تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فوز سياسات القوة داخل الحزب أيضا

2005-09-29

فاز شارون على المطالبين بتقديم موعد انتخاب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، ومن ضمنهم نتنياهو بفارق 104 أصوات من بين حوالي ثلاثة آلاف وخمسين عضوا في مركز الليكود.

 

ولا يعتبر هذا فوزا ساحقا بأي مقياس، ولكنه بنتائجه فوز على اية حال. فهو كاف لقلب حسابات من هدفوا إلى تقديم موعد انتخاب رئيس الحزب ومعه طبعا موعد الانتخابات البرلمانية.

 

لقد فشل أول انقلاب على رئيس حكومة يقوم به حزبه، وبالتالي بقي التاريخ الحزبي “الإسرائيلي” الغني بالخدع والمؤامرات خالياً من انقلاب كهذا. ووضع حد حاليا للتوقعات حول حجم التأييد الذي قد تحصل عليه قائمة منفصلة يؤسسها شارون لو تجرأ وغامر بشق الحزب كما فعل بن غوريون عندما أسس حزب “رافي” ضد حزبه وخسر.

 

وبهذه النقطة نبدأ. فلا شك برأينا أنه من عوامل فوز شارون هو تهديده المبطن، والمعلن من قبل “المقربين”، أنه لن يتوانى عن شق الحزب إذا نجح الانقلاب عليه. فقد اقنعت هذه “الحجة” العديد من المترددين، وحتى من معارضيه غير المترددين، لأنه قد يترتب عليها نهاية حكم الليكود في الانتخابات القادمة برأيهم، هذا عدا الرفض الغريزي عن التخلي الطوعي الغبي، على الاقل في سريرة نشطاء أحزاب السلطة في عصرنا، عن أكثر من سنة سلطة ثمينة من ناحية المنافع والوظائف وغيرها. فأحزاب السلطة تقيس منافع البقاء في السلطة أيضا قبل بقاء قيادة الحزب أمينة لخطه.

 

وبالإمكان فعلا الإسهاب في تحليل مدى حرص شارون على وحدة الليكود الذي يدعي انه أسسه. ليس لدى الرجل أي ولاء لأي حزب. وهو بهذا المعنى شخصية وطنية كما في المدرسة السياسية العربية، أي باعتبار ان المصلحة الوطنية كما يراها هو، متلاحمة مع رأيه ومتطابقة مع مصلحته، هي فوق الحزب والحزبية.

 

وكان شارون في الواقع كضابط متخرج لتوه من معارك القناة بعصبة حول جبينه قد اقنع مناحم بيجن بتوسيع “جاحل” (حيروت والليبراليين) ليشمل قوى أخرى مثل المركز الحر وغيرها لفرض الانتصار على حزب العمل. وعلى كل حال هذا لا يجعله مؤسسا كما ادعى زعيم الليبراليين فيما بعد سمحا ايرليخ ضد شارون.

 

فمؤسس الليكود هو بيجن دون منازع. ولكن شارون كان يهدف إلى ترتيب مستقبله السياسي غير الممكن في الحزب الحاكم، أي حزب العمل الذي كان يسمى “المعراخ” في حينها (تجمع مباي ومبام). وكان شارون وفايتسمان جنرالي الليكود الوحيدين في مقابل دزينات من الجنرالات في حزب العمل الحاكم.

 

لا يعاني شارون من ولاء خاص للأحزاب فقد تعامل مع الاحزاب التي استضافته كأداة للوصولية الشخصية. وقد شن معارك داخل الليكود وهاجم رؤساء الحكومات جميعا من جهة اليمين بمن فيهم نتنياهو أيام “تصالح” مع عرفات في اكتوبر/تشرين الأول 1996 بعد انتفاضة النفق وفي فترة مفاوضات “واي” بين نتنياهو وعرفات برعاية الملك حسين رحمه الله وكلينتون. عندها وجه شارون نداءه الشهير لشباب المستوطنات ليحتلوا التلال، وحينها ظهر مصطلح النقاط الاستيطانية غير القانونية.

