تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الموضوع ليس شخصياً

2003-09-11

تزامنت استقالة رئيس الحكومة الفلسطيني الجديد بعد مئة يوم تقريباً من اشغاله المنصب مع محاولة اغتيال زعيم حركة حماس الشيخ احمد ياسين ومع تعريف الاتحاد الاوروبي حركة حماس بأنها حركة ارهابية. ولا طائل من البحث عن علاقة سببية مباشرة بين هذه الوقائع، فهي من مظاهر الوضع السياسي نفسه، ومن أعراض الأزمة ذاتها التي يفترض ان يتم التعامل معها فلسطينياً كمرحلة جديدة تحتاج الى استراتيجية فلسطينية واحدة للتعامل معها. وبغض النظر عن هذه النقاشات بشأن العلاقة بين الاستقالة ومحاولة الاغتيال وخطوة الاتحاد الاوروبي فإن من اتخذ القرار الإسرائيلي بخصوص توقيت العملية ضد زعيم حركة حماس ومؤسسها إنما فعل ذلك أولاً وقبل كل شي بناءً على معلومات استخباراتية أفادت بأهمية هذا التوقيت تبعا لمكان تواجد المستهدفين، وذلك بعدما اتخذ قرار سياسي على أعلى مستوى قبل ذلك بفترة، أي قبل قرار الاستقالة وقبل قرار الاتحاد الاوروبي. وقد تكون اسرائيل على علم بالقرار الاوروبي منذ فترة بناء على اتصالاتها. وانتظرت الأجهزة المخولة أن تسنح الفرصة للتنفيذ. وكان من الواضح منذ أسابيع عدة، منذ عملية القدس، انه تم اتخاذ قرار باعلان الحرب الشاملة على حماس بقياداتها، وأن الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية ينفذان بناء على قرار سياسي عندما تتوفر المعطيات الميدانية.

 

وكانت إسرائيل في الماضي تنفذ عمليات تحذيرية او انتقامية ضد قيادات في حماس كما فعلت في حالة اغتيال جمال سليم وجمال منصور (31/7/2001) في نابلس، وكما كان في محاولة اغتيال الدكتور الرنتيسي قبل شهرين (10/6/2003). ولكن في هذه المرة يبدو ان القرار الاسرائيلي شامل ويتناول حماس ككل بغض النظر عن قيامها أو عدم قيامها بعمليات في هذه الفترة. هنالك قرار سياسي استراتيجي يتجاوز مكافحة جارية للعمليات، أو يتجاوز مفهوم الأمن الجاري (بطحون شوطيف) الإسرائيلي.

 

ولا شك أن شكل المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة الثانية حتى اللحظة كان يبلور بقوة الاستمرارية دونما تخطيط استراتيجي بعيد المدى، وأنه يشمل عناصر عفوية كثيرة من ضمنها عمليات انتقامية ثأرية الطابع تهدف بشكل عام الى تلقين الاسرائيليين درساً والى تدفيعهم الثمن، حتى لا يدفع المجتمع الفلسطيني وحده الثمن. والمنطق الاستراتيجي في ذلك ان دفع الثمن على مستوى المجتمع سيشكل ضغطاً سياسياً. ويُجمع الغرب، خصوصاً بعد 11 أيلول، على أن منطق استخدام العنف ضد المدنيين لتدفيع المجتمع الثمن ليضغط على حكومته هو منطق إرهابي. وهو على كل حال المنطق الذي تتعامل به إسرائيل مع الفلسطينيين لكسر إرادتهم. وبقي أن يميز الفلسطينيون وأصدقاؤهم بين عنف المحتل وعنف الواقع تحت الاحتلال. وقد فعلوا ذلك حتى في أحلك الظروف إلى أن تحولت فئات رسمية عربية وفلسطينية إلى نعت العنف الفلسطيني بالإرهاب. وبغض النظر عن ذلك فإن فصائل المقاومة الفلسطينية لم تدرس العلاقة بين الوسائل والاهداف. وتجنبت طرح السؤال: إلى أي مدى يؤدي تدفيع المجتمع الاسرائيلي الثمن الى انجاز سياسي، أو كيف يترجم الثمن سياسيا؟ ومتى؟ وما العمل إذا كانت النتائج السياسية غير تلك المتوخاة؟ هل تقدَّس الوسيلة؟ والسؤال الأكبر بالطبع ما هو تعريف الإنجاز السياسي عندما لا توجد استراتيجية سياسية متفق عليها؟

