تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إيضاحات تفرضها لحظة الانهيار

2003-04-15

من معالم شخصنة النظام والدولة في العراق تصوير انهيارهما أيضاً كانهيار تمثال الزعيم. وإذا طمح المشهد الاعلامي ان يكون تمثيليا فعلا، بمعنيين، كما التمثيل عادة، فإن جماعات الشبان الذين لا ينجحون حتى بإنزال تمثال ويحتاجون حتى في هذه المهمة الرمزية، هذه المساهمة الرمزية في التخلص من النظام، الى عون من الدبابة الاميركية، فانهم يمثلون ايضا حالة البديل المطروح اميركياً.

 

لقد أشارت اعمال النهب والسلب بأكثر من معنى الى رومانسيي المجتمع دون دولة ملمّحة ان المجتمع دون دولة هو حالة وحشية، وقد أسماها هوبس في القرن السابع عشر عندما دعا الى سلطة مطلقة قائمة على تعاقد اجتماعي من قبل اناس جزعين من هذه الحالة البدائية دون دولة، حالة حرب الكل ضد الكل، او باللاتينية Bellum Omnium Contra Omnis.

 

ولكن نظام صدام حسين، وأمثاله في الشرق والغرب، اثبت ان السلطة المطلقة قد تكون ايضا حالة وحشية يكشف المجتمع في سلوكه “حقيقتها” و”حقيقته” في غيابها. لقد كانت المشاهد الرعاعية من سلب ونهب كافية لحاجات العدسة التلفزيونية حتى لو لم يشارك فيها عشرات الآلاف، وحتى لو شجعها الغزاة لحاجاتهم. وستقوم حاجاتهم لفترة طويلة على تناقضات المجتمع مع ذاته، وعلى تأجيج هذه التناقضات. ان من يأتي الى العراق وبجعبته مفاهيم عرقية ودينية واثنية حول التعددية التمثيلية في العراق لا ينوي دمقرطة العراق.

 

وان من يصرخ الآن في مدن العراق، بحق، طلبا للأمن انما يرجو القوات الاميركية ان تضطلع بهذه المهمة فلا وجود لقوات غيرها حاليا. ويكاد الصحافيون المارقون، المارون من تلك اللحظة التاريخية، الذين يغيرون لهجتهم وتوقعاتهم بأسرع من تغير الوقائع ذاتها، يكاد هؤلاء يحرجون الاميركيين بالسؤال لماذا يجلسون ويتفرّجون؟ وعندما يقرر الاميركان أخيراً التدخل لتسيير حياة السكان، فسوف يتنفس “العالم” الصعداء.

 

و”العالم” في اللبنانية والفلسطينية والسورية العامية، لكي لا نخطئ ونقول بلاد الشام، تعني الناس. والناس في أيامنا، او “العالم”، هم المشاهدون دون رحمة وبشكل استحواذي. انهم يستهلكون كل شيء بعد ان تحوّل الى مشهد: الحرب والفاجعة والفجيعة والألم والأمل والوهم والحقيقة والأمنية والإحباط.

 

ومعنى واقعة التماثيل الوحيد خارج سياق هذا الاستهلاك الاعلامي يكمن في انه يثبت للمرة الألف ان من يبني تماثيل لنفسه حياً، او يدع الناس يخلّدونه حياً، انما يبني للحظة الانهيار عندما تهدم التماثيل ولا تصمد لتتجاور في غالبية الحالات لحظة وفاته السياسية او البيولوجية. وتتطابق المنيتان او الوفاة والمنية، في حالة الديكتاتورية الهشة او المشخصنة تماماً، الفارغة من المحتوى الاجتماعي. كما تشير واقعة التماثيل الى نقيضها، او تذكّر بعكسها، فالتماثيل والأنصبة إذا بُنيت لتبقى، فانها تقام لتخليد الناس اذا بقي من يرغب بالتذكر والتخليد بعد الوفاة او بعد زوال القسر، وهذه ايضاً قضية خلافية، اي حتى هذا النوع من التخليد هو قضية تحتمل الخلاف بالرأي.

 

لو سُئل اي من معارضي الحرب عن اسباب معارضته للحرب فلن تجد اشارة واحدة للتعاطف او التأييد لنظام صدام حسين. واذا وجدت نوعا من التعاطف القائم على قلة المعلومات او على الايديولوجية المعتاشة على قلة المعلومات المزدهرة على المرارة والرغبة في الانتقام من اي شيء، فانك لن تجد بالتأكيد من اعترض على الحرب او تظاهر ضدها وفي نفسه وهم قابل للصياغة في جمل مفيدة مثل: ان نظام صدام حسين سينتصر على العدوان او سيخرج من الحرب منتصرا. فلماذا الاحباط اذاً؟ لأن المحتجين عبارة عن بشر لا حواسيب، ولأن معارضة العدوان عند البشر لا بد ان تتحول الى تضامن مع ضحاياه. ولا يوجد تضامن دون امل او دون وهم. ولا تخرج ملايين الناس الى الشوارع للتظاهر تحت شعار ان العدوان سوف ينتصر حتى لو كانت تعرف ذلك. فهذا ليس شعارا للتضامن او التعبئة للتضامن.

