تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

أول ثلاث نساء...ضحايا شارون

2003-07-24

صفية محمد محمود شماسنة، آمنة عيسى عبدالحليم الفقيه، حليمة حسن أحمد طه، من قرية قطنّه شمال غربي القدس، قتلن في طريقهن الى بئر ماء القرية بإطلاق النار من كمين. لم تنشر اسماؤهن، ولا يعرف الناس ربما ان الذي أصدر الأمر بإطلاق النار عليهن قبل خمسين عاماً كان الرائد ارييل شارون.

 

بين الأعوام 1952-1953 كاد شارون يصبح طالباً منشغلاً بالدراسة في الجامعة العبرية في القدس عندما عيّن قائداً لكتيبة الإحتياط، وبمرور أيام معدودة على تعيينه جمع ضباطه وقال لهم ان مواطنات القرية العربية قطنّه اللواتي يذهبن الى بئر الماء يقطعن عملياً الحدود "من دون ان يدرين" مما يمس بالسيادة الاسرائيلية. وادعى "اريك" ان الحدود بين المستوطنة الاسرائيلية "معاليه هحميشاه" والقرية العربية قطنّه غير مرسوم بشكل واضح وأن سكان القرية غالباً ما يخترقون الأراضي الاسرائيلية. ومن أجل تصحيح هذا الخطأ أمر "اريك" بنصب كمين وظيفته اطلاق النار على النساء اللواتي ينشلن الماء. وضعت وحدة الرماة في الكمين في حالة تأهب لحالة رد مدفعي على اطلاق النار على النساء القرويات. وأمر "اريك" ضباطه بعدم نشر خطته لئلا تصل الى مسامع قيادة المنطقة الوسطى او للأركان العامة. ونفذ السيناريو كما خطط "أريك" تماماً. نزل التلة ليلاً أربعة ضباط، وقتلوا إمرأتين من بين اربع خرجن لجلب الماء من بئر القرية. وفتحت المدفعية الأردنية النار باتجاه القرى الاسرائيلية المجاورة. وردت المدفعية الاسرائيلية بالمثل، وانتهت الحادثة بتدخل مراقبي الامم المتحدة القيمين على اتفاقات وقف اطلاق النار.

 

وعندما لخص "أريك" الحادث مع ضباطه حاول ان يشرح لهم الفرق بين اطلاق النار على اهداف متحركة من حالة سكون وبين اطلاق النار في حالة حركة اثناء الحرب. عوزي بنزيمان، "لا يتوقف عند الضوء الاحمر"، (آدم - تل ابيب 1994 ص35-36). اتصلت بالكاتب لتأكيد مقتل النساء في طريقهن الى بئر الماء فقال ان مصدره هو اشخاص كانوا هناك، جنود في الوحدة نفسها وخدموا مع شارون.

 

توجهت الى قرية قطنّه وصحح السكان معلوماتي: في تلك الليلة قتل ثلاث نساء وليس اثنتين، وقد طلبت الأسماء التي لم تنشرها المصادر الاسرائيلية. وكان من المهم ان اثبت الاسماء في هذا المقال لأنهن أول نساء عربيات قتلن بأمر من شارون في عملية عسكرية.

 

نفذت جريمة قتل النساء بهذا الغدر، خلافاً لما يعتقد سكان قرى شمال غربي القدس، قبل اقامة الوحدة 101. فقد أُقيمت هذه الوحدة في آب (اغسطس) 1953 وقادها شارون منذ تأسيسها كوحدة خاصة في عملياتها الانتقامية ضد القرى الفلسطينية على طول الحدود الاردنية وضد اهداف مدنية في غزة وعلى طول خطوط وقف اطلاق النار مع سورية. وقاد شارون عملية توحيدها مع وحدة المظليين الرقم 890 في كانون الثاني (يناير) 1954 ودمجها في سلاح المظليين بأمر من دايان بعدما عين شارون قائداً لسلاح المظليين.

 

ومن اشهر "كلمات السر" الأخلاقية التي خلفتها هذه الوحدة في تاريخ العسكر الاسرائيلي جواب نائب قائد الوحدة شلومو باوم على ترددات بعض جنودها إزاء مدى اخلاقية ما يقومون به من أعمال قتل انتقامية ضد مدنيين لم يرتكبوا جرماً ومدى مس هذه العمليات بمبدأ "طهارة السلاح". قال شلومو باوم مقولته القصيرة "يجب أن يكون السلاح نظيفاً وليس طاهراً"، أي ان على الجندي ان يهتم بنظافة سلاحه وجاهزيته للمعركة وليس بالمعايير الاخلاقية التي لا مكان لها في اعتبارات الجندي المقاتل في عرف هذه الوحدة. لقد اصبح نمط الجندي في هذه الوحدة ثم في سلاح المظليين نموذج المقاتل المقدام الفظ والهجومي المباشر الذي يحتذى في الجيش الاسرائيلي بأكمله. لقد صممت هذه الوحدة اخلاقيات الجيش الاسرائيلي. ولا اعتقد ان هذا النموذج قد احتذي في كل شيء الا في علاقته بالكذب والتقارير الكاذبة كما سنرى.

