تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

غرائب ما يسمى بـ "عملية صنع القرار"

2003-09-18

لدى شارون رأي عام يؤيد استمرار تصعيد القمع وسياسة الاغتيالات مع انه يؤكد أنها تضر او تساعد على المدى القريب وتضر على المدى البعيد، ولكنه يؤيد وقفها موقتاً وليس على المدى البعيد! غريب أمر الرأي المكنّى عاماً، أيّد منح "خريطة الطريق" فرصة مع انه لم يصدق أن حكومة محمود عباس ستحارب الإرهاب، ومع انه اعتقد ان عرفات يديرها. وهو يدعم شارون رغم انه لا يثق بشارون وغير راض عنه. وهو يؤيد طرد عرفات مع معرفته أن هذه الخطوة لن تساعد في وقف الإرهاب. أمامنا عينة مختارة من استطلاعات الأشهر الأربعة الأخيرة منذ تعيين الحكومة الفلسطينية الجديدة وحتى استقالتها:

 

في استطلاع معاريف 2 أيار (مايو) 2003: سؤال: 53$ راضين عن عمل رئيس الحكومة. وانخفضت نسبتهم أخيراً دون 50$. ويدعم 46$ تعيين ابو مازن رئيساً للحكومة الفلسطينية لكن 26$ فقط يعتقدو ان أبو مازن سيحارب الإرهاب، و71$ يعتبرون ان عرفات (مقابل 7$ أبو مازن) هو من يدير الأمور في السلطة الفلسطينية.

 

وفي 13 حزيران (يونيو) 2003، أي بعد محاولة اغتيال الرنتيسي، نشرت "يديعوت احرونوت" استطلاعاً اظهر ان 33$ يعتبرون ان سياسة الاغتيالات مفيدة، وقال 18$ انها تفيد في المدى القصير وتضر في المدى البعيد، لكن 38$ اعتبروا انها تضر. حالة ارتباك حقيقية. وأيد 30$ الستمرار فيها، فيما طلب 58$ وقفها موقتاً. وطبعاً لم تتوقف اسرائيل عن الاغتيالات، ولا حتى موقتاً.

 

وفي 4 تموز (يوليو) 2003، بعد زيارة ابو مازن لمكتب شارون أفاد 63$ في استطلاع نشرته "يديعوت" انهم يدعمون "خريطة الطريق" التي عارضها 26$، مع ان 62$ أكوا في الآن نفسه ان الفلسطينيين لن يبذلوا جهداً لوقف الإرهاب ضد إسرائيل، كما التزموا في "الخريطة".

 

وفي 22 آب (اغسطس) 2003 عارض 62$ الاستمرار بالمحادثات مع ابو مازن بعد عملية القدس، وأيد 35$ مواصلتها (استطلاع داحاف- مينه تسيماح، يديعوت احرونوت 22/8/2003)- الاستطلاع الأخير) وعارض 57$ ان تستمر اسرائيل في تنفيذ التزاماتها في "الخريطة"، ورأى 78$ ان عرفات يقف وراء العمليات؟ وأيد 53$ طرده.

 

وفي 10 ايلول (سبتمبر) أي قبل قرار الحكومة الاسرائيلية الأخير نشرت صحيفة "هآرتس" استطلاعاً يبدي فيه 46$ من الاسرائيليين تأييدهم "لطرد عرفات او قتله"، وفي استطلاع لـ "يديعوت احرونوت (12 ايلول بعد يوم من القرار) ابدى 60$ من الاسرائيليين موقفا كهذا واعتبر 28$ منهم ان من شأن هذه الخطوة أن "تقلل الإرهاب" على رغم أن غالبية برزت للمرة الاولى في الاستطلاعات (53$) تعطي لشارون علامة سيئة في "معالجته للإرهاب".

