تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"المسيو" بيريز والسيد نصرالله

2001-07-18

فجأة وبغير سابق إنذار قرر شمعون بيريز أن يركز هجومه على السياسة السورية وأن يشخصن الصراع مع زعيم "حزب الله" حسن نصر الله مستخدما نعوتا مثل "مجرم"، و"قاتل" و"مجرم حرب" و"أخطر رجل في المنطقة". وبيريز هو رجل هذه المهام، إنه وزير الخارجية العالمي النزعة، الذي يفتخر بهدوئه ورصانته وثقافته الأوروبية (هذا ما يدعيه على الأقل، ولا يوجد أي إثبات آخر على اتساع ثقافته). إنه المستر بيريز. والمستر بيريز يوزع شهادات التنوّر والتمدن واللياقة السياسية والسلوكية على الناس. إنه صاحب القول الفصل بين الاعتدال والتطرف، وبين الإرهاب والدفاع المشروع عن الذات، وغيرها من العلل والمزايا والسجايا. وهو الحكم الذي يمنح لقب "أخطر رجل" لحسن نصر الله أو لياسر عرفات أو لصدام حسين أو لبشار الأسد أو لأحد المتنافسين الآخرين على اللقب ويدعي البعض أنه في الواقع أخطر واحد في المنطقة.
 

السياسيون المحليون والأجانب الذين يعرفون بيريز يتهمونه بما يلي:
 

التآمر المستمر وعدم الاستقامة. الكذب بشكل مرضي. سماكة الجلد. الرضى الدائم عن الذات. الجمع العبثي بين انعدام الشرف وحب التشريفات. الركض من دون كرامة من أجل مركز يعطيه كرامة...
 

وأضيف إلى هذه المزايا ميزة أخرى. هي القسوة النادرة في مصارعة من يختلفون معه، واستعداده الغريزي لتبرير الجرائم ضد خصوم إسرائيل.
 

كان شمعون بيريز كوزير وكرئيس وزارة وكشريك في السلطة مسؤولا مباشرا عن سياسات شديدة القسوة ضد العرب بعيدة جدا عن السعي من أجل السلام، من المبادرة إلى بناء أكثر المستوطنات إشكالية في منطقة الخليل إلى مجزرة قانا التي راح ضحيتها مئات النساء والأطفال اللبنانيين، والتي اعتبرها بيريز "خطأ" تتحمل مسؤوليته المقاومة اللبنانية لقرب مواقعها من مناطق سكن المدنيين.
 

لقد حاول بيريز في عملية "عناقيد الغضب" التي أدت إلى مذبحة قانا أن يثبت للرأي العام الإسرائيلي أنه لا يقل "رجولة عسكرية" عن سلفه رابين برغم أنه ليس جنرالا، فلم يصدقه الإسرائيليون برغم الضحايا.
 

وقد قرر بيريز اليوم أن يوجه غضب الرأي العام "المتنور" في إسرائيل ذاتها وفي أوروبا إلى السيد حسن نصر الله. وهو يلبس البدلة الأوروبية ويرطن بالفرنسية، والسيد نصر الله يعتمر العمامة ويلبس جلبابا وعباءة ويرخي لحيته ويخطب بالعربية ببلاغة وهدوء ورصانة. ولكن بلاغة وهدوء وقد قرر بيريز اليوم أن يوجه غضب الرأي العام "المتنور" في إسرائيل ذاتها وفي أوروبا إلى السيد حسن نصر الله. وهو يلبس البدلة الأوروبية ويرطن بالفرنسية، والسيد نصر الله يعتمر العمامة ويلبس جلبابا وعباءة ويرخي لحيته ويخطب بالعربية ببلاغة وهدوء ورصانة. ولكن بلاغة وهدوء ورصانة حسن نصر الله عصية على الفهم الأوروبي لأنها عربية، ولأن صاحبها يبدو كما يبدو مخيفا في أنظارهم.

 

والمستر بيريز يدرك هذا الانحياز القبلي وهذه الفجوة البينة لصالحه منذ نقطة البداية وقبل بدء النقاش، وهو يستغل ذلك حتى الثمالة.
 

وفي أجواء هيمنة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي لا بد من قبولها كتذكرة دخول إلى الحوار الإسرائيلي الداخلي، وإلا أصبحت "عدو الشعب"، يسبح شمعون بيريز بحرية تامة. إنه يفهم تمام الفهم مقولات "كارل شميت" من عشرينات وثلاثينات هذا القرن من أن السياسة تعتمد بالأساس على التمييز الحاسم والواضح بين العدو والصديق، ولذلك فإنه يرسم بعناية وبهدوء صورة العدو ليفهمها الأصدقاء، وذلك من أجل الانتصار على هذا العدو، أو من أجل توجيه الحقد إليه وإرخائه في جبهات أخرى. ولذلك فإنه يأخذ لنفسه الحرية الكافية ليلفت نظر مقدم البرنامج: "انتبه لقد قلنا عن نصر الله إنه مجرم ولم نقل إرهابيا".
 

