تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

في تطبيع غير الطبيعي (2-3)

*
2016-08-19

د. عزمي بشارة

إشكاليات


أكّدت إسرائيل مسألة التطبيع بمثابرتها المعهودة، انطلاقاً من أنّ القضيّة الرئيسيّة هي أمنها، وما تروّجه كأنه مخاوف مواطنيها من التهديد العربي الوجودي المحدق بها، مستنتجةً من مسلماتها هذه أنّ المهمة هي طمأنة إسرائيل والإسرائيليين وتهدئة روعهم، وأنّ هذه المهمة تقع على عاتق العرب، وتمر عبر خطواتٍ تطبيعيّةٍ تثبت أن إسرائيل مقبولةٌ في المنطقة بصفتها جزءاً منها، وأن الاعتراف بإسرائيل وتوقيع اتفاقٍ معها ليس مجرد تكتيك عربي، ناجم عن ضعف مؤقت. هذه لغة إسرائيليّة صريحة وعلنيّة، نسج حولها تنظير صهيوني كثيف.

والاستجابة لها قبولٌ بالمنطق الإسرائيلي هذا الذي يقلب الأمور رأسًا على عقب. وهي المهمة التي تصدّى لها بحماسٍ غير مسؤول فلسطيني. كلٌ يحاول أن يثبت أنه أبرع من غيره في اختيار الكلمات، وأحذق في تقديم بوادر حسن النية التي تسهم في تبديد مخاوف المحتل من الواقع تحت الاحتلال. لقد وصل هذا الأسلوب إلى حد شعور المستمعين بالخجل، بدلاً عن المتحدّث. كما أثبتت الوقائع عقمه. إذ لم يصبح المجتمع الإسرائيلي أكثر تقبلاً لمبادئ العدالة، ولا حتى أكثر واقعية. وكلما أظهر متحدّث فلسطيني اعتدالاً أكثر بلاغة، انقسم الإسرائيليون بين مشككٍ بمصداقية المتحدّث وتنازلاته من جهة، ومعجبٍ به وبنهجه المعتدل ومطالبٍ بالمزيد من التنازلات.

لكن اعتبارات الدول العربية التي تدّعي أنها تريد التأثير على إسرائيل ومساعدة الفلسطينيين تنبع من منطلقاتٍ لا علاقة لها بمثل هذه الأهداف، ولا بالصلاة في المسجد الأقصى التي تترقرق الدموع في مقل السياسيين والإعلاميين تأثراً من شدة الشوق لتأديتها قبل مقابلة مسؤول إسرائيلي أو بعدها. فهي تنتمي إلى عالم آخر تماماً، عالم الواقع الذي تتنافس الدول العربية فيه على نيْل الرضا الأميركي، إلى حد الوشايات المتبادلة. وتنتشر في أوساطها قناعةٌ أن أقصر الطرق لخطب ود أميركا هو كسب رضا إسرائيل. وقصير النفس يفضل دائماً أقصر الطرق، ولو على حساب العرب وفلسطين. هذا نهجٌ عام، ولكن مشكلة من يسير على هديه، في السنوات الأخيرة، أن الإدارة الأميركية الحالية نفسها غير راضيةٍ عن نتنياهو، وتعلن أنها لا تنوي أن تفعل شيئاً إزاء ذلك، والتحالف العربي مع اللوبي الإسرائيلي في الشؤون الإقليمية يصطدم مع مواقف الإدارة في بعض القضايا.

الإشكاليات كثيرة على المستوى الشعبي العربي، ما الذي يعتبر تطبيعاً أم لا، والموضوع ليس موضوع فتاوى على نوع الأسئلة التفصيلية عن الحرام والحلال الموجهة للوعاظ التلفزيونيين، والتي لا تخطر إلا على بال غريبي الأطوار. فالبوصلة هنا هي القضية الوطنية والصراع مع إسرائيل، وليس مذهبا أو مدرسة فقهية.
يشمل رفض التطبيع عربيّاً رفض دعوة المؤسّسات الإسرائيليّة، بما فيها الإعلام الإسرائيلي، ورفض الظهور فيه. والحقيقة أنّ غالبيّة من قبِل دعواتٍ إسرائيليّة من المثقفين العرب لم يساهم في التطبيع فحسب، وإنما كان سلوكه هذا عموماً تعبيراً عن عدم رؤية إسرائيل عدواً، وغياب أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني. وللتغطية على هذا الموقف، يجرّون منتقديهم إلى سجالٍ متعلقٍ بالخطاب الخشبي، ومزايدات أنظمةٍ استبداديّةٍ تستغل قضيّة فلسطين لاضطهاد شعوبها أو لتخوين الآخرين. وهذا كله صحيح، ولكنه موضوعٌ آخر. المزايدات التي ترتكبها دول عربيّة عند تخوين الآخرين لا تقلل من عدالة قضيّة فلسطين، ولا يُفترض أن تقلّل من صرامة الموقف ضد إسرائيل قيد أنملة. فإذا كنت أقف على الجانب الآخر من المتراس في مواجهة النظام السوري وسياسته، وهو يتشدق بقضية فلسطين، لا يعني هذا أن أتخلى عن الشعب الفلسطيني، وأترك آخر قضية استعمارية أداةً في يد هذا النظام أو ذاك؛ ونقد الحالة العربية لا يعني إبداء التفهم للاحتلال الإسرائيلي أو الإعجاب بإسرائيل.

