تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

في العلاقة بين المواطنة وعملية بناء الأمة

2003-10-17

من "الأصنام" السياسية الشائعة أن الأمم تبني الدول، وانه في البدء كانت القومية التي انبثقت منها الحركات القومية التي أسست الدولة، وبحسب هذا الترتيب.

 

وتغذي الدولة هذا الوهم عبر برامج التدريس وعبر نشر الاعتقادات الخاطئة عن عظمة الأمة واستمرارية وجودها المتعالي على التاريخ منذ بدء التاريخ، وعن معاناتها مع اعدائها ومسيرتها الطويلة إلى أن حل الخلاص بالاستقلال. وغالباً ما يصور الاستقلال كأنه استعادة لمجد سابق حرمت منه الأمة بالغدر والعدوان. وليس من نافل القول أن العملية التاريخية اعقد بكثير من ذلك، وتكاد تكون معكوسة. فالدولة هي التي تبني الأمة، بمفهومها الحديث على الأقل، وليس العكس. وليست برامج التدريس القومية ونشر العقائد عن ماضي الأمة ورموزها وأعيادها ومآثرها وملاحمها وأبطالها بـ"براءة" عملية كتابة او تلخيص او توثيق موضوعي للتاريخ بقدر ما هي جزء من عملية بناء الأمة. ولا شك في أن الحركات القومية تسعى الى الاستقلال وهي واعية أو غير واعية حقيقة أن أداة بناء الأمة الحديثة بامتياز هي الدولة. وتسعى الدولة الحديثة الى بناء الأمة عبر ارساء أسس الاقتصاد المشترك، او تعزيز تجانسه في حال توافره قبل وحدة الدولة، وتوحيد السوق ونظام الضرائب، وعبر المؤسسات الوطنية التي ينتمي اليها الفرد مباشرة دونما وساطة من انتماء آخر غير المواطنة. وأول المؤسسات الوطنية هو الجيش الذي يوحد بزيه الرسمي الولاءات في اطار ولاء وطني واحد، وليس آخرها سيادة القانون الذي يساوي فعلاً بين الافراد في ظل ارادة وطنية واحدة يعبر عنها بالقانون الذي يحكم الأفراد والمؤسسات.

 

لا بد من ان تتبادر هذه الافكار الى ذهن أي باحث متخصص في تاريخ الأفكار السياسية عندما ترده اخبار العراق. كيف طرح انهيار نظام حكم مسألة الانتماءات ومسألة الولاء السياسي لأقاليم او لطوائف او غيرها من الوحدات التي تفتت كيان الدولة؟ لا شك في أن انهيار الامبراطورية العثمانية ثم السوفياتية في حينه طرحا مسائل مشابهة، اذ تبين أن بناء الأمة على اساس المواطنة السوفياتية فشل، وان بناء الامة على اساس العقيدة الدينية لم يصمد أمام عاصفة القومية، ان كان ذلك في حال الامبراطورية العثمانية او الرومانية المقدسة. في الحقيقة، لم تقم المواطنة السوفياتية على حقوق المواطن بقدر ما قامت على فرض دين علماني كانتماء مصطنع يشكل بديلاً من الدين ومن الانتماءات الوطنية او الأقوامية او حتى القومية الاخرى، ويصلح مصدر شرعية لنظام لا تترتب فيه على المواطنة بذاتها أي حقوق. لم يوجد في عرف ذلك النظام حق واحد من حقوق المواطنة محصن من المس به بتهم سياسية.

 

انتهى هذا النظام كما هو معروف الى حشر الانتماءات العرقية مع الدينية في خانة انفصالية واحدة تدفع باتجاه تفتيت الكيانات السياسية القديمة الى دول قومية ما زالت تتصارع مع هويتها وهوية جيرانها.

 

في مقابل ذلك نجحت الدول التي تقطنها اقوام من اصول عدة بالحفاظ على كيان سياسي في عملية تطور لا تنتهي في حالين اثنتين، وكلاهما يعتمد على تطوير المواطنة مفهوماً وممارسة وحقوقاً الى درجة الانتماء اليها، اضافة الى الانتماء الثقافي او العرقي أو حتى في مكانه. يتمثل النموذج الأول بدول تسلم بتعددية القوميات أو الثقافات، ولكنها تحترم مواطنة متساوية تحمل حقوقاً سياسية متساوية التأثير في شؤون الدولة من الناحية القانونية على الأقل بغض النظر عن انتماء صاحبها او أصله. ويتجسد النموذج الثاني في دولة اعتبرت المواطنة المكون الأساسي للأمة ذاتها.

 

ولا يمكن الحفاظ على وحدة الأمة في الحالين إلا من خلال مفهوم المواطنة المتساوية التي تعتبر درعاً للحقوق والواجبات الفردية وتذكرة دخول للمساهمة بواسطة الحوار او الضغط ،او بالصوت الانتخابي، او بكليهما في الشأن العام، بما فيه الشأن السياسي والدولة ذاتها.