 

ومشهد إغلاق الميكروفون لشارون رئيس الحكومة من الليكود في مؤتمر حزبه وقطع مكبرات الصوت لمنعه من إلقاء خطابه بعد اتلاف الاسلاك تماما يذكر بمشهد أخرجه ومثله شارون نفسه. ولا بد ان الناس يذكروه بنفس حجمه الحالي وصوته السوبرانو المخنوق وهو يمنع من الكلام رئيس الوزراء شامير المشهور بتشدده وتصلبه.

 

في العام 1990 ضغطت حكومة الولايات المتحدة على شامير للتقدم بمبادرة ما تقترب من أفكار طرحها وزير الامن رابين في بداية الانتفاضة الاولى. وقد تقدم شامير بافكار لا تتضمن التفاوض مع م.ت.ف. ولكن شارون اتهمه بالرغبة بالتفاوض مع المنظمة وحاول منعه من القاء خطابه في المؤتمر. فكيف منع شارون رئيس حكومته من الكلام؟ أخذ شارون الميكروفون في خضم خطاب الأخير وراح يسأل اعضاء المركز أمام رئيس حكومته المذهول مما يجري: “من منكم مع تصفية الإرهاب؟”، من يؤيد أرض “إسرائيل”؟ “من يؤيد وحدة القدس؟” “من يؤيد التفاوض مع المبعدين؟”.

 

عندها أدرك شامير ما أدركه بيجن وايرليخ ويدين من قبله، ان الرجل لا يعرف الروادع في السياسة الحزبية. مجرد خاطرة: مستشار شامير الاول في حينه ضد شارون كان نفس مستشار شارون الأول حاليا ضد نتنياهو ألا وهو الوزير إيهود أولمرت.

 

لم يهتم شارون كثيرا بإنهاء أو إلقاء خطابه. فالخطاب في نظره ليس عاملا في الانتصار، بل هنالك عوامل أخرى أهمها السلطة ذاتها وسياسة القوة داخل الحزب نفسه. فبيديه مقاليد الحكم والى جانبه امريكا وهو قادر على تهديد حزبه بفقدانهما.

التشويش على صاحب حق الكلام على المنبر إلى درجة منعه من الكلام وتبادل اللكمات هو مشهد مألوف في الليكود. هذه ثقافة حزب الليكود الرعاعية الغوغائية. وفيه يتعايش الغوغاء مع محاضري الجامعة والضباط ورجال الأعمال والسياسيين.

 

لا يتخيل ذلك الكثيرون في أوروبا. فالغوغاء هناك وان انضموا إلى حزب حاكم يكونون عادة هادئين في اجتماع مصيري. فقط في “إسرائيل” يصرخ الانتهازيون ولصوص الوظائف وخزينة الدولة كأنهم في سوق. شيء ما “إسرائيلي” جدا في الليكود. هكذا تبدو “إسرائيل” في السوق وفي محطة الباصات وفي المعارض والساحات العامة وفي حملات التنزيلات وغيرها. ليست “إسرائيل” هنا أوروبية او شرقية. بل شيء آخر تماما، إنها “إسرائيلية”. وفي المقابل هنالك نخبة واسعة تؤيد الليكود وغيره ولا تصرخ كالباعة المتجولين في السوق، وهي التي تدير البلد وتسلم في الوقت ذاته بقوة الغوغاء السياسية. خلطة غريبة ولكنها تحوي أيضا نخبة واسعة في كافة المجالات. وهي رغم انتشار الغوغائية ما زالت واسعة نسبة لحجم المجتمع.

 

وشارون نفسه ليس مجرد انتهازي مارق بين الأحزاب بحثا عن وظيفة سياسية او عن منصب نائب او وزير يتخيله المرء بسهولة ان كان ذلك في الكنيست او البرلمانات العربية الراهنة، بل هو جزء من نخبة عسكرية اقتصادية سياسية لديها تصور متين فيما يتعلق بمصلحة الدولة، وهي تحاول أن تفرضه.

