تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

غاز مسيل للدموع.. وتصريحات مسيلة للدموع

2002-04-11

بقدرة قادر تحول قادة ديكتاتوريات فردية الطابع الى “مواطنين” مجرد مواطنين. بالضبط في اللحظة التي تحولت فيها الجماهير العربية الى مجموعات مواطنين فاعلين خرجوا الى الشارع من أجل التأثير على صنع القرار، أي لممارسة مواطنتهم او جانب منها على الاقل، في اللحظة التي ارادت فيها الجماهير من زعماء الدول ان يتصرفوا كقيادة تتخذ قرارات ضد السياسة الأميركية وضد السياسة الإسرائيلية تحول قادة يحكمون فوق القانون بناء على رؤيتهم الفردية بل وبناء على مزاجهم الفردي في حالات عديدة، تحولوا الى “مواطنين”، مجرد مواطنين. لقد تحول الديكتاتور العربي الى “مواطن قلق”.

 

إزاء تراكم الاحتجاج الجماهيري وتوسع الحركة الجماهيرية بشكل غير مسبوق عبر قناة التعبير الشرعية، القضية الفلسطينية، يسترجع قادة عرب مفهوم “المواطنة” لدى الحديث مع الناس كرديف لكلمة “العجز”.

 

“أنا مواطن قلق مثلكم” لا تعني إلا “لا تتوقعوا مني شيئا فأنا عاجز مثلكم”، القائد الكلي القدرة طيلة أيام العام والذي يمنح السلطة لمقربيه، بل لأقاربه، والذي تسعى الحركة الديموقراطية وحركات حقوق الانسان الى تحديد قدرته الكلية ببعض الضوابط القانونية حتى لو كانت غير ديموقراطية، أصبح عاجزا وأعلن عجزه أمام الجماهير. ولأنه لم يصبح ديموقراطيا بنفس قدرة القادر فإن خياله السياسي لم يتجاوز ان يستخدم “المواطنة” كرديف “للعجز”. لا يوجد مواطنون في الوطن العربي طيلة أيام السنة، وفي اللحظة التي أراد مئات آلاف البشر ان يمارسوا بعدا واحدا من ابعاد المواطنة: التأثير السياسي دون الابعاد الأخرى: الحقوق القانونية، الحريات الفردية...، عندما ارادوا ممارسة بعد واحد فقط، حسدتهم الزعامات عليه واختطفت منهم “المواطنة” ليس قبل ان تجعلها مساوية لكلمة العجز. “كلنا مواطنون قلقون وعاجزون”.

 

لقد فجرت فلسطين كعادتها بركان الألم والاحباط العربي من انعدام العدالة والضمانات الاجتماعية وحتى انعدام حقوق الانسان ناهيك عن انعدام المواطنة وغياب المواطن، لأن اللغة الفلسطينية هي لغة الآلام العربية الرسمية، إليها تترجم آلام الفقراء المحلية وتضرعات العجائز وإحباطات المثقفين. ولكن جولة الاحتجاج الحالية اختلفت حجما واتساعا واستمرارية، ويبدو انه قد بلغ السيل الزبى. وحتى معاصرو الاحتجاج العربي عام 1956 تضامنا مع مصر وجمال عبد الناصر يؤكدون ان الاحتجاج هذه الجولة اقوى وأكثر اتساعا. ولكن الاحتجاج في حينه بدا عظيم الأهمية لأنه ارتبط بمشروع سياسي ذي آفاق عربية شاملة، لأن الجماهير رأت بقرارات جمال عبد الناصر التي يحاربها الغرب ويواجهها البريطانيون والفرنسيون نموذجا للدول العربية، ولذلك لم تكن حركة السويس الجماهيرية تضامنية بل سياسية، تقودها تيارات سياسية ذات اجندة.

 

الحركة الشعبية العربية الحالية هي الظاهرة السياسية الاكثر اهمية مقابل العدوان الاسرائيلي، وهي تؤكد ان الشارع السياسي العربي ينبض بالحياة. ولكنها شعبية بكل ما في الكلمة من معنى “غير سياسي ايضا”.

 

ماذا حصل؟ لقد خرج الشعب الى الشوارع. هكذا تبدو حركة الاحتجاج الحالية. ولم يجد قيادات سياسية ديموقراطية تطرح نفسها على المستوى الوطني العام بديلاً للنظام القائم. ولذلك تفاوتت ردود فعل الانظمة على هذه الحركة من اطلاق النار والغاز المسيل للدموع الى اطلاق التصريحات المسيلة للدموع من نوع “انا مواطن مثلكم” لاحتواء الحركة الجماهيرية. فخلافا للبرنامج الديموقراطي لا تفرق قضية فلسطين بين الشعوب والانظمة فحسب، وإنما هي ايضا تجمع بينها بصياغات سياسية معينة. وباستطاعة اي نظام عندما يؤكد على ضرورة تنفيذ القرارات الدولية وتينت وميتشل التي قبلتها القيادة الفلسطينية ايضا ان يستوعب النقمة الجماهيرية وأن يتظاهر مع الجماهير ضد شارون وممارساته. فقضية فلسطين هي الرمز والنبض والروح والقناة الشرعية للشارع السياسي العربي، ولكنها لا تستطيع ان تكون بديلاً للبرنامج السياسي.