 

وعلى اية حال، فقد صادفنا نقيض هذا المزاج ايضا عند معارضي الحرب المسرفين بالتشاؤم لاستنفار الناس ضدها ولتبرير معارضتها بمعنى ان من بعدها لن ينهار العراق فحسب بل سيزول كل شيء، اي من بعدها الطوفان نفسه، ونهاية كل شيء الا ازواجاً من ذكر وأنثى من كل نوع أيّد السياسة الاميركية، او لبس قبعه ولحق ربعه، الذين بنوا لأنفسهم فلكا كما امرت اميركا، فيما الناس تحتج على العدوان او تقاوم في فلسطين. فلماذا الاحباط ما دام الجزء الاول من نبوءة الغضب قد تحقق؟

 

على من أحبط ويكابر الآن خلافاً لما نقول هنا ان يسأل ذاته: لماذا نشر الاوهام المنافية للواقع والمنطق وحتى للخيال العادي حول قدرات النظام العراقي بعد ثلاثة عشر عاماً من الحصار؟ ولماذا تقوم تعبئته السياسية على اوهام؟ ولماذا شعر بعدم الارتياح أثناء الاحتجاج على العدوان كلّما عبر أحدهم عن رأيه بحقيقة نظام صدام حسين، تحت عنوان: هذا ليس الوقت لانتقاد النظام؟ والانتقاد هنا هي كلمة متواضعة بحق هذا النوع من الانظمة وجرائمها.

 

ولكن لا فائدة فهنالك من لا يستطيع ان يبني نشاطه السياسي الا على الوهم، لأن موقفه لا يقوم على الاخلاق في الموقف والعقل في التحليل، بل على الأوهام في التحليل والأماني في الموقف. هنالك من لن يريح القومية العربية، حركة وتعاطفا وقضية، وحركات الاحتجاج والمعارضة العربية، من قبضته عليها باعتبارها حكرا على الاساطير والخرافات والأوهام والمرارة والتفكير غير الديموقراطي.

 

لقد اغتال النظام المجتمع المدني العراقي بما فيه أشرف من في القوميين انفسهم باسم القومية العربية، وعرّض شعبه للحصار ثلاثة عشر عاماً بسبب من تعنّت غير مفهوم ومحاولة للتصرف كدولة عظمى باحتلال دولة جارة بعد حرب غير مبرّرة ضد ايران أحال فيها المجتمع العراقي الى حطب يتدفأ عليه جنون العظمة، وراهن ان يحتل مكان شاه ايران بالنسبة لأميركا. وانتهى النظام الذي لم يستخدم السلاح الكيماوي الا ضد مواطنيه الى ما انتهى اليه. هل عارضنا ونعارض حاليا السياسة الاميركية لهذه الاسباب؟ هل عارضناها لاعتقادنا انها ستفشل في حربها على العراق؟

 

لقد عارضناها بسبب دوافعها وغاياتها رغم معرفتنا بنهاية الحرب الاكيدة. والدوافع والغايات ما زالت قائمة. والمهمة تكمن في مواجهتها بخطاب سياسي عقلاني ديموقراطي يضطرها الى التعرّي امامه. ولكن مواجهتها لا يمكن ان تتم بعد بأساليب التعبئة والتحشيد الخرافي والاسطوري القائمة على الكذب على الذات قبل الآخر، والتي تقع ضحية اعجابها اللحظي بذاتها المشاهدة في اعلام خبيث ما يلبث ان يتركها ويمضي الى نقيضها بعد ان يورطها في المزاودة اللفظية والتهريج.

 

لقد انهار النظام بأسرع مما توقّع بعض المتضامنين الذين عادوا من زيارة بغداد بانطباع “الشعب المسلّح”، تحت وطأة ضربات خارجية لانه فارغ اجوف وديماغوجي. و”الشعب المسلح” يدخل في اطار الديماغوجيا لنظام اخذ شعبه رهينة لا اكثر ولا أقل.

 

والدوافع والغايات هي الهيمنة الامبريالية ويكمن التحدي في جعل هذه الهيمنة الامبريالية في تناقض داخلي مع خطابها الديموقراطي الداخلي، ان اخطر ما في السياسة العدوانية هو وجود انسجام بين خطابها البراغماتي العقلاني الديموقراطي الداخلي وبين مهمتها الخارجية.

 

كما يكمن التحدي بايجاد حالة من التماسك الاجتماعي وليس السجالي فحسب في مواجهتها على مستوى المجتمعات العربية، لكي لا تنهار الحالة تحت وطأة الضربات الخارجية. وهنالك متّسع من الوقت لترتيب ذلك. والمرحلة المقبلة في فلسطين تليها سورية ولبنان. ولا توجد في اي من هذه الدول اي مبررات للعدوان حتى بالمفهوم الامبريالي الاميركي الوحداني الطابع، ولكن إمكانية التآمر واردة دائماً. وقد وردت فعلاً. وفي فلسطين العدوان الاسرائيلي قائم دون ان تنهار الحالة الفلسطينية. ويكمن التحدي في الا يتم التعامل مع الانهيار العراقي كأنه انهيار فلسطيني.

 

ولا يمكن ان يصمد الفلسطينيون في هذا التحدي دون جبهة اجتماعية وسياسية متماسكة. امكانية تمرير المخطط دون ذلك واردة والهدف في فلسطين ليس النفط بل الإملاء والهيمنة من خلال كيانات سياسية.

 

بقي أن يلخّص من يرغب في ان يلخّص معنى حركات الاحتجاج الشريفة ضد العدوان وانجازها انها اضطرت زعامات عربية للكذب حول موقفها من الحرب، وان يفحص من يرغب ان يفحص وزن الحركة الاحتجاجية في دول غير ديموقراطية لا وزن فيها لحركة الاحتجاج دون مشروع سياسي ديموقراطي، لنفحص ايضا خطاب حركة الاحتجاج ضد العدوان هل كان ديموقراطيا فعلا، هل كان مناسبة للجمع بين القومي والديموقراطي.