 

قلنا اذاً ان شارون فهم نفسية الغوغاء الذين استخدمهم في الماضي، وقد هددهم بتقويض نظام المنافع الحزبية التي يعيشون عليها فانتقل قسم منهم من النواة الأيديولوجية الصلبة التي قد تطعمهم كلاما، ولكن وصولها إلى السلطة ليس مضمونا، ونتنياهو انتهازي أصلا لا يختلف عن شارون الا بكون الأخير رئيس حكومة حالياً والأول رئيس حكومة ممكن، وتقل امكانيته اذا شق شارون الحزب. فحسموا لصالح العصفور الذي في اليد، اي بقاء الحكم بيد الليكود.

 

وماذا ايضا؟ ليس الكثير في الحقيقة. فالانتصار جاء بالكاد، والتفوق كان ضامرا لا يبرر استلال الكثير من النظريات لتفسير انتقال مائة شخص من معسكر لآخر. وبالإمكان شراؤهم في النهاية، فهذه حكومة ووظائف وتراخيص وقوة سياسية تتحول الى منافع شخصية أيضا.

 

ولكن لا بد من الإشارة إلى تأكيد بوش لشارون علنا انه سوف يفوز في الانتخابات. وفي ذلك تعبير غير مألوف عن رغبة أمريكية لا بد انه ترك انطباعا على أكثر من عضو مركزي في الليكود. فمن في “إسرائيل” يبحث عن خلاف مع امريكا؟ ونحن هنا سوف نوفر على أنفسنا وعلى القارئ العودة إلى تاريخ علاقة شارون مع امريكا وانتقاده لارتباط بلاده المفرط بها حين كان في المعارضة، أو حين كان مجرد وزير، وتاريخ صراعه مع ادارة ريجان وموفدها فيليب حبيب ايام الحرب على لبنان. ولكن لا بد من رؤية اهمية الولايات المتحدة لمن يحكم في “إسرائيل”، وخوف بعض أعضاء المركز الثلاثة آلاف من قيادة البلاد باتجاه مخالف لرغبة امريكا.

 

لم يكن حسم المعركة أيديولوجيا على كل حال. بل حسمها الخوف على المصالح وتهديد شارون بشق الحزب ومباركة بوش لشارون بالفوز قبل أن يفوز، ولا شك أن بوش قد قصد انتخابات البرلمان وليس انتخابات داخلية في الليكود. أي أنه تم ربما رغم استمرار وجود أغلبية تعارض فك الارتباط. وهي أغلبية لا شك تعارض الانسحاب دون اتفاق من أجزاء واسعة من الضفة الغربية.

 

وهي عندما تستسلم لشارون فإنها واثقة ان للنقاش معه حدوداً. ليست لديه حدود عندما يتعلق الأمر بالسياسة الحزبية من أجل الوصول إلى الحكم. ولكن هنالك حدود مصلحة وطنية تضبطه.

 

ولذلك فهي واثقة ان شارون لن ينسحب إلى حدود الرابع من حزيران ولن يفرط بالقدس ولا بالمستوطنات الرئيسية على طول الخط الأخضر، وانه، وهذا هو الأساس، ما زال متمسكا حتى النهاية دون تراجع مليمتر واحد بسياسات القوة. وقد رتب شارون ان يتم اغتيال احد قادة الجهاد المعروفين اسما للجمهور “الإسرائيلي” في نفس اللحظات التي يفترض ان يلقي خطابه فيها، وان يشكل ازيز الطائرات فوق غزة ودوي المدافع جوقة مرافقة للخطاب ولمركز الليكود.

 

على كل حال هنالك فرق بين تحليل الاسباب وتحليل النتائج. فاسباب فوز شارون التحيل داخل الليكود متعددة، اما النتيجة فواحدة. يبقى شارون في الحكم ويحارب ضد تقديم موعد الانتخابات ويدور نقاش كيف سوف يتعامل مع من حاولوا الانقلاب عليه. ولا بد ان حلفاءه الذين تحالفوا معه من خارج معسكره، وخاصة سيلفان شالوم، سيحاولون منذ الآن عصر النتيجة لصالحهم. فشالوم الضامر سياسيا دون حيثيات يتحدث عن تحالف مع شارون مجهزا نفسه للخلافة مقابل أولمرت من طرف شارون ونتنياهو من الطرف المقابل. ومعسكر نتنياهو يلعق جراحه. وسوف يستمر شارون بالضغط على الفلسطينيين لأنه الآن أقوى مما كان بنظر ذاته، ولأن وامريكا تتوقع من الفلسطينيين ان ينفذوا التزامات خارطة الطريق التي لم ولن ينفذها شارون على تفاهتها.

