تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فلك نوح طراز 2005

2005-08-24

لم يكن اسبوع فك الارتباط الاسرائيلي عن غزة اكبر حملة عسكرية غير حربية يقوم بها الجيش منذ ان اقامه بن غوريون فحسب، بل كان أيضا اكبر عرض "ريالتي تي. في." في التاريخ منذ ان بدأ الناس بالتصرف والتحدث كأن هنالك كاميرا حاضرة طيلة الوقت كأمر طبيعي، فغيروا من لهجتهم، اصبحوا اكثر دراماتيكية واكثر كلاشيهيةً كأنهم "بوستر" او "ستيكر" او "ساوند بايت" تسويقي متجول، ومنذ أن شاهد آخرون كيف عليهم ان يتصرفوا في حالة الغضب والحزن والفرح فتصرفوا بموجب صورتهم التي رأوها في الإعلام، فتم نسخ وتناسخ الناس في هندسة جنكولوجية - تلفزيونية او للاختصار "جنزيونية".(سجل براءة اختراع)!
 

في اسبوع دراما فك الارتباط مع الواقع وتوثيق الارتباط مع الصور عن الواقع، وفي تسلسل وقائع الدراما وفصولها من ملصقات المستوطنين الى المواجهة المخرجة إخراجا محرجا بين المستوطنة والجندي المطأطئ الرأس ليس خجلا، بل لان عليه حسب السيناريو ان يبدو خجلا ومتألما لما يفعل، وهي تصرخ بابنها بهستيريا: "عندما تكبر لا اريدك ان تكون مثل هذا الجندي بل ان تكون جنديا يدافع عن الوطن!"، و الطفل الذي دربه المستوطنون ان يصرخ على الجندي الذي يضبط اعصابه، ليس لانه يجد صعوبة في ضبطها بل لان عليه ان يبدو رابط الجحش، عذرا الجأش، فالحديث هو عن جنود رابطي الجأش، وهكذا يجب ان يتصرفوا فيعيدوا انتاج صورتهم، وكون بعضهم قد صدقها لا يغير من كونها صورة. يصرخ الطفل ليحتار المشاهد بين الطفل البريء والجريء وبين الجندي الرابط الجأش، ليس لأن لا جأش له، بل لديه جؤوش. ولكن جهاده الاكبر على وزن لغة منتجي الصور عندنا هو ان يربطه فيحكم ربطه: "هل غسلوا دماغك، لماذا لا تنظر في عيني؟" وفي هذه الحالة يكرر الطفل جملة على أحد ملصقات حملة المستوطنين الموجهة للجنود من نوع "أخي أنظر في عيني!!"، هذا إضافة الى: اللعب بالكلمات والصور المستوحاة من مكاتب الدعاية والتسويق من نوع صورة خلفية لجندي ينظر الى مستوطنة وفي اسفلها جملة: "لكي لا تستوطن لك على ضميرك"، وصورة طفلة زرقاء العينين مع نفس الجملة، يضاف الى ذلك الدعاية الحكومية تحت شعارات عائلية تميز الاخوة أو الاخويات الهوليوودية على الاقل، من نوع: " المهم الا نفك ارتباطنا ببعض"، أو "لنعبر هذه المحنة سوية" أو "تساف بِيّوس"، (أمر مصالحة) على وزن " تساف جِيّوس" (امر تجنيد)، وهو ملصق ودعاية تلفزيونية حكومية بنفس نوع ولون خط الرسالة التي تصل للجندي عند دعوته للخدمة وقت الحرب. 
 

يضاف الى ذلك ملصقات بالبرتقالي على السيارات من كافة الانواع: "الشعب مع جوش قطيف"، " اين اختفى الخجل؟"، "اقتلاع المستوطنات انتصار للارهاب"، ومقابلها بالازرق: "تفكيك المستوطنات خيار الحياة"، "نخرج من غزة ونبدأ الكلام"، "ليعد الأبناء الى حدودهم، نخرج من غزة ونحمي البيت"...وعنوان الحملة العسكرية الرسمي لتفكيك المستوطنات: "يد للاخوة"، وكلمة يد هنا هي اختصار عبري لمد يد المعونة. 
 

ويضاف الى هذا كله مقالات كبار الكتاب المعارضين للاستيطان في الصحف الاسرائيلية الثلاث المشاركين في الدراما الرخيصة، الذارفين دمعة مع العائلة، لان العائلة كلها في حداد تضامنا مع حداد أحد أفرادها. ولكي تجتاز العائلة المحنة بسلام لا تجوز الشماتة. ومقال خافير سولانا في هآرتس، بعد مقابلة جورج بوش...في فزعة دولية لشارون على مستوى رأيه العام، مع وعود للاسرائيليين ان الكرة ستكون في الملعب الفلسطيني وان الامتحان القادم هو امتحان الفلسطينيين. 
 