يا سلام على الدقة. مساكين نحن أبناء العالم الثالث الذين يسرفون بالكلام مزايدة على بعضهم البعض حتى يصبح التشخيص الدقيق عيبا وتخاذلاً، لأن هنالك دائما من يزايد "فاتك أن تقول كذا" و"هل يريد المحاضر المحترم أن يقول إن إسرائيل مجرد دولة محتلة"، أو "مجرد عنصرية"، ولماذا لم تذكر "الأمبريالية الأميركية"، وهل "الصهيونية هي مجرد حركة كولونيالية".. مساكين نحن أمام صناعة الكلام عن سبق الإصرار وبدقة بحيث يصبح التحول عن كلمة إلى إخرى حدثا بحد ذاته.
 

يقول بيريز إن نصر الله ليس مجرد "إرهابي" بل هو "مجرم"، وينبه المذيع إلى هذا الاختلاف في بيان الحكومة الإسرائيلية عن الاستخدامات السابقة لكلمة "إرهابي" ثم يضيف ان بيان وزيري خارجية سوريا ولبنان دعما للمقاومة يعبّر أيضا عن دعم إجرامي لجرائم "حزب الله".
 

يعي المستر بيريز دون شك، أن كلمة "إرهابي" باتت تحمل بُعداً إيديولوجياً، يجعله تعبيرا عن موقف ضد حركة مقاومة أو حركة تحرر أو غيرها، أكثر مما يجعله تعبيرا دقيقا عن واقع. ولذلك فهو يبتعد عن مصطلح "الإرهاب" هربا من الإشكالات الإيديولوجية التي بات يثيرها في الشرق والغرب على حد سواء ويتوسل بدلاً منه مفهوما يوميا إنسانيا عاديا لا يثير مثل هذه الإشكالات وهو مفهوم "الإجرام". ليس كل الناس ضد "الإرهاب"، ولكن كل الناس ضد "الإجرام".
 

يزور بنيامين بن أليعازر تركيا في الفترة ذاتها، ويطالب الأتراك بإقناع سوريا بالعودة إلى المفاوضات.. ولم يجد بن أليعازر سوى تركيا لإقناع السوريين!!! (وشارون يزور الجولان ويطالب بتكثيف الاستيطان ووزارة بيريز تقرر) هكذا في جلسة!! (تكثيف حملة الدعاية ضد سوريا وضد رئيسها الدكتور بشار الأسد في محاولة لإفشال زياراته الأوروبية!! هكذا يقرر طاقم خاص في الخارجية الإسرائيلية، وقرارات هذا الطاقم التآمرية ترشح) من ذاتها (الى "معاريف" و"هآرتس". وبكلمات أخرى يفهمها الناس: وزارة خارجية السياسي الأوروبي المتنور شمعون بيريز تتآمر لإفشال سياسات الإصلاح السورية بالانفتاح على أوروبا.. هكذا يخطط السياسي المنفتح بيريز. وما دام بشار الأسد "عدونا" فالأفضل أن تفشل سياساته الاقتصادية والإدارية والإصلاحية.. فالتنور ليس هدفا في عرف هؤلاء "المتنورين"، بإمكان الصديق أن يكون متخلفا وديكتاتوريا ورجعيا، وبإمكان العدو أن يكون متنورا وحداثيا وإصلاحيا.. هذا معنى فلسفة كارل شميت الأوروبية وهذه سياسات شمعون بيريز المقبولة في تلك الأصقاع.
 

ولمصلحة إسرائيل أن يسمى حسن نصر الله حاليا "مجرما". ولولا عنصر المصلحة السياسية الباردة والجافة والقاسية التي لا ترحم لاعتبرنا الاهتمام بالكلام والعناية بانتقاء الكلمات شأنا غيبيا كالسحر الذي يؤمن بقوة الكلام على إعادة تشكيل الأشياء. ومن هنا التطير واستشعار الشر من ذكر الموت أمام الأحياء بدون استدراك، أو ذكر ما يعتقد أنه نجس بدون التأكيد على بعده عن السامعين.. وهكذا..
 

ولكن شمعون بيريز يؤمن بسحر من نوع آخر.. إنه سحر الخطاب السياسي، والإعلام، والآراء المسبقة، والغرائز السياسية وتوجيهها، وتصوير صورة العدو، ليصبح هو الشر بعينه، فيخرج من دائرة الحوار والنقاش الى منافي النبذ والإدانة.
 

سيجد أي باحث متوسط دون كبير جهد وعبقرية ان سياسات بيريز مسؤولة عن قتل أعداد أكبر من المدنيين، العرب واليهود، من سياسات المقاومة اللبنانية.. وسيتوصل الباحث إلى هذه النتائج ذلك حتى لو لم يميز بين عنف المحتل وعنف الواقع تحت الاحتلال.. فماذا نقول نحن الذين لا يمكن أن تحررنا جهودنا العلمية البحثية من التمييز بين عنف المحتل وعنف الواقع تحت الاحتلال؟
 

لا تبحث المقاومة اللبنانية عن شرعيتها في الرأي العام الإسرائيلي أو الأوروبي، ومع ذلك لم يعد صعبا فضح بيريز حتى في إسرائيل وفي أوروبا والمطلوب بذل بعض الجهود الصادقة.