تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الملفات المغلقة والجرح المفتوح

2005-09-23

لا بأس من تكرار التأكيد على أهمية وخطورة قرار وحدة التحقيق مع الشرطة في وزارة القضاء عدم تقديم أية لائحة إتهام ضد أي شرطي ممن شاركوا في قتل ثلاثة عشر مواطناً عربياً تظاهروا تضامناً مع شعبهم الفلسطيني وقضيته العادلة. ولسنا بصدد تكرار إدعاءات كبير محققي هذه الوحدة صغير النفس حول الأسباب التي دعتهم إلى اتخاذ هذا القرار مخالفاً لأول مرة في تاريخ هذه البلاد تعليمات لجنة تحقيق رسمية بل ملقياً بها في سلة مهملاته. فالهدف الوحيد الممكن من إغلاق الملفات هو ألا يرتدع أفراد الشرطة عن إستخدام العنف في المستقبل بحجة أن الشرطة تتخلى عن أفرادها. أما إدعاءته فلا تستحق التعليق. هنالك من قتل ولم تقدم ضده لائحة إتهام. والقتلة هم من رجال الشرطة. والضحايا هم مواطنون عرب. والعبرة أن قتل المواطنين العرب للمرة المائة يتم دون عقاب...بعد كفرقاسم وبعد يوم الأرض...
 

هل سيكون القتل أسهل بعد تقرير "ماحش"؟ هذا سؤال تجيب عليه الجماهير العربية برد فعلها. فإغلاق الملفات هو هدر دم لأجيال قادمة. ولا يجوز أن يمرر بسهولة. وحفظ الذاكرة هنا مهمة فائقة الأهمية. للشعوب ذاكرتها التي تشكل شخصيتها الوطنية خاصة عندما يتعلق الأمر بصراع مع الإضطهاد الإستعماري أو التمييز العنصري أو إجحاف الدولة. وعلى الجماهير العربية ألا تنسى وألا تغفر إلا إذا تم إحقاق الحق. هذه عناصر مهمة لشخصية وأخلاق الطفل الذي يربى في البيت ولضمان أمنه وحياته في المستقبل. وكلاهما على نفس درجة الأهمية في حياة المجتمعات.
 

من المنظور الإسرائيلي حققت الجماهير بنضالها وتغير موقعها وازدياد وزنها أن تتعامل الدولة مع ما يجري معها بصيغة لجنة تحقيق رسمية لم يستحقها شهداء كفرقاسم بنظرهم ولا شهداء يوم الأرض. ولكن لجنة التحقيق الرسمية في شأننا السياسي ليست إنجازاً، والتقرير جاء أكثر من منقوص ثم رمته "ماحش" في سلة المهملات. وإنها لمسؤولية تاريخية أن يتوقف المجتمع العربي هنا وألا يغادر الغضب، وذلك بتخطيط بارد إلى أن تقدم لوائح الإتهام ويعاقب المسؤولون. فالسؤال الذي يطرحه إغلاق الملفات هو حول معنى المواطنة ومعنى إنسانيتنا ومعنى كرامتنا. 
 

إنها طبعاً قضية الأم والأب الثاكلين، ولكنها ليست قضية ذوي الشهداء وحدهم. فالقاتل هو الدولة وأشخاص يرتدون زيها الرسمي. والشهيد لم يسقط بسبب من إسمه أو شخصه بل لأنه عربي يشارك في مظاهرة. لذلك يسمح للقناص أن يتناوله برصاصه. إنها قضية الجماهير العربية. ولا شك أن هنالك مجالات واسعة للإجتهاد في كيفية الرد. ولكن هنالك ما لا مجال واسع للإجتهاد فيه مثل أن الشعوب الحية تعبر عن غضبها في مثل هذه الحالات، وهذا مشروع. ولا يفترض أن يتم التعبير عن الغضب لغرض "التنفيس او التفشيش" بل لغرض سياسي هو التعبير عن رفض التقرير شعبياً وليس رسمياً فقط. يجب أن تفهم المؤسسة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي أن مجتمعنا لا يسلم بقرار إغلاق الملفات وأنها ستبقى جرحاً مفتوحاً في العلاقة بيننا.
 