ثم قبل الحملة بيوم خرجت الصحف عن طورها لان المنافسة بينها على اشدها ولانها تريد ان تبيع: صورة جندية، جميلة، بعين من وضعها على الاقل، ببلوزة تريكو عسكرية بسيطة وجريئة بالنسبة للباس العسكرية ولكنها تحمل كتاب التوارة مفتوحا وتقرأ بتمعن. طبعا ربما لا ترى سطرا واحدا اثناء التصوير المهم انها تبدو علمانية متحررة تقرأ التوراة في هذا اليوم. لا ندري ماذا نفعل بكمية الرخص الذي فاض علينا من ثنايا الصحف الحرة، الى ان وردت صورة تحمل الف معنى من صحافة الجهة الأخرى: صورة لا يمكنك ان تقشرها لكثرة طبقات القشور ولكثرة طبقات الوهم والعوالم الافتراضية المتضمنة فيها. قادة السلطة الفلسطينية في غزة يقصون شريطا( شريط فعلي، وقد حسبنا ان عادة الشريط والوسادة والمقص قد اختفت من الدنيا) يطلون برؤوسهم من فوق الشريط والمقص وحامله. تجمعوا وتصوروا لافتتاح مقر...مقر ماذا؟ مقر مركز البث الاعلامي المباشر الذي اعد خصيصا لنقل اخبار فك الارتباط. على الصفحة الاولى. هل انت معي عزيزي القارئ؟ يتم افتتاح مركز اعلامي من النوع الذي يقام في بلدان مختلفة عند انعقاد قمة او العاب رياضية دولية موسمية او غيرها. ولكنه يفتتح هنا بمقص وشريط من قبل اعلى مستوى في السلطة كانه صرح وطني أو منشأة صناعية أو ثفاقية. وهو مقر للبث الإعلامي لتغطية الحدث. وللصورة هنا اكثر من مغزى. فمجمل ما قام به العرب هو رد فعل او تفسير لخطوة شارون وذلك دون ان يسألهم احد. ولم يهم شارون هل يحتفلون ام يحدون. قرروا اقتحام الدراما الاسرائيلية العالمية التي اخرجت وانتجت دون فلسطينيين ودون عرب بالاحتفالات. واختلفوا على سبب الاحتفال، هل السبب هو انتصار المقاومة ام انتصار عملية السلام. واتفق العالم معهم ان هنالك سبباً للاحتفال وان عليهم ان يقابلوا الحداد الاسرائيلي واحتفالاتهم هم بتزويد العالم بسبب أو باسباب للاحتفال من نوع "ضرب بنى الارهاب التحتية". وتقرر الحكومة الاسرائيلية اليوم بناء الجدار حول معاليه ادوميم، ويقول الوزير العمالي رامون ان الادارة الأميركية تعارض بناءه ولكنها لن تفعل شيئا بعد فك الارتباط.
 

لم يسكب هذا الكم من القطر السكري الدبق على صفحات الصحف في دولة حديثة على ما اذكر، كما في هذه الايام في الصحف الاسرائيلية، ولم يتم استخدام هذا الكم من التعابير القومية المتعصبة من قبل اليمين واليسار حول حداد اليهود ومنع صراع الاخوة وحول حوار الاخوة...حتى العرب في اسوأ شطحاتهم الرومانسية القومية لم يعبروا عن رغبتهم في إعادة انتاج القبيلة على هذا النحو. 
 