 

ان تأسيس المواطنة على مستوى الطبقات المالكة التي تمارسها فعلاً وتعميمها بالتدريج لتشمل العمال الأجيرين والنساء وابناء الاقليات وحتى العبيد هو الوجه الآخر لعملية بناء الأمة ككيان تشكل المواطنة نوعاً من العضوية فيه. هنا أخفقت الدولة العربية، هنا مربط الفرس.

 

لقد اخفقت الدولة العربية في مهمتها الاساسية: عملية بناء الأمة NATION BUILDING. ولكي نهدئ من حماسة رومانسيي المجتمع علينا أن نؤكد أن هذا الفشل لا يجعل من الدولة كياناً شريراً، ولا من المجتمع كياناً بريئاً. فالمطلوب من الدولة في حال بناء الأمة هو مواجهة عيوب المجتمع ذاته والتغلب على مصاعب كثيرة وعقبات كأداء يضعها المجتمع وتكدسها عصبياته. والانتماءات القبلية والعشائرية والتعصب وقمع الفرد باسم الجماعة العضوية وباسم الهرمية الطبيعية القائمة في المجتمع هي آفات اجتماعية. لا، ليس المجتمع كياناً بريئاً يجب أن نتملقه بإدانة الدولة. ولكن الدولة عندما تخفق في عملية بناء الأمة لا تترك المجتمع على حاله ولا تترك آفاته وشأنها، بل تضاعفها، لأنها تدفعه نحو تحويلها من انتماءات طبيعية الى ايديولوجيات تبريرية وسياسية، بل حتى الى احزاب سياسية، ويسهل تحويلها الى هويات انفصالية قومية الطابع او تصوغ مطالبها بلغة قومية لانها باتت تنطق وتعبر عن ذاتها بلغة الدولة. عندما تخفق الدولة في عملية بناء الامة فانها تضاعف من أذى الآفات الاجتماعية ومن أثرها بخاصة إذا ولجنا الى مرحلة مجتمع الجماهير إذ تحل الايديولوجيات العصبوية محل الانتماءات العضوية الطبيعية مشيدة صرح جماعات متخيلة عصبوية الطابع.

 

هل يُصَدَّق ان بعد ان حكم العراق حزب قومي لفترة طويلة سيكون علينا ان نثبت ان العراقيين يشكلون جماعة وطنية فوق الانتماءات الشيعية والسنية والكردية وغيرها، وأن العروبة هي رابط الغالبية العراقية، وأن هذا الرابط الثقافي والسياسي هو ضمان لوحدة الشعب العراقي وليس داعياً الى تقسيمه.

 

لقد ادعى اليسار الاوروبي، بما فيه اليسار اليهودي، كما ادعى اليسار العربي والقوميون العرب أن اليهود ليسوا امة ولا يشكلون قومية بأي مقياس حديث للكلمة، كأن لو شكلوا امة بلغة القوميين لحق لهم الاستيلاء على فلسطين في عز الظهيرة. والحقيقة ان الصهيونية وافقت على هذا الرأي بعمق، وادعت كما ادعت الحركات القومية الاوروبية أن الدولة هي أداة بناء الامة. فبناء الأمة لا يتم بنقاش نظري لاثبات وجودها بل يتم عبر بنائها بالفعل، هذا هو التعريف الصحيح الوحيد للأمة، انه النجاح في بنائها.

 

وبدلاً من تملق مشاعر الجمهور اليهودي حول اعظم امة كان بن غوريون يدعي امام البرلمان ذاته: "لسنا شعباً"، وذلك لكي يؤكد أن المهمة الرئيسة هي مهمة بناء الأمة. لقد أكثر بن غوريون من الادعاء أن المشكلة هي "ان ليس لدينا شعب". وهذه مشكلة برأيه، لأن من المفترض ان الشباب يريد "ان يقاتل، وان يستطيع ان يقاتل، ولكي يستطيع ان يقاتل عليه ان يصبح شعباً، ولكننا لسنا شعباً" (بن غوريون في اللجنة السياسية لحزب مباي يوم 24/7/1952، ارشيف مباي، بيت بيرل. اقتبست من اوري بن اليعزر، تاريخ العسكرية الاسرائيلية، ص 283) او تصريح آخر له: "وأنا صهيوني طيلة ايام حياتي وحاشا ان اكفر بوجود شعب إسرائيل... ولكن حتى الشعب الانكليزي لم يكن دائماً هو نفسه هذا الشعب... وإنما تألف من قبائل مختلفة غريبة عن بعضها بعضاً ومتقاتلة، وفقط بعد تطور دام مئات السنين اصبحت شعباً واحداً... ليس لدينا الوقت لمئات السنين، ومن دون اداة الجيش لن نصبح شعباً بسرعة، ولا نستطيع ان نعتمد على عملية بطيئة وعفوية... علينا ان نوجه العملية التاريخية، أن نحثها على الإسراع، أن ندفعها بالاتجاه المطلوب... وهذا يتطلب اطاراً الزامياً لكل الشباب... اطاراً للطاعة القومية... ولا يمكن فعل هذا إلا في اطار الجيش" (حضر جلسة الكنيست، 19/8/1953). لقد توصل هذا الكيان الى وضع لم يعد فيه وجود الشعب مرتبطاً بتغير نظام الحكم، وذلك من دون ان يحاول بن غوريون ان يثبت نظرياً ما اذا كان اليهود شعباً ام لا، لقد شمر عـن ساعديـه في عملية واعية تسمى عملية بناء الأمة.

