تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قوات "محدودة الضمان" (ليمتد)

2003-10-30

في خضم النقاش حول 87 بليون دولار تكاليف "إعادة إعمار العراق" تعالت أصوات أميركية انساها حساب التكاليف اجواء 11 أيلول، فباتت اكثر نقدية. وهي، خلافاً للوطنية التقليدية، تميل كما تميل الوطنية الاستهلاكية consum - patriotism الى الدفاع عن كعكتها الوطنية والى الاعتقاد بأن العالم أجمع يريد ان يقاسمها مستوى حياتها. بل هي ترى ان هذه التكاليف تأتي على حساب الاقتصاد الاميركي، وتميل الى عدم تصديق ان الاستثمار طويل المدى في البنية التحتية العراقية يصب في صالح الاقتصاد الاميركي من ناحية السيطرة على مقدرات ذلك البلد. كما انها لا تدرك ان جزءاً اساسياً من هذه الاموال العامة، اموال دافعي الضرائب، لا يذهب الى بؤساء العراق وانما يذهب الى شركات اميركية ويحرك بذلك الاقتصاد الاميركي، ويشمل ذلك ليس فقط شركات البناء والادارة والمحاسبة وانتاج البضائع الاستهلاكية وإنما أيضاً الشركات العاملة في مجال صناعة الاسلحة والعتاد وغيره.

 

وعلى كل حال، لا تستطيع الدعاية الاميركية ان تسمح لنفسها بادعاء الاستفادة المباشرة من أموال "اعادة اعمار العراق"، فهذا يتناقض مع رسالة "اللبرلة" و"الدمقرطة" ورفاهية العراق. وكلما ازدادت كرماً واحساناً في دعايتها ازداد سخط النقاد. وقد يدعي من يريد من العراقيين ان لا تناقض بين الاستفادة والافادة، ولسنا بصدد خوض غمار هذا النقاش هنا، فهو ليس نظرياً وقوى المجتمع العراقي الفاعلة هي القادرة على حسمه.

 

في خضم هذا النقاش وقع حادث تفجير عند حاجز ايرز يوم 15 اكتوبر الجاري، أشهر الحواجز وبوابة غزة الوحيدة والمغلقة. وذهب ضحية الانفجار ثلاثة مواطنين اميركيين. ما العلاقة؟ تبين ان رجال الامن الاميركيين الثلاثة هم في الواقع مرتزقة. انهم رجال أمن تابعون لشركة Dyncorp (داين كورب) التي توظف 23 ألف جندي وضابط أميركي سابق خدموا في وحدات قتالية ويبيعون خدماتهم. توفر الشركة التي تبيع خدماتها الامنية لحكومة الولايات المتحدة وتبلغ مداخيلها السنوية 2.3 بليون دولار على الادارة الاميركية الامور الآتية: 1) الروادع الاخلاقية، فالشركة تقوم بالمهمات بشكل "مباشر وسريع ونقي" من دون نقاشات طويلة بشأن الضحايا من المدنيين وغيره. وتوفير الروادع الاخلاقية يوفر أيضاً مصادر مالية ثمينة: لماذا؟ لأن الاخلاق والاعراف والمعايير الدولية مكلفة مالياً. وهنالك فرق بين التزامات الدولة التي تجبرها على ان تقوم بعمليات معقدة ومكلفة لتجنب ضحايا "لا حاجة" لقتلهم وبين عملية مباشرة وسريعة تصيب الشخص المطلوب وآخرين. وهكذا عندما حصلت محاولة اغتيال كرزاي في افغانستان قام مدنيان أفغانيان بالتغلب على من قام بالمحاولة وطرحاه ارضاً، وقام حرس كرزاي فوراً بقتله وقتل المدنيين الشجاعين اللذين افشلا المحاولة وانقذاه - لم يأخذ الحرس مجازفات لا حاجة لها بنظرهم وقتل الثلاثة. تبين فيما بعد ان الحراس موظفون في شركة "داين كورب". 2) لا يحسب قتلى الشركة من بين الجنود الذين يسقطون في العراق او في غيرها، ولا يحصون في البيانات عن الضحايا، مثلما لا يحسب الجنود الاميركيون غير المواطنين من حملة الـ "غرين كارد" الذين يخدمون في العراق على امل الحصول على جواز سفر. وهذا يوفر ضغط رأي عام. قتل موظفو "داين كورب" المرتزقة ذوي المعاشات السمينة يعتبر اصابة مدنيين ولا يعتبر اصابة جنود، لكنه يسمى بالتأكيد ارهاباً.

