اميركيون، كما اكد اليابانيون الاميركيون في حينه عندما زجوا في معسكرات اعتقال اميركية اثناء الحرب العالمية الثانية. وهو امر لن يتكرر بالطبع... ولكن النمط الذي سيتكرر هو الرغبة بالانتماء الى نمط الحياة الديموقراطي امام هجوم الرعاع عليهم لمجرد انهم عرب، وامام التنميط والآراء المسبقة، وقد يرافقه التأكيد على الهوية العربية رغم كل شيء.

ولكن ماذا تفعل، شعوبنا، ازاء هجمة الرعاع الدولي وحلفائه المحليين عليها تحت شعار مكافحة الارهاب؟ فنحن لا نستطيع التأكيد على الانتماء لا الى ديموقراطية محلية ولا عالمية.

لم تكن الشعوب العربية في الماضي القريب، الذي يبدو اليوم سحيقا، معادية لاميركا. اذ لم يمكن لاميركا ماض استعماري في المنطقة. وبالعكس تأثر مثقفو وسياسيو مرحلة العداء للاستعمار بالولايات المتحدة وقيمها. واعتقد حتى بعض الانقلابيين العسكريين مثل الضباط الاحرار في مصر بإمكانية التحالف او التلاقي مع اميركا ضد بريطانيا وفرنسا في مرحلة تصفية الاستعمار التقليدي. ولكن الولايات المتحدة الاميركية حازت بجدارة على العداء العربي لها من المحيط الى الخليج، لانها ورثت المصالح الاستعمارية في المنطقة، ولأنها ثبتت حلفاءها في الحكم بالدوس على كل القيم التي تدعي تمثيلها في ما يسمّى “بنمط الحياة الاميركي”، ولانها غيرت تحالفاتها حسب مصلحتها الآنية، ولانها دعمت اسرائيل في صراعها مع العرب وفي نفيها الكامل لوجود الشعب الفلسطيني بدون قيد او شرط وبتبن شبه كامل للاهوت السياسي الاسرائيلي الغيي.

و”مكافحة الارهاب” سوف تعمّق هذا العداء فقط بالامكان شرح هذا الكلام. ولا بد من شرحه. “مكافحة الارهاب” تعني تهميش حالة الظلم التي يعيشها الشعب العراقي والشعب الفلسطيني، وتعني تهميش الاستغلال والظلم بنظر العالم.

لقد ثبت انه لا يمكن للولايات المتحدة ان تبقى آمنة امام انعدام الأمن لشعوب العالم. والحل هو ليس زيادة انعدام الأمن في بقاع العالم التي همشتها عملية العولمة.

يعرف الاميركيون تمام المعرفة ان الكاميكازا لا تنتهي هذه المرة بهزيمة دولة، ولا يمكن محاصرة “العدو الجديد” عسكريا، والقنابل النووية لا تجدي هنا نفعا. فالتعاسة العالمية متشظية تفتقر الى العنوان الجغرافي او السياسي. ولا يمكن معالجتها الا بمخاطبة اسباب التعاسة.

ولكي نستطيع مخاطبة الشعب الاميركي والشعوب الاوروبية بهذا الكلام يجدر بنا ألا نعاديها ونعادي ثقافتها بعد ان نقوم نحن بتنميطها ونشر الآراء المسبقة عنها. لا نستطيع مخاطبة الحداثة بخطاب ردة الفعل عليها، او نفيها، او بخطاب ما قبل الحداثة.

لم يحتفل العرب ولا الفلسطينيون بمأساة المواطنين الاميركيين، ولكن المسلك الاحتفالي لدى اقلية صغيرة من الفلسطينيين التلفزيونيين، تحوّل الى فيديو كليب رائج في كافة محطات البث الغربية. لماذا؟ لانهم لا يريدوننا ان نصل الى حالة حوار مع الشعب الاميركي والشعوب الاوروبية. ونحن نوفر لهم الادوات لذلك لان لدينا من يتصرف دون رادع كما يتصرف سائبة العنصريين الذين يهاجمون العرب لانهم عرب في الولايات المتحدة. ولا احد يجرؤ على ردع حالة تخلّف ثأرية انتقامية تفرح لسقوط مدنيين من دول تعادينا، خوفا من المزاودة الغوغائية المتخلفة.

ومجتمعاتنا لم تبدأ بعد الحساب السياسي والاخلاقي مع تحول الثقافة السياسية الانتقامية ثقافة الكاميكازا الجديدة، الى ايديولوجيا، لا تفرز استراتيجية تحرير، ولا ينجم عنها تيار معارضة اصلاحي او انقلابي يغير احوال شعوبنا وبلداننا. لم تعد القضية قضية انعدام مخارج سياسية لدى شعب تحت الاحتلال يناضل بكل الوسائل بما فيها الموت ضد المحتلين، بل اصبحت ايديولوجيا لا تطرح بديلا لا على الصعيد العالمي ولا على الصعيد المحلي. لا يوجد مجال لمقارنة هذه الايديولوجيا بالمقاومة المشروعة ضد الاحتلال.

لم توصل العملية الانتحارية المجتمع الاميركي للتفكير بأسبابها، والاوضاع التي ادت إليها، وربما وفي افضل الحالات يبدأ حوار اميركي داخلي بعد اشهر طويلة حول سياسات اميركا الخارجية التي ادت الى انتقال العنف السياسي الى أراضيها... ولكن عند ذلك سيقوم معلّقون وخبراء اميركان بشرح ونص اوضاعنا، ولن تكون هذه لغتنا ولا نصنا.

يطالبنا “التحالف الدولي ضد الارهاب” بإدانة العملية فورا ودون تأخير، وليس بمعارضتها سياسيا واخلاقيا. فالمعارضة تؤدي الى تفصيل الحجج والاسباب والى التكلم بلغتنا السياسية والى طرح نصنا. اما الادانة الفورية والمباشرة بمثول زعماء العالم الواحد تلو الآخر لتنفيذ هذا الواجب، فهو تدليل على موقف ازاء توازن الرعب الجديد، انه اجابة على سؤال، لاي معسكر تنتمي؟ دون ان يكون لديك نص، او تصوّر او برنامج عن شكل العالم الاكثر عدالة. هكذا ينقسم النظام الدولي بين “التحالف المعادي للارهاب” والمنضمين إليه خوفا وبين من يستخدمون الرؤوس لمناطحته، لا لمعارضته، ولا لتغيير واقعهم التعيس.