تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تجاوز الأمر حد الغرابة

2003-01-20

تشهد الثقافة السياسية الفلسطينية السائدة حالة انحلال غير مسبوقة. وأهم مظاهر هذه الحالة المتردية غياب حركة التحرر الوطني (حتى شكلا) من ناحية، وغياب هرمية وتراتبية السلطة الفلسطينية في ظل التضييق عليها ومحاصرتها من قبل الاحتلال من ناحية أخرى.

 

لقد صمم الاحتلال الاسرائيلي بمنهجية ومثابرة ان تسقط السلطة مثل ثمرة ناضجة، او ذابلة، دون ان يضطر لإبعاد او قتل رموزها، او رمزها. وهذا لا يعني ان اسرائيل قد استغنت عن وجود سلطة ما، وإنما هي بحاجة الى سلطة للتفاوض على الحل الدائم، او المرحلي، على الاقل بالمفاهيم الاسرائيلية. اسرائيل اذاً بحاجة لبنية فلسطينية ما للتفاوض، ولو كانت اسرائيل بحاجة الى الفوضى لتصرفت بشكل مختلف تماما. يحمل الاجتياح الاسرائيلي الاخير أهدافا سياسية محددة ذات علاقة بخطاب بوش، والاهم من ذلك ذات علاقة بالتفسير الاسرائيلي لخطاب بوش. ونقول: “الأهم من ذلك” لأننا نعتقد ان التفسير الاسرائيلي للخطاب اهم من الخطاب ذاته.

 

وكنا قد أكدنا في الماضي ان “مذهب شارون” في التسوية يرمي الى الابتعاد عن قضايا الحل الدائم التي حددت، كما حددت، في اوسلو. وهو يعلم ان هذا لا يعني استبدالها بحل دائم مقبول بصيغة شارونية تفرض على الفلسطينيين او العرب، فهو يدرك ان هذه الامكانية غير واردة في حياته. انه يقترح مرحلة انتقالية طويلة المدى، اطول من السنوات الثلاث الواردة في خطاب بوش، يتم بعدها التفاوض على حل دائم مع قيادة فلسطينية جديدة تقولبت حسب مبدأ “لكل زمان دولة ورجال”، وتكيفت مع بنى المرحلة الانتقالية التي تتضمن دولة على 40% من الارض في الضفة الغربية دون ازالة مستوطنة واحدة. ومن الذي يرفض الدولة؟ او للدقة، من الذي يرفض ان يتزعم دولة بمباركة اميركية؟ ومهما كان قياس هذه الدولة فالمهم بنظر المهزومي النفوس هو قياس اميركا. ولا بد اذاً ان تكون قيادة هذه الدولة برأي شارون الواقعي على صورة هذه الدولة ومثالها. والحصار الاسرائيلي الحالي للسلطة الفلسطينية بقيادةعرفات وفي غياب روادع وأخلاقيات حركة التحرر الوطني سيؤدي الى ان تذبل هذه السلطة على وقع سخرية “الواقعيين” التي تتناول بلا رحمة اي حديث عن الاخلاقيات والثوابت وغيرها مما يدل برأيهم إما على سذاجة الناطقين بها او على خبث مدعيها. لقد عهروا كل شيء وبات كل شيء موضوعا للسخرية الا البراغماتية المحكومة في هذه المرحلة بقانون واحد يتلخص بقبول كل ما تتفوه به الولايات المتحدة.

 