 

ولا نستطيع أن ننهي هذه العجالة حول اشرف ظاهرة جماهيرية عربية دون ان نقول جدليا انه حتى مع قضية فلسطين المعقدة ذاتها لا يمكن ان نتعامل بشكل ناجح يتجاوز كتابة “اللعنات” و”الاحجبة” على اللافتات دون وعي سياسي ديموقراطي متنور بطبيعة المواجهة بين الحركة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية من جهة والصهيونية كفكر ونظام وممارسة كولونيالية من جهة اخرى.

 

بماذا اثرت الحركة الجماهيرية العربية؟

 

حتى في هذه الفترة القصيرة بإمكاننا التلخيص ان اثر هذه الحركة كان عظيما. نقول ذلك لكل من قطع الامل من العرب ولعن القومية العربية وتبرأ منها (ويدّعي حاليا، لإخفاء تراجعه، أنه لعن الانظمة فقط).

 

فهذه الحركة الجماهيرية العفوية الشعبية، برغم عفويتها وليس بسببها، هي التي ادت بالولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وبقية اذناب وزعانف السياسة الاميركية الى محاولة امتصاص النقمة واحتوائها. ومحاولة الاحتواء لا بد ان تشمل تغيرا سياسيا. لا يمكن ان تحتوى هذه الحركة السياسية العربية العظيمة دون تغيير سياسي، ولم تعد الجماهير ترضى بمجرد تصريحات اميركية من نوع “على اسرائيل ان...” وإنما ترغب برؤية نتائج. ولأن الجماهير العربية مقتنعة بشكل لا يطاله الشك بأهمية العلاقة الاسرائيلية الاميركية فإنها واثقة من قدرة الاميركيين على الضغط على اسرائيل. ومطالبة شارون الولايات المتحدة بألا تضغط عليه تعني امرين: 1) انها لم تضغط عليه حتى الآن 2) انه يخشى هذا الضغط.

 

هنالك ائتلافات عديدة تحكم اسرائيل: حزب الليكود والعمل، الجيش والنخب الاقتصادية، النخب السياسية من الطبقات الوسطى وقيادات الاقليات الاثنية الجديدة،... وغيرها من الائتلافات الاجتماعية والحزبية، ولكن الائتلاف الاكثر اهمية الذي يحكم اسرائيل هو الائتلاف الاميركي الاسرائيلي.

 

ومهما تكبرت اسرائيل وتنافخت فخرا باللوبي الصهيوني الاميركي فإن اميركا هي الحزب الاقوى في هذا الائتلاف. وهي قادرة على فرض إرادتها لو ارادت، ولكنها لا تريد ذلك حتى الآن، ولا ارادتها التي ستفرضها شبيهة او تقترب من الارادة العربية. ولكن، الى ان تتبلور حركة قادرة على التأثير مباشرة على الرأي العام الأميركي، فإن الأسلوب الوحيد للتأثير في هذا السياق هو هذه الحركة الجماهيرية العربية التي تؤثر مباشرة على القرار السياسي الأميركي المتعلق بالمنطقة و”الحفاظ على الاستقرار” فيها، قبل أن تؤثر حتى على القرار السياسي العربي. فالأنظمة العربية لم تحاول حتى الآن أن تؤثر حتى دبلوماسياً بشكل فعال على الولايات المتحدة، وتم التراجع عملياً حتى عن قرار وزراء الخارجية العرب بطلب فرض عقوبات من مجلس الأمن على إسرائيل إذا لم تنفذ قراراته حسب البند رقم 7 الملزم. ويبدو انه لكي لا تحرج اميركا باستخدام الفيتو اكتفت الدول العربية ببيان من الأمين العام ورئيس مجلس الأمن، الشيطان وحده يعلم ما هي المعادلات التي يتفقون عليها لتجنب الأدوات الناجعة التي استخدمت بشكل فعال ومؤثر للغاية في مناطق أخرى في العالم.

