تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ضد العنصرية

2005-08-16

في خضم النقاش حول تمكن العرب من إعادة إحياء قرار "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية" لم يجد الرأي العام العربي طرف الخيط الذي يقوده إلى أهمية مؤتمر "دوربان". 
 

فقد ضيعهم الإعلاميون الأشاوس وهم يسألون كل سياسي أو غير سياسي عربي يقابلونه "وهل برأيك سينجح العرب بفرض قرار الصهيونية تساوي العنصرية؟". 
 

من الذي فرض هذا السؤال؟ إسرائيل وإعلامها. وهو في الحقيقة لم يكن قائماً إلا ضمن النقاشات العربية الداخلية، ولم يرد في الاقتراح العربي الرسمي. ولكن لم تقدم وثائق للمؤتمر تساوي الصهيونية بالعنصرية - وقد تنازل "العرب" عن هذا المطلب مبكراً ودون مساومة.. 
 

فعندما أسقطت وألغت الأُمم المتحدة قرارها الذي اتخذته عام 1975 والذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية.. امتنع قسم كبير من الدول العربية عن التصويت. كان ذلك بعد حرب الخليج الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد مؤتمر مدريد. فكيف يعود العرب لإحياء قرار عقائدي من هذا النوع؟ هل يتغير الموقف العقائدي بتغير الظروف السياسية؟ لم تكن إمكانية إحياء هذا القرار واردة أصلاً، ولكن النقاش تمحور حولها دون أساس معلوماتي أو تحليلي بحكم العادة وقوة الاستمرارية والقصور الذاتي. 
 

لقد حاولت الولايات المتحدة أن تتجنب الخوض في مسائل العنصرية الأمريكية القديمة ومن بينها قضايا السكان الأصليين "الهنود الحمر" وقضايا تجارة الرق، ليس لمجرد كونها مصدراً لإزعاج داخلي كبير، وليس فقط لأن فتح هذا الصندوق لإخراج شبح الرق يحرر معه أشباحاً تاريخية لا حصر لها ولا عد، بل أيضاً لأن الدول الإفريقية الجائعة والمثقلة بالديون والتي يتحول فيها الإيدز إلى وباء حقيقي، قد تستغل هذا المطلب لابتزاز العلاقة مع أوروبا والغرب عموماً، وقلب بعض المعادلات..
 

أما إسرائيل فقد ارتاحت وهدأ بالها دولياً منذ كامب ديفيد، فبعده باتت "النيويورك تايمز" و"الواشنطن بوست" اكثر وطنية إسرائيلية من "يديعوت احرونوت" و"معاريف" وأيدي شارون محررة دولياً في المناطق المحتلة، وتحول ياسر عرفات من حامل جائزة نوبل للسلام يسمح له بالمشاركة في كونسيرت في أوسلو، إلى "إرهابي" ينتظر ما ستسفر عنه محاولات عربية لإقناع الولايات المتحدة لاستقباله في البيت الأبيض، قبل أن تتم الزيارة إلى دمشق. 
 

وآخر ما يلزم إسرائيل، ليس على المستوى الأيديولوجي، وإنما على المستوى السياسي على مستوى حالة الصراع المحتدم حالياً هو العودة إلى إدانتها دولياً وإدانة ممارساتها وتسليط الضوء عليها، بحيث لا تنفرد بالشعب الفلسطيني. هذا الكلام لن تقوله إسرائيل علناً.. ولذلك نراها ونسمعها تؤكد عبر مؤسستها الإعلامية والسياسية، وبشكل موحد يلغي التعددية بين اليسار واليمين أن مؤتمر دوربان هو شكل من أشكال اللاسامية، وأن الموقف من السياسات الإسرائيلية هو قضية جانبية وثانوية مشتقة من عداء أصيل ومتأصل لليهود يظهر على شكل موجات في التاريخ ولابد من التنفيس عنه من حين لآخر في مؤتمرات دولية. 
 

وقد التقت رغبة جورج بوش بإرضاء الجمهوريين في موضوع الرق مع إمكانية إرضاء الديمقراطيين والجمهوريين في الموضوع الإسرائيلي فتشنج الموقف الأمريكي في احتضان إسرائيل بشكل بدا إزاءه موقف الأخيرة شاحباً. 
 