إن الوجه الاساسي لهذه الازمة الاخلاقية في السياسة الفلسطينية هو ترك ساحة النضال والمقاومة ضد الاحتلال لمن فقدوا معنى الحياة “التي لا تسر الصديق” في ظل انسداد الافق فباتوا يبحثون عن معنى في موت يؤذي المحتلين، او “يكيد العدا”. ان البعد الاول الظاهر للعيان لفقدان البوصلة والمشروع الوطني واستراتيجية المقاومة هو من خرجوا يفجرون اجسادهم الشابة المفترض ان تعيش وتعمر من اجل تدفيع الاسرائيليين ثمنا بغض النظر عن عائد هذا الثمن السياسي. أما الوجه الآخر لعملة الأزمة والانحلال على الساحة الفلسطينية فهو ادارة الصراع على المناصب في ظل الاحتلال، والحديث عن مناصب في تلك الدولة الفلسطينية التي نسجها خيال شارون ويتبناها بوش دون تزمت في النقاش على عدد سنوات المرحلة الانتقالية. فقد سبق وحددت سنوات ومراحل انتقالية اخرى ولم يلتزم بها الطرف القوي القادر على تنفيذ، او عرقلة تنفيذ الاتفاقيات. ومقابل هؤلاء الذين يتصارعون على المنصب في ظل الاحتلال بدل النضال ضد الاحتلال، ويسدون النصيحة والمشورة للولايات المتحدة في اتصالاتها حول انجع السبل “للاصلاح”، هنالك من يفجرون اجسادهم في مسيرة سخط ومظاهرة غضب قل مثيلها في التاريخ. ولذلك لا يكفي ان توقع العرائض ضد هذه العمليات والبديل السياسي الوحيد المطروح على الساحة الفلسطينية هو الترحيب بخطاب بوش والمساهمة في قطف نتائج “الاصلاح” الذي يتضمنه من قبل قوى لا تجد من يصلح حالها.

 

لقد وصل الحد ببعض من كانوا يشون على الناس لدى الرئيس عرفات لانهم تجرأوا على طرح رأي مخالف، أو لانهم يفترضون انهم منافسون لهم ب “الحظوة” عنده ان يصطنعوا “النقاش” مع عرفات ارضاء للولايات المتحدة واسرائيل. وبعض المتزمتين المستميتين في الدفاع عن عرفات لأسباب شتى ضد أي عربي يناقشه، خاصة اذا كان فلسطينيا، باعتبار النقاش تجرؤا على المزايدة على ياسر عرفات، بعض هؤلاء ينتقد خطاب الرئيس الاميركي لانه “يضطره للتضامن”. مع عرفات أو “الدفاع عنه” كأنه امضى العمر في مناقشة عرفات، وكأن هذا المسكين مضطر للدفاع عمن كان القرب منه مهمة يومية حياتية وبرنامجا صباحيا مسائيا، بدونه لا يهدأ له بال، ولا يعرف طعم النوم. وإذا ابعده تحول الى محب ملوّع تائه باحث عن الوصل في المقاهي عله يجد من يحدثه عنه أو يقربه منه من جديد. لاحظ النذالة في انه “مضطر للدفاع عنه”: انه ما زال يحاول ان يظهر بمظهر المدافع عنه، ولكنه في الواقع يقول انا ضده وجاهز للتآمر عليه ولكنني مضطر للدفاع عنه. انه يعاتب اميركا علنا، وربما يعاتب اسرائيل ايضا من وراء الكواليس (اسرائيل حزب العمل على الاقل) لانها تحرجه.

 

يجب عدم التساهل في تقييم هذه الحالة الانتهازية التي ميزت القيادات الفلسطينية الى حد بعيد، لانها تحولت من احتراف النضال الوطني وامتهانه (بالاشتقاق من مهنة حينا ومن اهانة حينا آخر) مع كل الثقافة السياسية التي نشأت حول هذه المهنة في لبنان وفي السلطة الفلسطينية بعد اوسلو الى التخلي عن النضال كخيار واستبداله بالتنافس على تقاسم المناصب ومصادر القوة ومراكز القوى في ظل تنفيذ الاحتلال لاجتياحه السياسي الاخير. ويراهن الاحتلال على تناسب طردي بين تشديد حالة الحصار السياسي المفروض على السلطة وتنامي حالة الانتهازية السياسية والبحث عن الحلول الفردية للزعامة والتزعم في ظل غياب استراتيجية حركة تحرر وطني تضبط هذا التدهور وتضع معايير القيادة بالقدرة على قيادة النضال بتشعباته السياسية والتنظيمية ايضا. ولم تعد هذه الحالة الانتهازية مجرد تعبير عن تآكل في حركة التحرر الوطني ونمو قوى انتهازية وطفيلية، وإنما عن نهايات هذه الحركة قبل تحقيق الاهداف الوطنية وفي ظل انحلال يذكر بالحالة الاخلاقية التي رافقت انهيار الامبراطوريات، ونحن لا نتحدث عن امبراطورية ولا حتى دولة بل حالة رثة تحت الاحتلال وقبل نيل الاستقلال.