وفي المقابل، يجب أن نميز بين ظهور عربي في مؤسّسة إسرائيليّة إعلاميّة، لا يهمها كثيرًا ما يقوله المثقف العربي، بقدر ما يهمها ظهوره فيها من جهة، والظهور في وسائل إعلام غربيّة أو في أكاديمياتٍ غربيّة لمواجهة الخطاب الإسرائيلي، في ما يمكن اعتباره مواجهاتٍ أمام جمهور مفتوح، من جهة أخرى. مواجهة الخطاب الصهيوني أمام الرأي العام واجب وطني. أنا لا أتحدث عن حواراتٍ للتسوية تجري في غرف مغلقة، فهي في رأيي المتواضع نوع من تطبيع العلاقات. ما أتحدث عنه هو ألا يهرب المثقف العربي من مواجهةٍ سياسيّةٍ علنية حول قضيّة فلسطين أمام متحدّث يمثل الموقف الخصم أياً كان. ليس الحديث هنا عن مشاركة ندوة شعرية أو مباراة رياضية تتجاهل وجود قضية سياسية، وتتصرّف كأن العلاقات طبيعية، بل عن مواجهة بالحجج أمام جمهورٍ في القضية السياسية ذاتها. من هنا، فإنّ رفض التطبيع والدعوة إلى مقاطعة إسرائيل لا يعنيان أن يفقد الإنسان البوصلة السياسيّة، ألا وهي مصلحة النضال ضد الصهيونيّة.

إن رفض تطبيع العلاقات مع إسرائيل نضال عربي أولًا، فماذا يعني التطبيع في فلسطين ذاتها؟

في المناطق المحتلة عام 67 كان يعني رفض التعاون مع المؤسسات الإسرائيليّة طوعاً من المجتمع الفلسطيني ومؤسّساته، رفض التعاون الأكاديمي والنقابي وغيرها. وقد حصلت خلخلةٌ مستمرةٌ في هذا النهج خلال النضال ضد الاحتلال، ليس ثمّة متسع هنا للحديث عنه. فبعد اتفاقيات أوسلو طبّعت العلاقات في الحقيقة بين القيادة الفلسطينيّة وإسرائيل إلى درجة التنسيق الأمني، وهو، في رأيي، أسوأ أنواع علاقة التطبيع مع إسرائيل. من يتحدّث عن رفض التطبيع ومقاطعة إسرائيل في مناطق عام 67، ويصمت عن التنسيق الأمني، يعتبر كلامه عن رفض التطبيع أو الدعوة للمقاطعة مجرد كلام فارغ من المضمون، وإطلاق شعاراتٍ بلا رصيد.

وقد ثابر قسم كبير من المؤسسات المدنية الفلسطينية والهيئات على رفض التعاون مع مؤسساتٍ إسرائيلية، في مقابل صناعة كاملة ممولة غربياً لعقد حواراتٍ ولقاءات. وهذه لم تثمر تغييراً في المجتمع الإسرائيلي، وتمخضت عن ثقافةٍ فرعيةٍ هامشيةٍ، يعتاش منها بعض المتفرغين، وتريح بعض الممولين الذين يريدون تسجيل صرف الميزانيات المقرّة لفلسطين، بشكل لا يثير أي إشكالٍ مع اللوبي الصهيوني في بلادهم. فالأسهل تشجيع الحوار.

أمّا في حدود 48 فليس ثمّة معنى للتطبيع أو رفضه، فالعربي الفلسطيني يولد داخل حدود 48 بمواطنة إسرائيليّةٍ وجواز سفر إسرائيلي. وتشكّل هذه المواطنة الأساس القانوني لبقائه على الأرض في ظلّ السيادة الإسرائيليّة (نكتشف، من حين إلى آخر، أن بعضهم يجهل هذه الحقيقة. وقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عن مقادير الجهل القائمة). ومع الزمن، تطوّرت المكانة المواطنية من مجرد بقاءٍ على الأرض إلى مطالب حقوقيّة، كلّها قائمة في إطار المواطنة الإسرائيليّة. لقد بذلنا جهوداً شاقةً، في العقود الماضية، لغرض تأسيس هذه المواطنة على حق السكان الأصليين، وقد أثمرت هذه الجهود تغييراً مهماً في الثقافة السياسية لدى عرب الداخل، لكنّ الترجمة القانونية للمطالب هي دائمًا ترجمةٌ في إطار المؤسّسات والقوانين الإسرائيلية. المواطن العربي في الداخل يدرس في المدارس، حسب المنهاج الذي أقرته وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية. ويذهب إلى جامعةٍ إسرائيليةٍ، ويدفع ضريبة الدخل وغيرها من الضرائب، ويطلب التراخيص ويتلقى الخدمات من مؤسّسات الدولة، ويطالب بخدماتٍ كهذه. لا مكان هنا لاستخدام مصطلح التطبيع، بمعناه في مصر مثلاً في هذا السياق، وإلا أصبح النضال من أجل حقوق المواطنة يعتبر نضالاً من أجل التطبيع.

