تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

خطاب التعجيز بالمعجزات

2002-06-29

لا تخلو الأساطير الشعبية لشعب من الشعوب من قصة شاب، امير او فقير، تقدم بطلب الزواج من ابنة الملك، فواجهه الاخير بمجموعة شروط تعجيزية، ثلاثة جرت عليها عادة الاساطير، من نوع خوض بحار بلا قرار، ووديان لم يطرقها انس ولا جان، والعودة بتاج على الاوسط من رؤوس الغول الخمسة التي ينفث احدها ناراً والثاني نفطاً والثالث مواعظ بالديموقراطية والرابع يهتف بحياة اميركا وهكذا. هكذا تبدو شروط الرئيس الاميركي الى الشعب الفلسطيني للحصول على الدولة، كأن الدولة الفلسطينية ابنة جورج بوش التي يأبى ان يزوجها لأحد. وهكذا تبدو تعابير الشعب الفلسطيني المندهش من نوع الرحلة التي كتب عليه ان يخوضها للفوز بدولة وشركة طيران وطنية مفلسة مثل “زملائه” من شعوب العالم الثالث.

 

تخبرنا صحيفة معاريف (26/6) ان شارون شاهد خطاب بوش في مكتبه في القدس، وانه اثناء ذلك تواجد معه في المكتب المدعو زئيف حيفر (الملقب زمبيش) سكرتير حركة المستوطنين “امانا”، وابو فكرة النقاط الاستيطانية “غير القانونية”، حتى بالمعنى الاسرائيلي. وتهدف هذه النقاط الاستيطانية الى خلق حقائق على الارض على شكل عربتي شاحنة (غرف مجرورة) او بيتين، او ثلاثة، على هذه التلة او تلك، ما تلبث ان تتحول الى مستوطنة تتوسع على اراضي العرب، ناهيك عن الاعتداء عليهم وحثهم على الرحيل او التسليم بوجود شريك لهم في الملكية. وزمبيش هذا هو صديق شارون الشخصي، فقد كان للآخير الفضل الاول والاخير بنشر هذه النقاط الاستيطانية، لا يهمنا متى وأين يتواجد هذا الرجل مع شارون، ولكن لم استطع تجنب الخاطرة التي تداعت في الذهن لدى تخيل هذا المشهد لبطلي الاستيطان يتمتعان بخطاب فارس تكساس. لا بد ان الاثنين قد تبادلا تعابير الرضى عن مضمون الخطاب الذي عرف شارون مضمونه قبل اربع عشرة ساعة من القائه بمكالمة هاتفية مع كوندوليسا رايس. فلم يعد المدعو “زمبيش” (الذي ينشر نقاط الاستيطان) هو “العائق امام السلام”، كما سمت الولايات المتحدة الاستيطان في الماضي، وانما اصبح العائق هو القيادة الفلسطينية وياسر عرفات تحديداً.

 

بهذا يتلخص مضمون الخطاب بالنسبة لشارون وصديقه “زمبيش”. ويبدو ان تصور السلام الذي يطرحه جورج بوش الابن ليس اساسياً بالنسبة لهما ولا يعكر صفو لقاء الاصدقاء الذين تجمعوا كأن لقاءهم انعقد لمشاهدة لعبة كرة قدم على عادة السياسيين الذين يتفاخرون بحبهم للعبة في هذه الايام. ولا يعكر “حل الدولتين” الذي طرحه بوش صفو لقاء الاصدقاء اولا: لأن هذا التصور الذي يلقب “رؤية” بلسان المتحمسين له في ديارنا، لا يشكل الا موضوعاً للتفاوض. ومن نافل القول ان اسرائيل لن تقصر في طرح موقفها المخالف للموقف الفلسطيني الرسمي في المفاوضات. والموقف الفلسطيني يتبنى الموقف الاميركي بدون تفاوض، وخلافاً للطبيعي وخلافاً للعقل والمنطق تقبل القيادة الفلسطينية “الحل الاميركي”، في حين لا يعلق عليه الطرف الاسرائيلي، وعندما يتم التعليق يؤكد على موقفه باعتباره يشمل قضايا مؤجلة مختلف عليها.