 

لقد استخدم الفلسطينيون مصطلح الارهاب في وصفهم لعمليات حماس وكتائب الاقصى والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وذلك قبل أن تستخدمه أوروبا في وثيقة رسمية في وصف رسمي لحركة حماس ككل. والتسمية هنا، خلافا للتسمية في الحالة الفلسطينية، تحمل تبعات وتترتب عليها عواقب. فللكلام والتسميات هنا معنى. لم يكن بالإمكان تصور مثل هذه المواقف الفلسطينية المعبر عنها بالإنكليزية دوليا في وصف تيار سياسي شعبي تحت الاحتلال بالارهاب لو كان الحوار الفلسطيني استراتيجياً فعلا. ولم يقتصر استخدام هذه المصطلحات على الحكومة الفلسطينية الأخيرة. وفعل ياسر عرفات ذلك قبل رئيس حكومته. ولو كان الحوار قائماً على تصور سياسي مشترك للمرحلة ومتطلباتها ومتطلبات النضال ضد الاحتلال بالحد الأدنى لما تم الحوار بلغة، أما وصفه والحديث عنه دوليا فبلغة أخرى.

 

هنالك علاقة إذاً بين غياب استراتيجية فلسطينية شاملة في السياسة والمقاومة وبين ادراج حركة حماس على قائمة المنظمات الارهابية في اوروبا بعدما تجنب الاوروبيون ذلك بنجاح منذ 11 أيلول.

 

أما عن العالم العربي فحدث ولا حرج! غياب كامل غير مسبوق حتى للديبلوماسية العربية. حالة "ريجيم" ديبلوماسية ونحافة إلى درجة الاختفاء والتلاشي، حالة تواضع وخجل، واستحياء حل عليهم (والحياء ليس من صفات السياسيين العرب البارزة) إلى درجة الخوف من الأماكن العامة عدا عن حفلات الاستقبالات والحفلات من دون استقبال، "جيت لاغ" ودوار سياسي، انطواء وانكفاء واحتجاب. من غير المعقول ان ما لدى الديبلوماسية العربية لتقدمه في هذه الأثناء هو الاحتفاء بسيلفان (من دون "شالوم"، أي بلا سلام) في المغرب، والرجل يقود التصريحات الحربجية ديبلوماسيا. في فلسطين يدوسون الـ"شلوم" وفي المغرب يستقبلون سيلفان. و تونس تلوح بخطوات شبيهة. وحسب الصحافة الاسرائيلية يعد نتانياهو وزير المال وكلاين محافظ بنك اسرئيل الصحافيين الاسرائيليين بأنهم سيعقدون المؤتمر الصحافي المقبل معهم في دبي في منتصف الشهر الجاري. فماذا نريد من الهند أو أوروبا؟ وتكاد الصحافة العربية لا تتعب من الذكرى والمناسبة، بعضها يطلب مقالا بمناسبة عامين على 11 ايلول، وبعضها بمرور 10 اعوام على اتفاق اوسلو، واخرى في ذكرى وفاة عبدالناصر، وخذ طلبات على هذا المنوال. ولو سمعوا افرايم هليفي رئيس الموساد السابق بعدما خرج عن صمته يلخص "التطورات الايجابية" في الاعوام الاخيرة، لربما تخلوا عن طلب مقالات المناسبات، وقد عدد هذا الجنتلمان لا فض فوه: نهاية الوحدة العربية، وجود الولايات المتحدة في المنطقة، نهاية الجبهة الشرقية ضد اسرائيل بنهاية العراق كما عرفناها، هذا بعد نهاية الجبهة الجنوبية منذ عقدين ونصف، لقاء المصالح بين العديد من القيادات العربية وبين اسرائيل، وعزلة سورية... وكلها انجازات، في رأي رئيس الموساد السابق.