ماذا يتطلب ذلك؟ التظاهر والإضراب وغيره، كلها من وسائل الإحتجاج المدني المشروع. المهم أن يدرك الشارع أن هذه مسؤوليته. وأن البدائل ليست إما لا شيء وإحباط، أو الحرق والإعتداء على الممتلكات. يجب الخروج للتظاهر بتنظيم وقوة وتصعيد النضال. التصعيد يعني عدم إتباع وسائل روتينية من أجل قضاء واجب، كأنه إحياء ذكرى عادية أو مجرد إعتصام لرفع العتب. والمطلوب من ناحية أخرى ليس طرح أفكار غير عادية منعا للملل والروتين. لا يعقل أن يحدد الإعتصام بأربعة أيام وأن يأخذه أحد بجدية. فما سيفعله الطرف المقابل هو إنتظار إنقضاء الأيام الأربعة أو الخمسة ونهاية الإعتصام في الموعد المحدد له. هنالك هدف لكل خطوة نضالية ولا يعقل أن يكون الهدف مجرد القيام بالواجب بدل التصعيد. وهذا ينطبق على المسيرة والمظاهرة العادية في غير أيام التصعيد... التصعيد يعني أن تكون مشاركة غير عادية حجماً أو أن تكون المظاهرة مؤثرة بأشكال أخرى. على كل حال لا يمكن إختراع الدولاب من جديد في كل مرة.
 

ليس الإضراب العام طقساً ولا شعائر ولا يجوز الإفراط في استخدامه وإلا تحول إلى أمر غير جدي ولا يحترمه الناس. ولكن الإضراب كوسيلة نضالية تصعيدية ترافقها مظاهرات في لحظة كهذه هو أمر مطلوب. وعندها يجب أن يتجند الجميع لإنجاحه وليس التذكير بفشل إضرابات سابقة. هذا النقاش وحده يثبط العزائم ويقلل من إمكانية النجاح. إذا قررنا التعبير عن الغضب نتوجه إلى المجتمع لنعبئ ونحرض بهذا الإتجاه، ولا نبدأ نقاشاً لا ينتهي حول جدوى الإضراب وإمكانية إنجاحه. ومن يوافق مضطراً لا يعمل على إنجاح الإضراب أو التظاهر.
 

كانت هذه لحظة للتمييز بين خطوة ضرورية من نوع الإضراب والتظاهر من المسؤولية إتخاذها في كل قرية ومدينة عربية وبين إضراب يتم لمجرد إحياء الذكرى. وهذا خطأ. لقد تظاهرت القيادة العربية وواجهت العنف وحدها دون جماهير لحماية بيت من الهدم في حيفا، وأذكر اطلاق النار وإصابتي بالرصاص المطاطي ليلاً في اللد دفاعا عن بيت دون وسائل إعلام ومع قلة من الشباب وخضنا إضراباً طويلاً عن الطعام، وضربنا في المظاهرات مرات عديدة. ولا يجوز تمنين أحد بذلك. فهذا ما تطلبه الواجب. ومنا من تظاهر أنه يضرب لأغراض إستعراضية غير معقولة تؤدي إلى إسفاف وإلى تحقير العمل السياسي.
 

ولكن بالمجمل ليست وظيفة القيادة أن تنوب عن الجماهير في النضال فعلاً إلا في فترات الإحباط والخمول، ولا أن تقوم بالإستعراض والتمثيل في أي فترة. المطلوب من القيادة هو أن تقود الجماهير بتعيين أهداف واقعية، وأن تكون بينها (بين الجماهير) وأن تضعها أمام مسؤوليتها وأن تعبئ عندما يلزم. أما الإنفصال عن الناس والقيام بعمل إستعراضي لمجرد الخوف من فقدان السيطرة، وهذا خطر وارد، أو لمجرد الخوف من عمل جماهيري غير منضبط فلا يأت بفائدة بل يعمق الأزمة بين القيادة والجماهير.
 

وماذا بعد التعبير عن الإحتجاج بالغضب والتظاهر؟ هنا يأتي دور العمل المدروس الطويل المدى بتخطيط ومتابعة حتى الوصول إلى الهدف المنشود. ولكن الأخير لا ينطلق فعلا ولا يؤخذ بجدية إذا لم تسنده الإرادة الجماهيرية التي عبر عنها الإحتجاج والغضب. 
 

والعمل المثابر يلزمه مؤسسات أكثر من أمزجة، وعقل أكثر من غضب وبناء أكثر من إحتجاج: متابعة قضائية، توجه إلى المؤسسات الدولية، إعداد برامج تدريسية حول كيفية زرع هذه الذاكرة في نفوس الأبناء كي لا ينسوا، وبصيغة ديموقراطية ومتنورة بحيث لا يتحول الأمر الى مجرد حقد يدمر النفوس. النهج النضالي والتخطيط يكملان بعضهما البعض إلى أن يفهموا أن دمنا ليس ماء.