 

وثانيا: لأن بوش لا يوضح كيفية الوصول الى هذا “الحل” إلا عبر وجبة بلاغية دسمة تبدأ بالديموقراطية وفصل السلطات وتنتهي بالشفافية وحسن الإدارة. ولا يمكن التعامل مع هذه في ظل الاحتلال وظروف المنطقة التي تعج بالديموقراطيات في دول مستقلة إلا من باب البلاغة اللفظية. لقد انجرف أحد الكتاب الاسرائيليين (سفير بلوتسكر، يديعوت احرونوت 626) ليرى في خطاب بوش صدى تاريخيا لخطاب رونالد ريغان عام 1981 أمام مجلس النواب البريطاني والذي طرح فيه انهيار الشيوعية في “امبراطورية الشر” كضرورة تاريخية وحل اوحد لقضايا العالم، هذا الخطاب الذي تحول الى “نبوءة”، وان بوش يريد دولة فلسطينية تشكل نموذجا ديموقراطيا لكل الدول العربية. وكأنه كتب على الإنسانية ان “تأخذ الحكمة من افواه” الحكماء والاذكياء من بين رؤساء الولايات المتحدة. ولا بد لهذه ان تحقق ذاتها كالنبوءة. فالإنسانية تعبت من المثقفين ووزراء الخارجية الأوروبيين المتفلسفين والمحللين ومؤسسات حقوق الإنسان والجامعات وهكذا. وكل ما يلزم هو رئيس أميركي يرى الأمور ويقسم العالم بالوضوح الذي يتحلى به ممثل سابق في أفلام رعاة البقر (كالرئيس السابق) او مشاهد مدمن لهذه الأفلام، كما تدل لغة الرئيس الحالي عندما ينكشف أمام الصحافيين دون خطاب مكتوب معد له سلفا.

 

لم يطالب بوش أيا من حلفائه في المنطقة بتطبيق ما طالب به الفلسطينيين تحت الاحتلال ويوجد لديهم جميعا، بما في ذلك القيادة الفلسطينية، ألف سبب عربي وفلسطيني للاصلاح الديموقراطي، وآخر هذه الأسباب هو خطاب بوش، وآخر هموم بوش هو الديموقراطية في المنطقة العربية.

 

لم ينهر الاتحاد السوفييتي بسبب خطاب ريغان، بل بسبب تخلفه عن مواكبة التطور التكنولوجي وبسبب التناقضات الداخلية بين بيروقراطية الدولة البليدة والفاسدة والدكتاتورية ومصالح المجتمع، ولأن ذلك النظام السيء الصيت عدا دوسه لكل حقوق المواطن والاقليات والقوميات قد تخلف عن مواكبة تطور قوى الانتاج. ولن تتحقق فرحة شارون المبررة بخطاب بوش بسبب تفسيره لخطاب الرئيس الأميركي، بل بسبب التناقضات العربية والفلسطينية الداخلية، وبسبب غياب الرؤية والاستراتيجية فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال والاستراتيجية السياسية التي تتناسق مع هذه المقاومة.

 

وان أية محاولة للتهرب من النقد الذاتي الفلسطيني بسبب خطاب بوش من ناحية، وأي محاولة للترحيب بخطاب بوش من أجل ارضاء الأميركيين من ناحية أخرى، تذهب باتجاه معاكس لبلورة استراتيجية فلسطينية في ما يتعلق بمقاومة الاحتلال والاستراتيجية السياسية التي تتناسق مع هذه المقاومة، بما في ذلك تجاه السياسة الأميركية.

 

ويجدر بالفلسطينيين الا يكونوا بحاجة الى بوش ليذكرهم بضرورة الاصلاح في السلطة والإدارة، أما إذا قبلوا الاصلاح لمسايرة بوش فهذا يعني ان الاصلاح هو عملية تجميل للسلطة وليس معالجة طبية لصحتها ولصحة علاقتها بالمجتمع الفلسطيني. وعلى الفلسطينيين ألا يرحبوا بخطاب بوش لا بسبب أوله ولا بسبب آخره، لأن ترحيبهم به يربك الأصدقاء الذين أرادوا انتقاد هذا الخطاب من ناحية، ويؤكد من الناحية الأخرى موقف الخصوم حول جدية الطرف الفلسطيني الذي يستمر بأداء الضرائب الكلامية: كلمة في القلب وأخرى على الشفتين.