 

لا يستطيع من ينتقد هذه الظواهر ان يكتفي بالبعد الشخصي او بابتكار اقتراحات “للخروج من المأزق” وتخريجات من نوع: “على عرفات ان يخرج اليوم بإعلان كذا” أو “ان يدعو لانتخابات”، كما لا يستطيع ان يعزي نفسه باجتماعات بيريز بإذن من شارون مع وزراء فلسطينيين، فشارون لا يهمه مع من تتم الاجتماعات (طالما لم تكن مع عرفات بالطبع) وإنما يهمه ما يبحث في هذه الاجتماعات. وبعد الاجتياح يصح برأيه ان تبحث موضوعات مثل المؤن والدواء والغذاء وتصاريح المرور مع العناوين الفلسطينية لهذه القضايا. أي الوزارات، التي تتحول تحت الاحتلال الى نوع من الادارة المدنية المضطرة للتنسيق مع “الجانب الاسرائيلي”، والجانب الاسرائيلي اليوم هو عبارة اخرى لوصف قوات الاحتلال. المهم بالنسبة لشارون هو ابتعاد الاتصالات الفلسطينية الاسرائيلية قدر الامكان عن السياسة، الى ان تبدأ المفاوضات على الدولة الفلسطينية بالشروط الاسرائيلية. ويبدو ان شارون وأميركا سيطبّقان على عرفات مقولة العهد القديم التي لعنت موسى ان يقود شعبه اربعين عاماً في الصحراء والا يقدر له ان يدخل الى ارض كنعان يقيم “مملكة اسرائيل” قبل النهاية.

 

النقد الجدي السياسي لحالة الانهيار ليس حالة تأنيب بحكم التعريف، فالمطلوب ليس اصلاح “عملية الاصلاح”، وانما المطلوب هو وضع استراتيجية لمقاومة الاحتلال بالمؤسسات والاجهزة المطلوبة لهذا الغرض. ولا نعتقد ان هذا يتم بتغيير توصيف وظيفة السلطة او بإرسال موظفيها الى دروس استكمال ليقوموا بوظيفة اخرى هي النضال ضد الاحتلال. ويبدو انه ستبقى هنالك حاجة لمؤسسات منظمة وناجعة تعنى بشؤون الحياة اليومية للناس. ولا شك ان هذه القائمة تحتاج الى اصلاح. ولكن مهمة نقد المأزق الفلسطيني تتجاوز ذلك الى بناء حركة المقاومة الفلسطينية من جديد كحركة مناهضة للابارتهايد الكولونيالي الاسرائيلي بمظاهر الفصل التي ترافقه والعنصرية السافرة التي يجسدها. وتتطلب هذه المهمة صياغة النضال الوطني الفلسطيني بلغة سياسية ديموقراطية بعيدة كل البعد عن لغة التنافس الانتهازية الفردية القائمة في المؤسسة السياسية الفلسطينية الممزوجة بانتظار الفرج مما ستأتي به التحركات الدولية، الاميركية خاصة، دون اي علاقة مع اي نمط من انماط النضال، او حتى الصمود على الارض الفلسطينية. هذه الإمكانية واقعية وعناصرها قائمة في الواقع الفلسطيني بخبراته النضالية والتنظيمية وباستعداده المثبت يومياً لاجتراح طريق النضال.

 

لقد وصل انتظار الفرج من التحركات الدولية حد العبثية بالترحيب بخطاب بوش من قبل من يستهدفهم الخطاب، كما وصل التنافس على السلطة في ظل الاحتلال حداً عبثياً بالتظاهر تحت الاحتلال، وليس بعيداً عن دباباته، وحالما يرفع منع التجول، لصالح هذا التعيين وضد ذاك المرسوم الرئاسي. ما يحصل فلسطينياً تجاوز حد الغرابة منذ زمن بعيد. وتزداد غرابته ازاء صمود الشعب الفلسطيني البطولي ضد الاحتلال.

 

هذا هو الشرط لتحرك العالم العربي ايضاً بالاتجاه الصحيح، من يرد ان يخرج الناس الى الشوارع فليتفضل ويشرح لنا ما هو برنامجه النضالي، فالناس لا يخرجون الى الشوارع بدون أمل وبدون أفق، ولا يمكن توجيه وضبط الحالة الرسمية العربية ايضا اذا كانت الحالة الفلسطينية غير واضحة، ومنشغلة، مثل الحالة الرسمية العربية، بإيجاد تخريجات تمكنها من التعايش مع خطاب بوش.

 

جريدة السفير (لبنان)