 

ستحاول الولايات المتحدة ومعها أوروبا الرسمية وروسيا ان تخلق معركة وهمية: “انسحاب إسرائيل من المدن الفلسطينية”. هذا ليس مطلباً فلسطينياً، هذا مطلب مجلس الأمن والولايات المتحدة من إسرائيل بعد عدوانها، فليطبقوه. أو فلتطبقه إسرائيل لأنها لا تريد ان تبقى في المدن لتدير حياة السكان من الدياليزا لمن يحتاج الى غسل دم وحتى تزويد المدن بالماء والكهرباء وفرص العمل والمؤن، ولأنها تخشى نموذج جنين... لن تبقى إسرائيل في المدن. وعجز مجلس الأمن عن تنفيذ فوري لانسحاب إسرائيل هو عجز مجلس الأمن. ولكن إسرائيل سوف تنسحب في النهاية من المدن ومن المفترض ألا يقايض الفلسطينيون هذا الانسحاب، ولا حتى الانسحاب إلى خطوط أيلول 2000، أي ما قبل الانتفاضة، بشيء. لا يفاوض الطرف الفلسطيني، ولا ينبغي ان يفاوض سياسياً، على هذه المواضيع.

 

تخطط حكومة شارون لأن تعلن لشعبها عما قريب عن إنجاز المهمة العسكرية وبدء الانسحاب، ليس بسبب الضغط الدولي بل لأن المهمات المستمرة من مدينة وبلدة لأخرى قد انتهت برأي الجيش الإسرائيلي، و”الدليل” الذي سيقدمونه لشعبهم هو قائمة المطلوبين الذين اعتقلتهم إسرائيل أو قتلتهم. ولا ينبغي ان تشمل هذه القائمة أي تنازل سياسي فلسطيني، وهي لن تشمل، لأن موقف القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني يبدو متماسكاً للغاية.

 

والأمر الأهم أن يكون واضحاً أنه مع إعلان نهاية “المشروع العسكري” (مفتساع بالعبرية) لا ينتهي مشروع المقاومة الوطني الفلسطيني. فالفلسطينيون شعباً ومقاومة (وعن قريب لن يكون هنالك فرق بين الكلمتين) يعلنون انهم سيواصلون المقاومة بعد نهاية هذه الحرب العدوانية، وبذلك يعلنون فشلها السياسي. وهم يعلنون مواصلة المقاومة لأن شارون يعلن مواصلة الاحتلال على شكل نظام فصل عنصري، خلف اسلاك شائكة ومناطق عازلة، إلى ان يوافق الفلسطينيون على التفاوض على قضايا غير القدس واللاجئين والحدود والاستيطان. يريد شارون ان يفرز الفلسطينيون قيادة بعد نهاية العمليات العسكرية لتفاوضه على إعادة بناء ما هدمه وعلى الكهرباء والهاتف والمؤن، وعلى شروط العبور والمرور إلى الأردن وعلى شروط التحويلات البنكية وغيرها... انه يرغب بتفاوض لفترة طويلة على شروط الحياة في ظل نظام الابارتهايد.

 

وحتى لو لم يرغب الفلسطينيون بذلك فإنهم مضطرون إلى ذلك برأيه من أجل مواصلة الحياة، وهو مستعد مقابل استعدادهم للتفاوض لإضافة أجندة سياسية محدودة متعلقة بشروط حياة وعلاقات للكيان السياسي الفلسطيني القائم لفترة انتقالية طويلة، ولكن باستطاعة الفلسطينيين ان يفرضوا اجندتهم، وبالامكان المراهنة على العوامل الثلاثة التالية: 1) استمرار المقاومة الفلسطينية، 2) استمرار حركة الاحتجاج والتضامن العربي، 3) تماسك موقف القيادة الفلسطينية.

 

ولكن استمرار المقاومة الفلسطينية يتطلب استمرار استراتيجية موحدة وقيادة موحدة وأهداف سياسية موحدة تخدمها المقاومة، وإلا وقعت في نفس اخطاء الماضي بحيث لا يعرف العالم (اصدقاؤنا وخصومنا) ماذا نريد. لا معنى لاستمرار المقاومة دون استنتاج هذه النتائج، ويحمل استمرار المقاومة كل المعاني لو استنتجت النتائج. ويجب ان توضع اجندة سياسية ترشيدية لحركة التضامن العربية بحيث تلتزم الممكن ولا تلجأ الى ما هو غير ممكن او الى المبالغة والتضخيم. بحيث يتحول التظاهر الى عملية ندب ونواح جماعي بدل وضع برامج سياسية محددة للضغط على الحكومات العربية لفعل اكثر نجاعة ضد اسرائيل مع توضيح الثمن السياسي الداخلي الذي تدفعه هذه الحكومات في حالة عدم استجابتها للضغط الجماهيري. أما بالنسبة لتماسك موقف القيادة الفلسطينية فمن الواضح ان هذا لن يتم بالوسائل القديمة، وأن السلطة الفلسطينية لا يمكن ان تعود الى ما كانت عليه في تعاملها مع الشعب الفلسطيني ومؤسساته. لقد التف هذا الشعب حول السلطة باعتبارها سلطته الوطنية وباعتبار اهانة اسرائيل لها اهانة للشعب الفلسطيني كله، وهي لن تستطيع ان تلتف على الشعب الذي التف حولها في المستقبل القريب.