 

ولكن ما هو المهم في خطاب بوش؟ هل المهم هو هذه الكلمة أم تلك وأي مكان تحتل في الخطاب؟ وهل يتم التعامل مع هذا الخطاب كأنه مقالة فلسفية او علمية هامة؟ لا شك ان طاقما من المختصين قد عكف على إعداد هذا الخطاب، وقرروا في مسألة ذكر ياسر عرفات بالاسم ام لا، كما قرروا ان يتم التأكيد على ضرورة تغيير السلطة الفلسطينية، وان يتحدثوا بتفصيل عن الديموقراطية الضرورية للفلسطينيين، وان يذكروا دور الدول العربية الهام للتوصل الى هذا الهدف (!!) كما ترددوا طويلا في أي فقرة يذكر قرار 242 واحتلال عام 1967 وضرورة التفاوض حول موضوع اللاجئين. وكلها أمور ليست جديدة في الموقف الاميركي. المهم كيفية ترتيبها، وبأي نبرة تقال، وماذا اولا وماذا أخيرا. ولكن من يستمع الى الخطاب لا يناقشه كمن كتبه، فهو ليس قانونا للتنفيذ بعد تفسير فقهاء القضاء له خارج المحكمة وداخلها.

 

ليس الخطاب مشروع قرار للتنفيذ، ولا هو خطة او برنامج عمل، بل هو خطاب سياسي هام. والسؤال الاساسي هو، ما هي مساهمة هذا الخطاب السياسي في الصراع القائم حاليا، الى حين القاء الخطاب المقبل. يساهم هذا الخطاب بشكل سلبي جدا في الصراع للأسباب التالية:

 

1 يعطي هذا الخطاب كل المبررات الممكنة لشارون للاستمرار بعدوانه ضد الشعب الفلسطيني.

 

2 يتبنى الخطاب بالمجمل طريقة طرح اسرائيل الرسمية للقضية الفلسطينية واسلوب الدعاية الاسرائيلية الذي ينطلق من انه “في البدء كان الارهاب” ثم جاء “الرد الاسرائيلي عليه” كحالة دفاع عن الذات تبرر امس “جيش الدفاع الاسرائيلي”.

 

3 يخاطب الخطاب العرب بلغة الاوامر: “اما معنا أو ضدنا” ولكنه يتعامل مع الطرف الاسرائيلي من منطلق اقناعه بأن الدولة الفلسطينية في مصلحته.

 

هذه البنية، وهذه اللهجة، وهذه النبرة، وهذه الصياغة بمجملها وبالاجواء السياسية التي تبثها هي اداة طيعة بيد شارون في الصراع القائم. ولذلك لا يعير شارون حاليا نهاية الخطاب اهتمامه، فنهاية الخطاب تأتي في النهاية، والى ان تأتي سوف تمر في شوارع مدن وقرى الضفة الغربية دبابات كثيرة، وسوف تدك صمود المجتمع الفلسطيني، وسوف يتحدث شارون مع ما تبقى، او مع من تشجع من خطاب بوش مما تبقى، هكذا يعتقد شارون على الاقل، وقد اثبتت التجربة ان رأي شارون يستحق ان يولى أهمية ما.

 

حتى تقدم استراتيجية فلسطينية موحدة تجمع بين الرؤية السياسية والمقاومة، ستبقى الذات السياسية الفاعلة والقادرة على استثمار خطاب بوش هو الجانب الاسرائيلي الذي لا يشعر بالرضى عن بوش فقط بعد خطابه، بل بالرضى عن الذات.

 

لقد ارتبكت اطراف من “اليسار الصهيوني الاسرائيلي” من هذا الخطاب، وهي تحاول باستماتة دون قناعة ان تلفت نظر اليمين الاسرائيلي الى نهاية الخطاب علها تعكر احتفاله، ولكن دون جدوى. انها مرتبكة ولا تستطيع اخفاء ذلك او المكابرة بذكر نهاية الخطب لانها بنت استراتيجيتها السياسية كاملة على المواقف الاميركية.. كأن الولايات المتحدة هي حليفة حركات السلام العالمية وويل للفلسطيني الذي بنى استراتيجيته على انتظار هذا الخطاب. لانه عاد الى بيته الوطني خالي الوفاض، وليس في جعبته الا كلمات طمأنه من نوع “بسيطة”، و”الخطاب ليس سيئا لهذه الدرجة”، واهل بيته ينتظرون عودته والزاد في يديه.

 

وويل له لانه ترك ساحة المقاومة الفلسطينية لابناء الفقراء الواقعين تحت الاحتلال وحدهم يفجرون اجسادهم ويقتلون ابناء الفقراء الآخرين من الشعب المحتل. وهو لا يستطيع ان يطرح استراتيجية سياسية واستراتيجية مقاومة بديلة، والشعب الفلسطيني لم يعد يفهم هذا النمط من ترحيب القيادة بخطاب ضد القيادة، والتغني بالمقاومة دون استراتيجية مقاومة.