 

الشركة هي احدى الشركات المتعاقدة لاعادة اعمار العراق. ويستطيع القارىء ان يستنتج وجود اخريات مثلها، والشركات الاسرائيلية التي تبيع خدمات امنية في افريقيا واميركا اللاتينية معروفة، خصوصاً ان في جعبة مديريها ضباطا سابقين كباراً في الجيش، مع سيرة ذاتية ثرية في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان ولا بد ان السيرة قد سارت على جثث الفلسطينيين.

 

ينتشر موظفو الشركة في تيمور الشرقية والبوسنة والعراق والبحرين، ويحرس موظفوها مداخل مقر قيادة المنطقة الوسطى في قطر. وهي تجند حالياً ألف مستشار لـ "اعادة اعمار" الشرطة في العراق. وتقترح اعلاناتها التجارية اجوراً بين 75 الى 153 ألف دولار سنوياً معفاة من الضريبة، مثل كل اجور موظفي "داين كورب" خارج اميركا.

 

العملية عملية خصخصة للمهمات الامنية. وقد كانت في الماضي محصورة بالدولة، محتكرة العنف في جوهرها. ولكن الخصخصة لا توفر على اميركا مالاً واعرافاً ومعايير فحسب وانما توفر ايضاً على امثال كرزاي تهمة ان جنوداً اميركيين يقومون بحراسته وتوفر على كولومبيا تهمة وجود وحدات اميركية تقاتل ضد منظمات المخدرات وضد المتمردين اليساريين. تزيل الشركة التجارية الحرج - واستئجار الخبراء، مثله كمثل إقتصاد السوق والبيع والشراء، لا عيب فيه في عالم هيمنت عليه قوانين السوق وقيمها. حتى المجتمع يتعامل بتسامح اكبر مع من يقوم بعمل مقابل أجر.

 

في اي حال، رجال المارينز السابقون هؤلاء موجودون في كل مكان، وقد تصادفهم في فنادق المنطقة العربية وتحسب انك امام رجال اعمال حليقي الرؤوس او ان بنيتهم توحي بأنهم يكثرون من استخدام قاعة الرياضة (الجيم). لا يجري هؤلاء مقابلات ولا يجيبون عن اسئلة، ويوفرون بذلك ايضاّ ارباكاً كبيراً. فعلى من يعمل في الدولة والخدمة العامة ان يجيب عن اسئلة الصحافيين، ولكن احداً لا يجبر موظف شركة على ذلك. حصانة اقتصاد السوق اقوى من الحصانة الدبلوماسية. انها حصانة سوقية اذا صح التعبير.

 

لذلك ايضاً لا نعرف ماذا فعل هؤلاء فعلاً في غزة ولا يجيب أحد عن الاسئلة. د. سنجر (من معهد بروكينغز) لا يصدق ان هنالك ثلاثة قتلى فقط، كما لا يصدق ان مهمة القافلة في غزة كانت اجراء مقابلات لغرض توزيع منح دراسية في القطاع. (شاحر سموحه، هآرتس 03/10/21). ومن حقه ألا يصدق لأن الشركة ليست مدينة للصحافيين بالحقيقة ولا حتى بمعلومة.