 

لقد حاول الاسرائيليون منذ 11 أيلول دفع الحركة الوطنية الفلسطينية الى خانة الارهاب، واستخدم التشبيه بين عرفات وبن لادن مرات عدة في حينه. ثم طرح الموضوع الفلسطيني برمته كمسألة إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتكون قادرة على "مكافحة الإرهاب"، وأن تكافحه فعلا كشرط لاستمرار المفاوضات باتجاه إقامة دولة فلسطينية بالمفهوم الشاروني على 40 في المئة من الضفة الغربية. وبغض النظر عن التفاصيل والتسميات التي أُطلقت فقد كان هذا جوهر الإملاء الإسرائيلي - الأميركي على الفلسطينيين في "خريطة الطريق". وكان هذا جوهر قبول التعاطي الفلسطيني مع هذا المنطق. وحاول من قبِلَه من الفلسطينيين أن يتكيف مع الظروف وان يقبل الاملاء الاميركي جزئياً من دون أن يدفع ثمنه على الساحة الداخلية. وهنالك من قبله استراتيجيا واقتنع به معتمدا على قدرته هو أيضا على الإقناع إذا أتاحت المقاومة الفرصة أن تسمعه أميركا وإسرائيل. ولكن الحكومة الفلسطينية حاولت ايضا التوصل إلى وقف العمليات العسكرية بالهدنة لئلا يتحول هذا المنطق إلى أزمة فلسطينية حقيقية، والمقصود هو حرب أهلية.

 

لقد فهمت إسرائيل أن دور الحكومة الفلسطينية الجديدة يتلخص في إعادة بناء الأجهزة الأمنية وانتزاع السيطرة عليها من قبضة ياسر عرفات قبل التورط في صراع فلسطيني داخلي تحت عنوان "تفكيك البنى التحتية للارهاب". وعندما حاولت القيادة الفلسطينة الجديدة ان تلتف على المفهوم الاسرائيلي، وان تتجاوز ذلك بالحوار الداخلي ووقف اطلاق النار، اعتبرت اسرائيل هذه المحاولة تجنباً لتنفيد التزامات "خريطة الطريق" وردت عليها بتصعيد الاغتيالات، التي تتبعها عمليات تشكو بعدها إسرائيل ضعف القيادة الفلسطينية الجديدة إلى العالم وتحاول جرها إلى المواجهة الداخلية.

 

اما ياسر عرفات فيدافع عن كل صلاحية تنتزع منه لأن هدف تهميشه معلن. واختلط الاصلاح على المستوى الاداري المطلوب والمرغوب فلسطينيا بالاملاء الاسرائيلي المرفوض والهادف الى اقصاء عرفات لاسباب سياسة ايضا.

 

وكانت النتيجة المنطقية استقالة رئيس الحكومة الفلسطيني خصوصاً بعدما اضطر الى مواجهة الرئيس الفلسطيني المنتخب في قضية تركيز الأجهزة الامنية ("تركيز"، يصححنا اصحاب الشأن المطالبون بانتزاعها من يد عرفات، تركيز وليس توحيداً، حسنا ليكن تركيزاً، المطلوب هو تركيز الاجهزة لغرض التنسيق) تحت سلطة الحكومة، وهي معركة وهمية. كأن القرار بـ"مكافحة الإرهاب" مرهون بتحرير الأجهزة من يد ياسر عرفات. ماذا سيجري بعدها، حرب اهلية؟ ويتم الصراع مع عرفات في ظرف تعلن فيه أميركا وإسرائيل أن الرئيس الفلسطيني غير قائم، أي انه ميت سياسيا، بغض النظر عن النقاش حول إبعاده أو التخلص من وجوده جسديا. وانتزاع الاجهزة من يديه هو تطبيق موت معلن سلفا، والبقية تفاصيل. فهذا الطريق كان يعج بالعثرات والأزمات ومن ضمنها استقالة رئيس الحكومة من اللجنة المركزية لحركة "فتح". وهي الحركة التي رشحته وانتخبته للمنصب.