 

وأولى عمليات هذه الوحدة العسكرية اقتحام مخيم البريج يوم 28 آب بعد منتصف الليل، صباح 29 آب، وعندما اكتشف أمر الوحدة قامت باقتحام المخيم للخروج من جهته الأخرى بدلاً من الانسحاب، فأدى ذلك الى محاصرتها بالمدنيين العزل، وكانت مذبحة أدت الى مقتل 43 لاجئاً فلسطينياً، منهم 7 نساء وخمسة أولاد وجرح 22 شخصاً، أما خسائر الوحدة 101 فتلخصت بجريحين. وقاد شارون العملية بنفسه. ولكي يبرر شارون هذا الكم الهائل من الضحايا المدنيين وسبب اقتحامه للمخيم على رغم افتضاح أمره قال: "فتحت علي النار من اتجاه شمال - غرب... قررت ان العبور من المخيم ذاته والتملص من جهته الأخرى أفضل من العودة من حيث أتيت، لأن الحركة في هذا الاتجاه صعبة بسبب المزروعات والبساتين والأسلاك الشائكة" وبسبب الحراس" قررت أيضاً ان الهجوم أفضل من خلق انطباع الهرب" ولذلك اقتحمت المخيم مع مجموعتي". (بيني موريس، "حروب اسرائيل الحدودية" 1949-1956"، عام عوفيد تل ابيب 1996 ص273). توضح الجملة الأخيرة التي كتبها شارون بنفسه في تقريره العسكري أنه يفضل الاقتحام وقتل المدنيين على الظهور بمظهر الجبان. المعادلة واضحة والثمن واضح. وقد تنكرت اسرائيل رسمياً لمسؤوليتها عن العملية وجعلت الديبلوماسيين الغربيين يفهمون ان وراء العملية مدنيين اسرائيليين من القرى الحدودية أو أعضاء أحد الكيبوتسات، كرد انتقامي على عمليات المتسللين، وهي الكذبة نفسها التي ستتكرر بمقاييس أكبر في حالة قبية. ووصف المراقبون الدوليون لوقف اطلاق النار عملية البريج كـ"حالة مخيفة لمذبحة مقصودة".

 

يوم 13 تشرين الاول (أكتوبر) من عام 1953 اجتمع بن غوريون ولافون (وزير الأمن) ودايان (رئيس غرفة العمليات في قيادة الاركان) للبحث في عملية الرد على قتل ام وطفليها في قرية "يهود" بفعل انفجار قنبلة يدوية ألقاها في بيتهم متسلل فلسطيني. واقترح أحد المجتمعين قرية قبية كعنوان للرد الانتقامي، وكما يبدو كانت هنالك خطة معدّة في الدرج، اذ اقترح احدهم تدمير 50 بيتاً من 280 بيتاً في القرية. واتخذ القرار، لكن الملفت هو تسلسل الأمر الذي وجه لتنفيذ العمليات من المستويات العليا الى المستويات الدنيا:

 

1- أمر دايان الموجه الى رئيس قسم العمليات في قيادة الاركان والمسمى "أمر عملية شوشنه": "هدف قيادة الأركان، تنفيذ عمليات رد حادة ضد القرويين الذين يستخدمون كقواعد لعمليات التسلل" المهمة:

 

(أ ) تنفيذ عملية اختراق لقرى نعلين وشقبا بهدف تفجير وتخريب عدد من البيوت واصابة سكانها.

 

(ب) تنفيذ عملية هجوم على قرية قبية واحتلالها موقتاً وتفجير بيوت واصابة السكان والتسبب بهربهم من القرية".

 

2- نقل رسول الأمر باليد الى قيادة المنطقة الوسطى، وهناك صدر أمر تنفيذ العملية هذا نصه: "هدف قيادة الأركان هو تنفيذ عمليات رد حادة على صورة تخريب وقتل في القرى العربية" الهدف: الهجوم على قرية قبية، احتلالها موقتاً، تنفيذ الهدم وقتل أكبر عدد ممكن من أجل دفع سكان القرية الى الهرب من بيوتهم... اجتياح قرى شقبا ونعلين، تخريب عدد من البيوت وقتل سكان وجنود". واضح أن نص هذا الأمر أكثر حدة ووضوحاً من النص الاجرامي الوارد أصلاً في امر هيئة الأركان، ولكن هنالك من زاده حدةً عند ترجمته الى امر على المستوى التنفيذي: "قتل أكبر عدد ممكن" إلخ" . وقد عمل في حينه في قيادة المنطقة الوسطى دافيد اليعيزر (رئيس اركان حرب 1973) ضابط عمليات المنطقة الوسطى يقابله رحبعام زئيفي (جاندي) عملياً على مستوى هيئه الأركان في قسم العمليات.