 

اذا كثفت الدولة التحريض فإنها تصنع الرأي العام حتى في دول تتبع نمط نظام ديموقراطي، تقولبه رغم تناقضاته. والرأي العام في إسرائيل مرتبك ليس لأن سياسة حكومته مرتبكة، بل لأن سياسة حكومته تربكه. ليست لديه أوهام في نجاعة سياسة الحكومة في "مكافحة الارهاب"، ولكنه يتبنى الخطوات التي تقترحها بدون أوهام وبنزعة انتقامية ثأرية واضحة. وتغذي الحكومة هذه النزعة لأسبابها المناقضة لتوجهات الرأي العام الذي يؤيد حلاً سياسياً ترفضه حكومته. ومن هنا الإرباك، ومن هنا أيضا تأييد الحكومة انتقاماً، وبدون منطق سياسي، بعدما أقنعته حكومته بأن الفلسطينيين يرفضون السلام. والرأي العام الإسرائيلي يدرك أن حكومته أيضاً لا تقبل ما تدعي أن الفلسطينيين يرفضونه. ولذلك تعج الاستطلاعات بالتناقضات والتنافر المعرفي. وهذا ما يحصل لقرار يهدف في ما يهدف الى إرضاء الرأي العام.

 

يوم 11 ايلول الجاري اتخذت حكومة اسرائيل القرار الآتي: "عادت أحداث الأيام الأخيرة فأكدت ان عرفات هو عائق أمام كل عملية مصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين. ستعمل اسرائيل على إزالة هذا العائق، في الزمان والوسائل التي تقرر بشكل منفصل". وهذا ما دعا الى تفسير القرار كقرار "مبدئي" غير معد للتنفيذ الفوري. كما عاد وأكد ذلك وزير الخارجية الاسرائيلي يوم 15 ايلول، عندما قال ان موضوع قتل عرفات لم يبحث اصلاً. لا شك ان القرار صيغ بشكل دقيق. وهو يوفق بين حاجات الرأي العام والقدرة الفورية على التنفيذ. وقد فسره الاعلام العربي كقرار بالإبعاد لسببين: أولهما، أن وزراء إسرائيليين عديدين اقترحوا الإبعاد في الماضي مع معرفتهم بأن الإبعاد إذا تمت مقاومته قد يعني القتل. والوزراء في إسرائيل يثرثرون لأسباب عديدة ليس لأغلبها علاقة بموضوع الثرثرة. وثانياً، لأن كلمة "سيــلوق" العبرية اذا تعدت الى شخصٍ مفعولٍ به فإنها تعني طرده أو إبعاده. ولكن الترجمة غير دقيقة فالفعل تعــدى في القرار أعلاه إلى عثرة، أو عائق. وهنا يعني الفعل إزالة أو إزاحة العائق، وإزالة العائق تحمل معان عديدة، احدها إبعاده.

 

وقد استغل الفلسطينيون القرار بحق، واستغلوا المعارضة الدولية للقرار لفضح حكومة حمقاء متهورة تجسد الشر كله في شخص يتوجب التخلص منه من دون حساب لأبعاد هذا الخطوة، ناهيك عن أن الكلام لا يدور على مجرد شخص، بل عن قائد منتخب برقابة دولية برئاسة رئيس أميركي سابق، وله مكانته التاريخية وموقعه قبل توقيعه اتفاق اوسلو الذي زكاه بجائزة نوبل. جملة اعتراضية: هل يذكر أحد هذه الجائزة؟ اعتقد انه حامل الجائزة الوحيد الذي يتجنب النــاس ذكر لقبه هذا في الشرق والغـــــرب. هنالك أمر ما محرج في هذه الجائزة.