 

وقد تبين أن الموضوع ليس شخصيا حتى من زاوية النظر الأميركية. فالولايات المتحدة لا تضع كل رهانها على شخص. وعلى رغم أن رئيس الحكومة الفلسطيني قد حظي بما لم يحظ به احد من مجاملات رئيس الولايات المتحدة في مرحلة لا تحتاج فيها اميركا لأن تمدح احداً، وتكرم بوش وضحك على نكتة احد افراد الوفد الفلسطيني، والناس عادة ضعفاء تجاه من يضحك على نكاتهم، فتخيل ما يحصل لمن يضحك رئيس الولايات المتحدة لنكتته، إلا أن الضوء الأخضر لم يعط لمهاجمة مقر عرفات حال استقالة رئيس الحكومة. فالمطلوب في نظر أميركا هو رئيس حكومة جديد. ولا شك أن أمل الولايات المتحدة قد خاب من قصر نفس رئيس الحكومة الفلسطيني بعد كل الرصيد الذي منحته إياه. القضية أميركياً ليست شخصية. ولكنها أصبحت شخصية فقط في حال ياسر عرفات المطلوب تعاونه من اجل تهميش ذاته. الولايات المتحدة تطلب من عرفات عمليا أن يعين رئيس حكومة يحل مكانه فعلا. ويذكرني هذا السياق بدعاية تجارية بثت في اسرائيل في السبعينات لصدرية نسائية اشتهر شعارها حتى ذهب مثلا، ونص شعار الدعاية "انت تمشين بها وتشعرين أنكِ بدونها"، وباختصار: "أن تمشي مع، وتشعر بدون"، أي ان الاميركان يريدون سياسة مع ياسر عرفات، وأن يشعروا بأنها قائمة بدونه. ولكن شارون لا يريد لا "ان يمشي مع" و"لا ان يشعر بدون"، لأنه ببساطة ليست لدى شارون اقتراحات سياسية في المرحلة الراهنة. وليس في جعبته حاليا سوى الاغتيالات. وما يعيق شارون عن تنفيذ ما يبغيه بشأن عرفات هو فقط رأي أجهزته الأمنية.

 

ولا شك ان هنالك تناقضا بنيويا بين لغة حركة التحرر الوطني داخلياً كمصدر شرعية داخلية للقيادة من ناحية، وبين لغة الارهاب ومصادر الشرعية الخارجية من ناحية اخرى. ولا يمكن ان يؤدي هذا التناقض إلا إلى أزمة. ومن زاوية هذا التناقض ليس الموضوع شخصيا على الإطلاق. يتبنى رئيس المجلس التشريعي، رئيس الحكومة المقبل، موقفا سياسيا لا يختلف من حيث الجوهر عن رئيس الحكومة المستقيل، وربما كان أكثر مثابرة وصبرا وأكثر تفاهما وتفهما لموقع ياسر عرفات وموقعه، ولكنه سيواجه المشكلة والقضايا والمعضلات نفسها التي لا حل لها اطلاقاً إلا بأحد الخيارين: إما قبول الاملاء الاسرائيلي الذي لا يحتوي إلا على كيان فلسطيني محدود السيادة يسمى دولة على 40 في المئة من الضفة الغربية، أما الطريق إليه فتمر عبر حرب أهلية فلسطينية لا يوجد في نهاية نفقها ضوء بل كيان وقيادة مرتبطان باسرائيل... أو بالسير في نهج حركة تحرر وطني. وهذا النهج الاخير يحتاج الى قيادة وطنية موحدة واستراتيجية سياسية ونضالية عقلانية يلتزم بها الجميع تنطلق من انه لا حل سياسياً مطروحاً في مرحلة شارون، وتتخلى في الوقت ذاته عن العفوية والثأرية وردود الفعل وتمضي باتجاه يجمع بين قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود لفترة طويلة واحتياجات النضال ومخاطبة الساحة الدولية والرأي العام في الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا يضيِّع في الطريق هدف النضال ألا وهو التحرر من الاحتلال. ولكن من سيختار؟ نوهم أنفسنا بطرح الخيارات النظرية كأن القيادات تتسوق الخيارات كمعروضات على الرف. خيارها الأول أن تبقى قيادة كما يبدو، وحالها في ذلك كحال الأنظمة من حولها.