 

3- حرر شارون كقائد العملية أمراً للوحدات المشاركة في تنفيذها: "هدف القيادة تنفيذ عمليات رد حادة... الهدف: الهجوم على قرية قبية، واحتلالها وقتل أكبر عدد ممكن والمس بالممتلكات... اجتياح قرى شقبا ونعلين بهدف القتل وتفجير عدد من البيوت".

 

حاول مؤرخ بن غوريون شبه الرسمي شبتاي طيبيت في مقال نشره في "هآرتس" يوم 6 حزيران (يونيو) 1994 ان يبرئ ساحة بن غوريون باحثاً عن السبب وراء التغيير في نص الامر. ويصل الى نتيجة ان مصدر التغيير هو في ثقافة الـ"بلماح" العسكرية، وهو التنظيم الذي تتحدر منه نخبة الضباط، وقد انتشرت عبارة "قتل اكبر عدد ممكن" بالعبرية "التسبب بخسائر مكسيمالية بالارواح" في استخدام "البلماح" منذ ان قررت "الهغناة" يوم 12 كانون الاول (ديسمبر) 1947 الانتقال الى سياسة "دفاع فعال والى منظومة ردود عقابية". وكل ما يتحفنا به شبتاي طيبيت عملياً هو ان لا احد مسؤول وان هذا النمط من الاوامر والعمليات ليس جديداً وان له جذوراً عميقة في الثقافة العسكرية.

 

نفذت العملية صباح ما بعد منتصف الليل يوم 15 تشرين الاول. وحملت القوة التي نفذت العملية معها 700 كغم متفجرات. وتم تفجير 54 بيتاً في مدة لا تتجاوز ثلاث ساعات. وقتل 70 من سكان القرية غالبيتهم من النساء والأطفال بالرصاص، وقسم منهم تحت الانقاض في بيوت لم يحذر سكانها قبل تفجيرها.

 

وفي ضوء الضجة الدولية التي احدثتها العملية اصدرت حكومة اسرائيل بياناً قام بن غوريون بنصه وقراءته بنفسه في الإذاعة: "منذ أربع سنوات تقتحم جيوش عبر الاردن، ومن دول عربية أخرى المستوطنات اليهودية الحدودية والقدس من أجل القتل والسرقة. وقتل وجرح مئات المواطنين، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، وتبنت حكومات عربية هذه العمليات مباشرة او بشكل غير مباشر بهدف سياسي واضح، وهو هدم اسرائيل وجعل الحياة فيها مستحيلة ولذلك استغلت اللاجئين الفلسطينيين ولم توطنهم في بلادها، ولم تساعدهم على تدبر أمرهم في حين ساعدت حكومة اسرائيل اللاجئين اليهود من الدول العربية على ان يستوطنوا في بلادها...". وتطول المقدمة الاخلاقية الى ان تصل الى الأساس وهو موقف حكومة اسرائيل من مذبحة قبية: "كل واحد منا يأسف للدم الذي يسفك في كل مكان، وليس هنالك من يأسف أكثر من حكومة اسرائيل اذا سفك دم في عملية الانتقام في قبية، ولكن المسؤولية كلها ملقاة على عاتق حكومة عبر الاردن... ترفض حكومة اسرائيل بكل قوة الرواية الخيالية والشريرة، وكأن ستمئة جندي في جيش الدفاع الاسرائيلي شارك في العملية ضد قرية قبية. لقد قمنا بإجراء فحص دقيق وتبين لنا بشكل قاطع انه لم تغب أية وحدة عسكرية عن معسكرها، ولا حتى أصغرها، في ليلة الهدم في قبية".

 

هذا نص البيان الذي قرأه بن غوريون بصوته. كذب صريح يرافقه الوعظ الاخلاقي للآخرين، وصراحة وحزم في إنكار التهم، والحديث القانوني الطابع عن اجراءات فحص تمت. ويذكّر هذا النوع من النصوص الرسمية بالبيانات التي يصدرها الجيش الاسرائيلي بعد قتل مدنيين فلسطينيين بصيغة أنه اجرى فحصاً دقيقاً وتبين له انه لم يقم اي جندي اسرائيلي بإطلاق النار، وانه يجب البحث عن مصادر اخرى لإطلاق النار.