 

من المبكر في اي حال الاحتفال بالخطأ الإسرائيلي كورطة. ولكن لنبدأ أولاً بمقومات الارتباك في القرار الذي قد يجعل منه قراراً متغطرساً اتخذته حكومة في أزمة. واضح انه ليس في جعبة حكومة شارون إجابة شافية على "المسألة الأمنية" التي جاءت بشارون إكسيرها الشافي بصفته خبير "مكافحة الارهاب". الرجل مصرٌّ على انه ليس أمام المجتمع الإسرائيلي إلا الصمود وخوض حرب الاستنزاف إذا لزم، لأنها حرب لا-خيار وليست حرباً اختيارية. إننا نقف أمام حكومة يتنافس أقطابها في المزاودة ليس فقط في موضوع اغتيال ياسر عرفات، وإنما أيضاً في رفض تقليص ميزانية الدولة كل في وزارته في نوع من الديماغوجيا الاجتماعية التي ترافق الديماغوجيا الوطنية مثل ظلها.

 

ولا يختلف اثنان في إسرائيل على ان الوضع الأمني، أي السياسي، أي فشل شارون في التعامل مع الأمن والسلام على حد سواء، هو السبب من وراء توقف معدلات النمو وانخفاض معدلات الإنتاج والركود الاقتصادي وتوقف الاستثمار في إسرائيل وشحة الصرف الجماهيري على الاستهلاك وانقطاع السياحة، اللهم إلا سياحة المجانين المهاويس لأسباب صهيونية دينية. إنهم يرفضون تحمل التبعات الاقتصادية لسياستهم بالضبط مثلما يرفضون تحمل التبعات الأمنية. يريدون احتلالاً من دون ثمن. ولكي نفهم عمَّ يجري الكلام في الوزارات المختلفة علينا أن نتذكر بأن حكومة إسرائيل قلّصت الميزانية في العام 2003 بمبلغ 11 بليون شاقل، وأن الاقتراح الذي تتم مناقشته حالياً يقضي بتقليص 10 بلايين شاقل أخرى. وهذا ما يلزم برأي اقتصاديي وزارة المالية الإسرائيلية لسد العجز في ميزان المدفوعات وتخفيف عبء الضرائب وذلك لتشجيع الاستثمار، يرافق ذلك طبعاً توجيه مصروفات الدولة ذاتها باتجاه الاستثمار في البنية التحتية، وتقليصها في مجالات الرفاه مثل الصحة والتأمينات الاجتماعية وغيرها. لا بد ان تبرز والحالة هذه مظاهر فقر مدقع في هذا البلد. ولكن ليس لدى هذه الحكومة من جواب. وهي لا تخفف من حجم الكارثة على المدى القريب بمساعدة المتضررين، بل تصرّ على إعادة هيكلة الاقتصاد باتجاه أكثر ليبرالية ليزيد الفقراء فقراً في خضم الأزمة.

 

توجه الحكومة النقمة الأمنية والطبقية نحو عناوين خرافية، وتساهم في إرباك رأيها العام. وهي تحمل الرجل القابع في المقاطعة مسؤولية عدم توفر أي حل سياسي على أجندتها، وتحمله حتى مسؤولية فشل "خريطة الطريق" التي لم تقبلها ولا حتى نظرياً. وهي إذ تضيّق على الناس وتسدّ الآفاق من حولهم تخلق ذاتاً فلسطينية استشهادية فاعلة تتهمها بعدم التقدم الذي لا ترغب فيه أصلاً على المسار السياسي. وعلى الناس أن تصمد اقتصادياً وأمنياً لأنه لا يوجد بديل، والمذنب هو الفلسطينيون الذين يرفضون السلام. وعندما يريده أحدهم كاستثناء يقومون بإفشاله.

 