وأنا لا اضيع هنا سطرا واحدا حول وصف البيوت والمنازل وعملية الاقتلاع، فالكذب والعهر هنا لا يستحقان حتى التعليق، ولو جاء الكذب من ايلي فيزل المنافق الابدي (نيويورك تايمز 21 اغسطس 2005). (اقترح في هذه المناسبة احتفاليا الغاء جائزة نوبل للسلام فهي خلافا لغيرها من جوائز نوبل جائزة نفاق لا اكثر ولا اقل). من المهم فقط ان نذكر أن الحديث هو عن مستعمرين ومستعمرات. واقدر ان المستعمرين في الجزائر قد بكوا بعد جيلين، وطوروا حبا للاقليم الذي استعمروه. ورومانسية المستعمرين العنصريين معروفة في افريقيا. ولكن هؤلاء خلف الاسلاك الشائكة، بممارساتهم في نفي المقيمين في المكان والرغبة بالحلول مكانهم لم يتصفوا باي رومانسية لا شكلا ولا مضمونا. وقبعوا خلف الاسلاك الشائكة والجدران والبنادق. اما السكان من حولهم فكانوا بأنفسهم لاجئين اقتلعوا من بيوتهم في قرى ومدن الساحل الجنوبي لفلسطين التي تبعد كيلومترات معدودة عن مخيماتهم. هؤلاء هم الذين اقتلعوا من بيوتهم، وتفكيك المستوطنات على اهميته وضرورته لا يعوضهم عنها. ولكن الدراما التلفزيونية، بما في ذلك عربيا، طمست هذه الصورة. وحتى عندما قيل الكلام عن تغييب الفلسطينيين، وعن ان هذه المعركة التي يقوم التلفزيون بتصويرها ليست المعركة الحقيقية، فإن الصور قد تكلمت لغة أخرى. لقد صور التلفزيون لعبة شارون ونقلها للعالم كأنها اللعبة الوحيدة في المدينة، ولم تغير بعض التعليقات في نقد هذه الصورة في الصورة المبثوثة ذاتها: صورة "الثمن الباهظ" الذي يدفعه المجتمع الاسرائيلي، المواجهة بين الجنود والمستوطنين والتعاطف مع الجنود الباكين على مصير المستوطنين واضطرارهم ان يلبوا نداء الواجب، وصورة معاناة الجنود وضبط اعصابهم وانهيار هذه المجندة او تلك بكاء اما من الحر او من الكاميرات او فعلا من منظر المستوطنات الباكيات او النائحات او العافرات السم بكل اتجاه.
 

وسياسيا فرزت الصورة كما خشينا وكأن الدنيا مقسومة بين خيارين اما شارون او المستوطنين، والخشية ان يختار حتى العرب احد المعسكرين للتعاطف...والخوف ان يحاول عربي اثارة الاعجاب بالادعاء ان قلبه يكاد يخونه وهو يشاهد الباكين على رسمٍ درس. وعند العربي ضعف للبكاء على الطلول منذ الاول الثانوي. والمصيبة انه بدل ان تقاطع فضائية عربية وزارة الخارجية الاسرائيلية يحصل العكس. ولكثرة الطلب كان من ضمن من جهزتهم الخارجية الاسرائيلية للنطق في الفضائيات العربية شاب بدوي خدم في الجيش. 
 

في خضم محاولتي تجنب رؤية هذا كله، ثم مراجعته قراءةً بعد اسبوع، وجدت نفسي مشدوها امام اختفاء قعر المشهد الإعلامي تماما، بحيث لا يقف التدهور عند حدٍ، او مستقر. انفخت القعر. انفزر القاع. انبعجت الارضية. ( لم انجر عزيزي القارئ وراء مزاج لا يعبر عنه الا بالعامية. فمع ان فخت تستخدم للسقوف وليس للقيعان، وفزر للاقمشة والجلود، إلا انها جميعا مصطلحات عربية فصحى كما وردت في قاموس المحيط وفي تاج العروس). لم يبق لا قعر ولا قاع. وهكذا نقرأ (هآرتس 14 اغسطس آب) ان "المدافعين عن الرفق بالحيوان اجتمعوا مع مسؤولين حكوميين لتطبيق خطتهم بشان انقاذ الحيوانات البيتية التي سوف تترك في جوش قطيف". اسم المنظمة "نوح"، تيمنا كما يبدو بفلك نوح الذي بناه من خشب قطراني كما جاء في التوراة لانقاذ زوج من كل دابة تدب على وجه البسيطة، أو زاحف يزحف على بطنه، أو ذي جناحين يطير في السماء قبل أن يأتي عليها الطوفان. 
 

وحسب اقوال رئيسة المنظمة شيلي جلوزمان لصحيفة هآرتس فإن مكتب رئيس الحكومة قد تبنى الخطة، وتابعت قائلة أن "هنالك مئات القطط وبضعة دزينات من الكلاب يجب سحبها من القطاع وإلا فسوف تبقى دون ماء وطعام ومكان للعيش". المهم هنا ان كافة فئات الشعب ومؤسساته تساهم في هذا الجهد الوطني الكبير ل"إنقاذ الاخوة". وكأن القطط والكلاب لا يجوز ان تعيش عيشة الكلاب والقطط في غزة المحررة. ومع ان النشيطة المذكورة لا تدرك عما تتحدث الا انني مضطر مع ذلك للقول أنه لا حدود للسماجة. وقد نشرت اسوشييتد برس ( 18 اغسطس آب) نبأ عن منظمة أخرى "شاي" ينتظر نشطاؤها من وزارة الامن اذن دخول القطاع لإنقاذ الحيوانات. اما موقع منظمة "شاي" هذه فيصور نشيطات المنظمة مع الجنود والمجندات على حاجز ايرز في صورة تاريخية قبل بدء حملتهم لانقاذ الحيوانات التي سوف يتركها المستوطنون وراءهم. 
 