 

ومع ذلك زرع هذا البث الاذاعي بصوت بن غوريون بعض الشك في الغرب. لقد صعب على الديبلوماسيين الانكلوساكسون بشكل خاص ان يصدقوا ان رئيس حكومة دولة ديموقراطية صديقة، ينشر الأكاذيب بهذا الهدوء النفسي.

 

هذه المدرسة الميكيافيلية التي تحدد الهدف: اظهار اسرائيل قوية، جعل العرب يفهمون الثمن المرتفع للاعتداء على اسرائيل، مثلا، ثم تبرر الوسيلة الافضل للتوصل الى هذا الهدف ولو بالكذب الصريح، هي المدرسة السياسية والعسكرية التي نشأ فيها شارون. وقد فاخر شارون في ما بعد بهذه العملية ومثيلتها وبالنتائج العسكرية الايجابية الناجمة عنها وبفعاليتها على مستوى الردع. وفي مقدمته لكتاب مئير هارتسيون يكتب شارون عن الوحدة 101 ما يأتي: "ابرز عملياتها كان في قبية والخليل. وغيرت هذه العمليات مفاهيم الجيش واعادت اليه الثقة بالنفس. كان لهذه العمليات تأثير فوري في العدو. في منطقة اللد حيث كثرت عمليات العدو وكلفتنا خسائر بشرية كثيرة ساد الهدوء لسنوات طويلة، كما انجز انجاز شبيه في منطقة القدس" (مقدمة الجنرال ارييل شارون في: مئير هارتسون، "فصول مذكرات" لفين - ابشتاين، تل ابيب: 1969، ص 16).

 

بعد توحيد الوحدة 101 مع كتيبة 890 من سلاح المظليين بقيادة شارون تم تنفيذ عمليات أخرى عديدة بالمنطق نفسه مثل عملية نحالين (29 آذار/ مارس 1954) التي أُعدم فيها عملياً أربعة مواطنين انتزعوا من بيوتهم من بين عائلاتهم بعد منتصف الليل وقتلوا كأسرى، وعملية خربة جنبا يوم 26 ايار التي قتل فيها اسرى مقيدو الايدي، وغيرها مما لا يتسع المجال لتعداده.

 

وكان نجم العمليات الى جانب شارون مئير هارتسيون الذي أُعتبر بطل الوحدة بامتياز وأشرس مقاتليها واسطورة العسكرية الاسرائيلية. وقد كتب في مذكراته عن "مغامرات" تلك الفترة كأنها نوع من تحقيق الذات.

 

وقد قتل بدو كما يبدو أخت مئير هارتسيون وصديقها في وادي الغار قرب اريحا عندما "تنزها" مشياً على الأقدام في المنطقة الأردنية. بعد ثلاث اسابيع، وكرد فعل على هذه العملية، اخترق يوم 4 آذار 1955 أربعة مظليين بينهم مئير هارتسيون الحدود الى مخيم بدوي من عشيرة العزازمة والجهالين على بعد 8 كم الى الشرق من الحدود وأطلقوا النار على بدوي واحد حاول الهرب بعدما رآهم، فأردوه. ولكنهم أسروا خمسة بدو آخرين. وبعد محاولات متعددة وفاشلة للتحقيق معهم، اذ لم يعرف العربية أي من المظليين، تم قتل أربعة منهم طعناً (وفي روايات اخرى ذبحاً) بالسكاكين، وأطلق سراح الخامس ليقص للناس عما رأى.

 

تظاهر بن غوريون بأنه مستاء من العملية وطالب بمحاكمة الفاعلين، لكنه ما لبث ان اختلف مع شاريت لأنه قام بنشر أسمائهم ثم تفهم موقف الجيش الذي لم يتعاون مع الشرطة، وفي النهاية لم يحاكم أحد.

 

وما يهمنا من هذه العملية هو ان الجيش كان متورطاً في العملية الانتقامية، وأن شارون ساعد المظليين الأربعة بالسلاح والغذاء والعتاد، وأنه نقلهم بسيارة من سيارات الكتيبة حتى الحدود وأرسل مظليين لاستقبالهم عند عودتهم. كما ان شارون أمر الاربعة ألا يتعاونوا مع الشرطة: "صامتون" بموجب أمر واضح من اريك" كتب شاريت في يومياته. يوم 22 حزيران (يونيو) 2003 قال شارون لوزرائه عن البناء في المستوطنات: ابنوا واصمتوا... ليست هنالك ضرورة ان تخرجوا راقصين كلما أُعطي الإذن للبناء في المستوطنات... تجمعنا مع اميركا علاقات ثقة وصدقية عميقة. ("يديعوت احرونوت" 23 حزيران 2003).