وكان على العرب ان يستعدوا لمثل هذا الصراع بشكل أفضل.. ولكن نحن نتحدث عن "العرب" كأن هناك ذاتاً سياسية فاعلة دولياً اسمها العرب. هذا كائن قائم في ضمائر الشعوب العربية وأمانيها ولكنه غير قائم في الواقع. ولقد اضطر "العرب" إلى تبني الورقة الإسلامية المقدمة للمؤتمر لأنهم لم يستطيعوا الاتفاق على ورقة عربية.. وتم ذلك أثناء انعقاد المؤتمر. كما لم يتمكن "العرب" من إقامة قناة تنسيق جدية مع "الأفارقة"، لكي لا ينشأ تعارض بين موضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية وموضوع الرق والعبودية والعنصرية ضد السود.. فقد روجت الدعاية الإسرائيلية لاستيلاء الموضوع الفلسطيني على المؤتمر "وخطف المؤتمر" من قبل العرب، ليتخيل العالم عربياً في فمه سكين يحمل مؤتمراً باكياً مرتعداً من الخوف ويركض به نحو الصحراء، ويا حرام على العرب!! لقد كانوا أكثر الأطراف واقعية وبراجماتية في المؤتمر.. تنازلوا دون مساومة عن الشأن "العقائدي" المعادي للصهيونية، وانكبوا متناقشين على موضوعات متعلقة بإدانة الممارسات العنصرية لإسرائيل كدولة محتلة. 
 

وحتى النرويج أصبحت ذات سطوة على العرب، أي تشعر أنها "بتمون على العرب" أن يسقطوا كلمة دولة محتلة مثلاً في وصف إسرائيل.. فنحن في خضم عملية السلام!!
 

وتغضب النرويج، نعم النرويج، ويغضب لها ألف وسيط في "عملية السلام"، عندما يرفض العرب إسقاط بديهية مثل وصف دولة إسرائيل بدولة احتلال. 
 

لقد سلط التحريض الأمريكي والإسرائيلي على المؤتمر الأضواء عليه، فأصبحت قضايا مثل الرق والعبودية والقضية الفلسطينية ملكاً للرأي العام العالمي بغض النظر عن نوع القرارات التي تتخذ بشأنها في دوربان.. ولكن السؤال كيف نتابع هذه القضايا على مستوى الرأي العام العالمي من دوربان، وهل هنالك من يتابع؟ 
 

لقد أثبتت إسرائيل في التحريض على المؤتمر قدرة إعلامية رهيبة حتى في جنوب إفريقيا ذاتها، وقد نجحت إسرائيل وأمريكا في إخفاء ما يجري في المؤتمر عن أعين الرأي العام في الولايات المتحدة وإسرائيل وحتى في جنوب إفريقيا، وراء ستار كثيف من الأكاذيب والافتراءات جعلت المؤتمر يبدو عربياً معادياً للسامية - مع أن المؤتمر أدان اللاسامية كشكل من أشكال العنصرية، في حين رغبت إسرائيل أن يقبل المؤتمر أن "اللاسامية" شكل العنصرية الأبدي، وأن تحتكر إسرائيل دور الضحية. 
 

وبلغت الوقاحة بالوفود الصهيونية من جمعيات مختلفة إلى مؤتمر الجمعيات غير الحكومية المرافق والموازي للمؤتمر ان اقترحت في ورقة طويلة ضد اللاسامية، قبلها المؤتمر، أن يعتبر أي نقد لإسرائيل والصهيونية شكلاً من أشكال اللاسامية "بند 14 من الورقة". وعندما رفضت هيئة المفوضين هذا الاقتراح انسحب الصهاينة من المؤتمر. وبعد انسحابهم لم تناقش الأوراق حول القضية الفلسطينية وغيرها بل قبلت بالتصويت، ولم يكن هنالك من يناقش. لقد نجحت المنظمات الصهيونية وإسرائيل في إخفاء حقيقة أن انسحابها من مؤتمر الجمعيات غير الحكومية لم يتم على خلفية الاقتراحات العربية المعادية لإسرائيل، وإنما على خلفية رفض المؤتمر اعتبار نقد إسرائيل شكلاً من أشكال اللاسامية. 
 

لقد شكل انعقاد مؤتمر الجمعيات غير الحكومية بدعوة من سكرتارية المؤتمر ذاتها إلى جانب المؤتمر الرسمي إحدى ميزات هذا المؤتمر ومؤشراً على تطور قوى اجتماعية جديدة معترف بها عالمياً. ومن نافل القول ان "الجمعيات غير الحكومية" لا تستنفذ مقولة المجتمع المدني، وليس بإمكانها ان تلعب دوراً بديلاً للأحزاب ولا للجماعات الأهلية، وهي لا تستطيع وحدها أن توازن قوة الدولة.. هذا إضافة إلى ألف ملاحظة حول عملها في المجتمعات العربية، وعدم قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها، أو على التحول إلى حركات اجتماعية ذات جذور في المجتمعات العربية. 
 