وشارون يصعد التحريض ضد هذا العنوان إلى درجة أن الناس تطالبه بعدم الاكتفاء بالكلام وأن يفعل شيئاً. وإذا كان الرجل مصدر كل المصائب فلماذا لا يتم التخلص منه؟ حسناً، تتخذ الحكومة الإسرائيلية قراراً يفش قلب الناس لفترة، ويتضح انه غير قابل للتنفيذ ليس لأن القرار أحمق بل لأن "المجتمع الدولي ملون ومتملق" وغير ذلك. يتخذ شارون إذاً قراراً يتبعه فوراً الاستنتاج بعدم القدرة على تنفيذه، كما في خارطة الطريق. واخيراً تبنى شارون أيضاً موقفاً عاماً بشأن ضرورة منح المساواة للمواطنين العرب في تعليقه على قرارات لجنة التحقيق الرسمية حول ملابسات مقتل مواطنين عرب في تظاهرات تشرين الاول (أكتوبر) عام 2000، ثم ألف لجنة وزارية من وزراء عنصريين لفحص التوصيات، أي لتفريغها من الموقف الكاذب الذي تزين به ليوم واحد. ولكنه في حالة القرار الأخير يرغب فعلاً في تنفيذ قرار حكومته بشأن عرفات.

 

وهو يعرف أن القرار لا يقدم ولا يؤخر، فالعقبة أمام التخلص من عرفات لم تكن غياب قرار حكومي رسمي من النوع أعلاه. كانت العقبة موقف الولايات المتحدة من خطوات غير محسوبة النتائج. وأميركا غير معنية بحالة فوضى. كما أن المشكلة هي الحالة الفلسطينية ذاتها. والاهم من هذا كله هو أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية كانت تعارض مثل هذه الخطوة. وما حصل قبل اتخاذ القرار الأخير هو أن الأجهزة الأمنية باتت مقتنعة بضرورة الطرد بدءاً برئيس الأركان ونهاية برئيس الشاباك ناهيك عن موفاز.

 

لماذا غيّر هؤلاء (ما عدا موفاز) موقفهم؟ هل عرفوا أموراً عن عرفات لم يعرفوها في السابق؟ لا، إنهم أيضاً غير معفيين من الاعتبارات السياسية. حسناً، ما هي هذه الاعتبارات السياسة إذاً؟ أولا، يحصل لديهم لأول مرة تأكيد قاطع وواضح من مصادر فلسطينية أن عرفات شخصياً هو عقبة أمام أي فلسطيني يريد التغيير بالاتجاه المطلوب أميركياً وإسرائيليا، ومنهم من اقتُبِس علناً، ومنهم من يهمس في الأروقة.

 

ويسأل القارئ النبيه. لنفترض أنهم قاموا بـ "إزالة العثرة"، فما هي المشكلة التي تحلها هذه الخطوة؟ بالعكس، وجود المقاطعة بشكلها الحالي عنوان لبقية استقرار, إنها تغذي وهم وجود سلطة. وأي سلطة؟ يجب ان يزول هذا الوهم. حتى تشكيل الوزارات عيب، فالجميع تحت الاحتلال. إن غياب ياسر عرفات لن يكون تبديل سلطة بسلطة جديدة بل تبديد وهم السلطة وعودة إلى ما قبل اوسلو، وهذا أفضل. احتلال ومواجهة الاحتلال. ولن يكون عرفات موجوداً ليتهموه. حسناً، ولكن إسرائيل غير موجودة مباشرة وليس هنالك من يدير الاراضي المحتلة ولو جزئياً كما كان في الانتفاضة الاولى. والأمر يعني الفوضى، إما الفوضى وإما سلطة جديدة أكثر اعتماداً على إسرائيل. فحالة الفوضى تدفع إلى طلب النظام، أي نظام. هل يدفع شارون وأجهزته الأمنية باتجاه الفوضى استراتيجياً خلافاً لاميركا؟ ربما، هذا وارد في الحسبان. نقول ذلك رغم أننا نعرف أنهم سيكونون على المدى القصير أول المتضررين من الفوضى.

 

وأخيرا فإن شارون يرفع بالتدريج وبالتعويد الممل سقف المطالب الإسرائيلية، ويخفض سقف ما يرضى به هؤلاء الذين لا يتفقون مع إسرائيل. فأوروبا الآن تطالب إسرائيل بعدم قتل او إبعاد عرفات، ولا يخطر ببالها ان تطالب إسرائيل بالتفاوض معه أو بتطبيق قرارات ما كان يسمى مرة بالشرعية الدولية.