 

لا يهمنا الحل الذي يقترحه بن غوريون لغرض التسريع في عملية بناء الامة بقدر ما يهمنا وعيه المعلن بضرورة بنائها وعدم خشيته من التصريح بغيابها. طبعاً لا يقبل أي مسؤول اسرائيلي مثل هذا التصريح في ايامنا، بل قد يحاكم عليه من يقوله ناهيك بالتعرض لحملات تحريض مسعورة. ومن نافل القول أن المسؤول العربي الذي يصرح بذلك وبالمهمات المترتبة على الاعتراف بهذه الحقيقة لغرض بناء الأمة قد يعتبر اما معتوهاً او خائناً.

 

ولا ينفك يسأل السؤال: الا يشكل التشكيك بشرعية الدولة العربية القطرية والاصرار على شرعية امة عربية تشكل كياناً اشمل من مجموع المواطنين في الدولة عائقاً امام عملية بناء الامة؟ الم تضع العروبة والانتماء العربي كانتماء سياسي فوق الدولة عقبة كأداء في طريق عملية بناء الأمة؟

 

لا شك في ان الانتقاص من شرعية الدولة القطرية كان عائقاً أساسياً أمام إسهام كل القوى في عملية اعتبرت كفراً بالمفهوم القومي الايديولوجي بحجة أنها تضفي شرعية على حدود التقسيم الاستعماري. كما أن القوى القومية الشرعية بعد الاستقلال لم تول الديموقراطية وبناء الدولة بعد الاستقلال أهمية بقدر ما أولت أهمية لبناء الأمة خارج سياق الدولة وعلى حساب تفكيكها. وكانت القوى القومية مستعدة لغض النظر عن ممارسات كيان عربي سياسي مهما كانت هذه الممارسات استبدادية وغير عقلانية في حالات عدة ما دام النظام يؤدي ضريبة شفوية للفكرة الوحدوية العربية. كان هذا صحيحاً في الماضي. ولكن القوى القومية اصبحت في ما بعد احدى ضحايا الدولة القطرية. كما فقدت مع فقدان الناصرية (وللدقة تفسيرها هي للناصرية كمشروع) نهائياً النموذج البسماركي لتحقيق الوحدة من خلال فرضها بواسطة دولة قوية واحدة كما في المانيا وايطاليا. ولم يتبق امام القوميين انفسهم الا المطالبة بتحقيق الوحدة عبر الديموقراطية، أي عبر دول ديموقراطية تتحالف في ما بينها بحسب النموذج الاوروبي. ولا شك في أن في ذلك ظلماً تاريخياً، لأن ما يجمع العرب ثقافياً وحضارياً وطموحاً سياسياً اكبر بكثير مما يجمع الاوروبيين. ولكن القومية العربية لن تعمر سياسياً من دون ديموقراطية على رغم انها حية ترزق في عقول الناس وقلوبهم. انها تجمع الغالبية العربية في كل وطن عربي وفي حال التقائها مع مشروع ديموقراطي سيكون في وسعها ان تسهم مع الدولة في عملية بناء الامة. ولكن الغالبية العربية يجب ألا تكون عائقاً أمام تعميم مفهوم المواطنة وحقوق الأقليات غير العربية كجزء من أمة المواطنين. وهذا هو طريقها الوحيد لتحقيق التكامل العربي نحو نوع من الاتحاد العربي في المستقبل.

 

لقد كانت العروبة في الماضي منفتحة الى درجة تعريب طوعي لإبناء أقوام غير عربية، تعربت ثقافياً ثم قومياً. ومن الذي يعرف بدقة اصول العائلات العربية في مدننا الكبرى؟ المهم انها تعربت. وفي ايامنا يهاجر عرب من طوائف مختلفة الى الخارج ليكتشفوا هناك بعيداً من الدولة انهم ليسوا عرباً وان طوائفهم هي في الواقع قوميات. ما كان ذلك ممكناً لولا ان "هجرة داخلية" سبقت الهجرة نحو الخارج. كيف يسقط شعب مع سقوط نظام استبدادي؟ لم يكن في وسع القبيلة ان تكتشف دورها السياسي بعد كل أزمة لو ان الأنظمة بنت مؤسسات وطنية شاملة ضمن عملية بناء الأمة، عملية اقصاء القبيلة وعصبياتها من الحيز العام، ولو كانت المواطنة، أي العضوية في الأمة، توفر حماية اكبر من العضوية في القبيلة.