 

فهو سيزيد من النشاط الاستيطاني وسوف يستمر بإحراج الفلسطينيين حتى يحقق مراديه: أولا أن يقع الصدام مع المقاومة عموما وحركة حماس خصوصا، وثانيا أن يوافق الفلسطينيون إما على مرحلة انتقالية طويلة المدى باتفاق على اربعين بالمائة من الضفة، أو يتعاملون بهدوء مع الوضع القائم دون اتفاق. وسوف يشغلهم في هذه الأثناء بمفاوضات على كل تفصيل: المعابر والمطار والميناء والاستيراد والتصدير، كل شيء يتحرك من وإلى غزة يحتاج إلى اتفاق مع “إسرائيل”. و”يا هيك السيادة يا بلاش”.

 

ولا يفترض أن يقبل الفلسطينيون بالإملاء. و يفترض من ناحية أخرى ألا يسهلوا عليه المهمة. فاتباع الأساليب الخاطئة وغير الناضجة والاستعراضات والحماقات غير المبررة تموضع النقاش بعيدا عن مكانه الصحيح، أي سياسة “إسرائيل” وخطورة شارون وسياسته الاستيطانية والعسكرية.

 

وتحول النقاش إلى مسألة أساليب وتكتيكات وحماقات الجميع في غنى عنها. ولو كان الطرف صاحب الحق هو ايضا المناضل المقاوم، وهو أيضا الحكيم لما نفعت سياسات القوة الشارونية ولارتدت على صاحبها. لا حاجة للاحتفال بانسحاب “إسرائيلي” من طرف واحد في غزة هو جزء من محاولة لتسهيل تكثيف الاستيطان وتعميق الاحتلال في بقية المناطق المحتلة والظهور بمظهر الحزين الذي ضحى وقدم تنازلات مؤلمة. ولا حجة بعد الاحتفال للبدء بالاستعراضات العسكرية غير المفهومة. فمن لديه قوة ليس بحاجة ان يتخلى عنها ولا ان يستعرضها.

 

وربما كان استعراضها أسهل الطرق للتخلي عنها أو للنيل منها. لا علاقة بين الهدف وبين الاستعراضية هنا. إلا إذا كانت الاستعراضية هدفا معنويا قائما بذاته تفرزه طريقة تثقيف خاطئة في العمل المسلح الفلسطيني برمته موروث ومتوارث من أيام منظمة التحرير في لبنان والأردن. ليس الاستعراض ولا التنافس على إعلان المسؤولية بين فصائل هي نقاط قوة الكفاح المسلح في ظروف الاحتلال.

 

المعركة في مواجهة شارون الخارج للتو من مواجهة حزبية دون إقناع بموقفه بل بقوة السلطة والتهديد بتقويضها، وبقوة المجتمع الدولي هو شارون خطير لا يأبه بما يقال عنه، فلم يبق شيء الا وقيل. ولكنه يهتم بامكانية أن تخسر سياسات القوة التي يتبعها إذا كان من يديرها مقابله بارع ايضا ويعرف متى يواجه ومتى يتملص، ويخضع التكتيك للاستراتيجية والشكل للمضمون والأساليب للأهداف، ولا يخضع له بأي حال لأنه يعرف هو أيضا تأثير القوة في السياسة.

 

قلنا ان شارون الانتهازي إلى درجة العبث في الحياة الحزبية ليس مجرد انتهازي مارق فيما يتعلق بسياسة بلاده ومصالحها الوطنية كما يراها. وهو بعد أن كسب هذه المعركة أصبح أكثر خطورة لأنه سوف يستغل كل لحظة من الوقت لكي يترك بصماته على شكل الحل الدائم من بعده. قد يكسب شارون الجولة القادمة في الحزب، ولكنه إذا خسرها في موعدها الدستوري أي دون محاولة انقلابية فلن تكون لديه حجة لشق الحزب. ولذلك هو يعرف قيمة الوقت الذي تبقى له.