ويوم 23 آب، اغسطس تعود هآرتس مرة أخرى لتغطي أخبار منقذي الحيوانات المثاليين اولئك، توائم الجنود في عملية إعادة كائنات حية أخرى الى الوطن. وهذه المرة في الضفة الغربية في مستوطنة كديم. تزف لنا الصحيفة اللبرالية نبأ وصول السيدة افيتال فيرسكن الناطقة بلسان "جمعية رفاه القطط في اسرائيل " الى كديم لإنقاذ القطط في مستوطنتي جاتيم وكاديم وقد عصرت هذه الخطوة النبيلة دموعا من عيني المستوطنة مارتين اشجاري التي قالت انها لم تعد تستطيع وحدها اطعام عشرين قطة تجمعت في ساحة بيتها. والمهم والاهم ان الناطقة المدربة على النطق تقتبس الرمبام( رابي موشي بين ميمون) حكيم اليهودية وفيلسوفها الأول المعروف عربيا باسم موسى ابن ميمون الذي كتب بالعربية والذي قال حسب المناضلة اعلاه انه "لا فرق بين القسوة تجاه الحيوانات والقسوة تجاه البشر". وما زالت هنالك خمسون قطة في جانيم، ومائة الى مائتين في كاديم، والمئات في جوش قطيف. وتحتاج المنظمة الى نصف مليون شاقل لتأمين مأوى لها. وقد اصدرت منظمات الرفق بالحيوان نداءات طالبت فيها الجمهور بتبني الكلاب والقطط وان تفسح مكانا لهؤلاء القادمين الجدد من المناطق التي تم الانسحاب منها.
 

وعلى ذكر المساواة في القسوة، لا تقدم الكلاب طلبات لم شمل ولا تطالب القطط بتصاريح أو اقامة مؤقتة او دائمة وذلك دون أن تثبت يهوديتها. وبقي ان نسأل لماذا لا يقيم العرب منظمات رفق بكلابهم وقططهم بحيث تصبح مناطقهم لائقة لسكن كلاب وقطط الأسياد، أو لكي تضاف منظمات جديدة الى قائمة الجمعيات التي تجري حوارا مع المنظمات الجارة؟ الكرة في الملعب الفلسطيني لتقديم الجواب. على كل حال عدم وجود مثل هذه الجمعيات حاليا وفر علينا بعض التراشق بالبيانات حول قدرتها ان ترفق بالحيوان لا اقل من زميلاتها الاسرائيليات، وانها لا تفرق بين قطة وأخرى خلافا للمنظمات الاسرائيلية...انظروا أعزائي القراء الى نصف الكأس الممتلئ إذ لم نضطر للمرور بهذه التجربة.
 

إزاء طوفان الإعلام والفضائيات الحالي وتهديده لإبادة كل ما ليس صورة ذات بعد واحد أو ظلا لصورة، أرى ضرورة لفلك نوح جديد طراز 2005 ، وأن ندخل فيه زوجا من جمعيات الرفق بالإنسان وأن نختار زوجا على الأقل من الصحفيين المستقيمين لكي نحافظ على هذا الجنس من الطوفان أعلاه، وزوجا من المشاهدين الذين لا تنطلي عليهم الصور التلفزيونية الرائجة لإنقاذ هذا الجنس ايضا، وزوجا ممن يرفضون قراءة مقال لخافير سولانا ويرفضون اعتبار جائزة نوبل للسلام مهمة ويرفضون المشاركة في حفلات استقبالهم، وزوجا ممن لا يقرأون كبار الكتاب وهم يكتبون مقالا كلفتهم بكتابته صحيفة عشية وقوع حدث كبير، وزوجا ممن لا يعتبرون المشاركة في حفل استقبال أمرا مهما، وزوجا من أصحاب المعد الحساسة الذين تثير فيهم تصريحات كوفي انان في مدح شارون الرغبة بالتقيؤ، وزوجا ممن يعتبرون النفاق والكذب حتى لو كانت مدفوعة الاجر صفات سيئة، وزوجا ممن لا يعتبرون النجاح باي ثمن قيمة، وناسا طيبين آخرين