وعلى الرغم من الحياة في ظل القانون الإسرائيلي، وفي إطار المواطنة الإسرائيلية، يبقى هناك فرق شاسع بين الخدمة في الجيش الإسرائيلي ورفض الخدمة فيه مثلًا، وبين قبول الرموز الإسرائيليّة والتمسّك بالرموز الفلسطينيّة. ثمة فرق بين الرضوخ لتعامل إسرائيل مع العرب كأقليّة وافدة إلى وطنهم وكبرياء السكان الأصليين. ويتجلى هذا الفرق في الموقف والخطاب السياسيين الثقافيين، وفي السلوك السياسي أيضاً، فليس الأمر سيان. وهذه ليست تفاصيل بالنسبة للنضال السياسي في الداخل. ولا يكمن الفرق في التصويت للبرلمان الإسرائيلي والمشاركة في انتخاباته من عدمها، فمن يشارك ومن لا يشارك يعيش واقع العلاقة نفسه مع المؤسسات الإسرائيلية من الحكومة وحتى البلدية والمجلس المحلي، بل تكمن في الموقف السياسي والهوية الوطنية، والموقف النضالي. هل يطالب العربي أن يكون عضواً في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست؟ هل يقبل أن يكون عضواً في لجنة صداقةٍ إسرائيليّة مع دولٍ أخرى؟ هل يطالب إسرائيل بالتسوية مع "المعتدلين الفلسطينيين"، هل يناشد الدولة الاستجابة لمطالب المواطنين العرب من منطلق الحرص على سمعة إسرائيل في العالم؟ هل يقبل السرديّة الصهيونية للصراع أم لا؟ هل يقبل بأنّ التسوية هي بين حقين تاريخيين؟ إنها قائمة لا تنتهي من الأسئلة التي يواجهها ممثل الجمهور العربي. هذه وغيرها إشكاليات مصيرية، تفصل بين الحفاظ على الشخصيّة الحضاريّة والهويّة الثقافيّة للفلسطينيين، أبناء البلاد الأصليين، حتى لو اضطروا إلى المطالبة بحقوقهم عبر مؤسّسات إسرائيليّة من جهة، والتأسرل وقبول السردية الصهيونية في دولةٍ تعتبر نفسها دولة اليهود.

غني عن القول إنّ مقاطعة البضائع الإسرائيليّة غير ممكنة في هذه الحالة، فالبضائع كلّها إسرائيلية، والإنتاج إسرائيلي، وحتى البضائع التي يصنعها عربٌ تُنتج من مواد خام مستوردة إسرائيليًّا، وتدفع ضرائب إسرائيليّة، وتوضع الحسابات في بنوك إسرائيليّة.

رفض التطبيع داخل فلسطين يعني رفض تبني الخطاب الصهيوني والمصطلحات الصهيونيّة في فهم التاريخ والواقع، وذلك في إطار من النضال ضد الاحتلال. ومن يدّعي المقاطعة ورفض التطبيع، ولا يناضل ضدّ الاحتلال وهو يعيش داخل فلسطين، لا يقول شيئا في الواقع. فرفض التطبيع مهم عربياً، وبدرجة مختلفة داخل الأراضي المحتلة عام 67، والمقاطعة مهمة عربيا ودوليا. وتبقى المهمة الرئيسية داخل فلسطين هي النضال ضد الاحتلال والعنصرية، ولا أتطرق هنا إلى الوسائل، فهذا موضوع آخر.

ولا يجوز الإسقاط من ظرف إلى آخر، فالفلسطيني داخل حدود 1948 هو أيضاً مواطن إسرائيلي، من حيث مكانته القانونية، وهو يعمل في إطار مؤسسات إسرائيلية غالباً. إنه مضطر لذلك، فإما هذا أو الهجرة ومغادرة الوطن. وعلينا أن نذكر، هنا، أن بعض عرب الداخل يقارنون حقوقهم في إسرائيل مع حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العالم العربي، فلا يرغبون بتبديل موقعهم، ولا تعود المواطنة اضطرارية. وفي هذه الحالة، يبقى الأمر الرئيسي هو الموقف السياسي والنضال الوطني في هذه الظروف، فبها يتجلى الفرق بين القوى السياسية المختلفة حتى في الداخل الفلسطيني.

وليس من المعقول أن يرغب عربي من الضفة الغربية في تقليد نمط العمل السياسي لعربي يعمل ضمن المواطنة الإسرائيلية والحقوق المكتسبة في إطارها. وإذا كان الفلسطيني في حدود 1967 أو 1948 مضطراً للتعامل مع المؤسسات الإسرائيلية أو بعضها، فهذا لا يعني أن يفعل ذلك مواطنٌ من مصر أو الأردن، أو المغرب أو السعودية أو الإمارات أو قطر، فالمواطن في أي بلد عربي، حين يفعل ذلك، إنما يقوم بخطوة تطبيعيّة.