ولكن المؤتمر الأخير اثبت وجود شبكة عالمية قائمة بذاتها تنبض بالحياة من المؤسسات غير الحكومية، وان لغة هذه المؤسسات وأسلوبها في العمل تختلف اختلافاً جذرياً عن لغة الدول والحكومات، رغم أنها لا تقل مهنية في التعامل مع المؤتمرات الدولية، كما تسود في داخلها صراعات قوى ومحاولات ابتزاز من قبل مصادر التمويل، كما تسود أيديولوجيات وعوامل أيديولوجية اعظم أثراً على الناشطين في حقلها مما على الدبلوماسيين. يحتاج هذا الموضوع إلى قدر أكبر من التحليل الخالي من الرومانسية ومن فرحة "اكتشاف البديل" أو "الوصفة العلاجية" عند التعامل مع هذه الجمعيات غير الحكومية، ولكن بإمكاننا أن نقرر أولاً أن المنظمات غير الحكومية اكتسبت أهمية على المستوى الدولي، وأنها باتت تشكل ملجأ لنشطاء سياسيين سابقين في مجالات تحررية في العديد من دول العالم الثالث. وهذا يشكل إحدى سلبياتها، ولكن بالإمكان الاستفادة منها في مؤتمرات من هذا النوع. كما بين هذا المؤتمر أن بإمكان المنظمات غير الحكومية العربية ان تلعب دوراً مهماً على المستوى الدولي رغم ضيق هامش الحركة الذي تتمتع به على مستوى البلدان العربية.. هذا إضافة لعجزها عن القيام بدور سياسي فاعل، وعدم قدرتها على تشكيل قواعد جماهيرية، وارتباط تمويلها بالمصادر الأجنبية، نتيجة لضعف البرجوازية المحلية وتخلفها وافتقارها للدور الاجتماعي التنويري ونتيجة لضيق هامش الحرية العملي. 
 

لقد اثر مؤتمر الجمعيات غير الحكومية على الرأي العام ومنه على المؤتمر الرسمي، ولم يعد بإمكان المؤتمر الرسمي تجاهل خطابه السياسي. ولم يكن الخطاب السياسي الذي استخدمه مؤتمر "المنظمات غير الحكومية" مشتقاً من "عملية السلام"، ولا من "الصراع في الشرق الأوسط"، ولا من ضرورة وقف العنف، بل من الصراع ضد العنصرية - موضوع المؤتمر. 

 

ظام الإسرائيلي القائم كشكل كولونيالي من أشكال "الأبارتهايد" وان نثبت ذلك وان نستصدر بيانات بإدانة ذلك. هذه الأدلة تمنحنا القوة إذا أدركنا نحن أولاً أننا نخوض معركة ضد أبارتهايد، وأن الحلفاء في هذه المعركة ليسوا قابعين في الكونجرس والبيت الأبيض، وإنما في أوساط الحركات الحقوقية والمدنية وحركات السلام وحركات حقوق الأقليات والحركات المعادية للعنصرية، وان التأثير على سياسات الدول الغربية يبدأ بالتحالف مع هذه الحركات وليس بالتعالي عليها. فنحن لسنا شعب أسياد لمجرد أن بعضنا يشغل في بيوته فتيات من سريلانكا والفلبين، بل نحن شعب مضطهد مثل شعب جنوب إفريقيا في حينه، ونحتاج إلى حركة تحرر وطني وإلى من يتحالف مع هذه الحركة، وإلى لغة يفهمها حلفاء حركات التحرر الوطنية، واللغة السياسية السائدة في وصف القضية الفلسطينية وعرضها لا يفهمها إلا الدبلوماسيون، ولا تخضع في النهاية إلا للحسابات الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، ورفضها لا يكفي لأنه بات يعني دولياً رفض "السلام"، وقد يكون رفضها من منطلق رجعي غير مقبول على القوى الحليفة لحركات التحرر. والمطلوب لغة بديلة تشكل رفضاً وبديلاً تحررياً وتقدمياً للغة الأمريكية الدبلوماسية السائدة ـ المطلوب هو لغة معادية للاستعمار، لغة مكافحة "الابارتهايد الكولونيالي الإسرائيلي في فلسطين"، واللغة السياسية ليست نصوصاً للمؤتمرات بل صياغة تعبر عن الحركة الاجتماعية والسياسية النضالية في مقاومة الأبارتهايد على الأرض وتجنيد حلفاء هذه المقاومة لتكبيل أيدي من يقمعها.