 

لا شك ان هنالك في اسرائيل من يتمنى لو تمت خصخصة السجون ومجمل حرب "مكافحة الارهاب". هذا رغم ان القوات الاسرائيلية التي ارتكبت جرائم حرب في غزة مؤخراً لا ترتدع بروادع مألوفة ومعروفة، اذ يحق لها ما لا يحق لغيرها. ولكن لا يزال الجيش بالنسبة الى اسرائيل اداة بلورة وبوتقة صهر قومية، انه اداة بناء الشعب والهوية. ولا يزال الجيش يقوم بأدوار رمزية عديدة لا مجال لحصرها في هذا المقال وهي تبدي ممانعة شديدة في وجه أي خصخصة. تستطيع شركة اسرائيلية ان تبيع خدمات امنية في زوايا العالم المظلمة، ولكن التأهيل لإرتكاب الجرائم في تلك الزوايا المظلمة وذلك بإسم الشركة والاجر المرتفع تم في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث لا يزال المجتمع والدولة في اسرائيل يتحملان ثمناً اخلاقياً ونفسياً مرتفعاً.

 

وقد بدأت اصوات عديدة ترتفع من صفوف جيش موفاز وشارون. وكان طيارو الاحتياط الأبرز لأن الطيارين هم فخر المجتمع الاسرائيلي، انهم النخبة. انهم الابرز لأنهم كانوا مستعدين لقصف دمشق ذاتها في العام 1973 لو وصلهم الأمر الذي اصدره رئيس الاركان فعلاً في حينه. ولكن الأمور اختلفت ليس فقط من ناحية ميل بعض الجنود الى التمرد اخلاقياً في فترات حكم ليكود تحديداً، وانما لأن شخصية الجندي اختلفت ايضاً. وقد حاولت وحدة الابحاث السلوكية داخل الجيش الاسرائيلي نفسه ان ترسم صورة الجندي عام 98 مقابل عام 48 فخرجت يالتقويم الآتي: جندي عام 1948 هو "جندي مضحّي" في حين جندي عام 1998 هو "جندي البقاء" - انه يريد ان يعيش. (امير اورن، هآرتس /10/2330).

 

النقاش في الجيش يرافق الجرائم حالياً. جرائم رفح لم تكن رد فعل بل تعبير عن رغبة وخطة معدة سلفاً عبر عنها قائد المنطقة الجنوبية السابق يوم طوف سامية (هذا اسم شخص) مرات عدة عندما دعا الى تدمير أكبر عدد ممكن من البيوت والمزروعات وايضاً مناطق تماس خالية لا يمكن لأحد ان يتسلل منها من دون ان يُكشف ويصاب على الفور.

 

قياساً بكل المؤسسات الاجتماعية الاخرى لا يزال الجيش الاسرائيلي بالمجمل بقرة مقدسة وعماد وحدة القبيلة، ولا يزال رافض الخدمة يعتبر خارجاً عن الاجماع، ورغم وجود 20 في المئة من البطالة الخفية داخل المجندين اجبارياً، الا ان الخدمة في التجنيد الاجباري لا تزال قيمة اجتماعية عليا.

 

هنالك احباط وادراك للاحباط من حقيقة ان الحزام الناسف حول خصر الاستشهادي يكلف 150 دولاراً وان مكافحته او التوصل اليه تكلف 25 مليون دولار. ومع ذلك فإن الجيش الاسرائيلي سيستمر بالقيام بهذه المهمات بنفسه ولن يخصخصها.

 

ولن تتم عملية خصخصة مهمات الاحتلال الامنية في المناطق الفلسطينية المحتلة، وسيبقى هذا مجال السياسات العامة ومجال مكافحتها. ولا يزال الاحتلال الاسرائيلي يعتمد على قدرة شعبه على تحمل الثمن الاقتصادي والاخلاقي رغم ان المسافة الجغرافية والنفسية من الضفة وغزة الى تل أبيب أقصر بكثير من المسافة التي تفصل بغداد عن واشنطن. العراق بعيد، والضفة الغربية وقطاع غزة قريبان وهذا يضاعف من اثر الثمن النفسي والاخلاقي ومن القدرة اللازمة لتحمله أيضاً. وليس هنالك بديل، والحال هذه، عن رصد واستثمار التناقضات الناشئة نتيجة لممارسات الاحتلال في المجتمع والسياسة الاسرائيليين في الصراع ضد الاحتلال.