تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

أميركا "القديمة" وأوروبا "الجديدة

2003-07-31

اشتهر تصريح رامسفيلد قبل الحرب حول التعارض بين الموقفين، الاوروبي والاميركي، الذي قلل من امكانية ان تلعب فرنسا والمانيا دوراً خارجياً بارزاً، واكد على بروز "اوروبا الجديدة" الى جانب الولايات المتحدة في سياستها الخارجية: " يبدو انك تتحدث عن موقف فرنسا وبريطانيا، انا لا افعل ذلك، هذه اوروربا القديمة. اذا نظرت الى اوروبا ناتو بمجملها، ستلاحظ ان مركز الثقل ينتقل الى الشرق" (وسائل الاعلام، 23 كانون الثاني/ يناير 2003).

 

لقد ظهر على مستوى الرأي العام تنافر واضح بين الموقفين الاوروبي والاميركي. لا شك في ذلك. و نتيجة لقربها الجغرافي وتضررها المباشر من العنف والهجرة على حد سواء، حافظت اوروبا ما بعد السبعينات تقليدياً على موقف ضد التوتر في المنطقة، وقد يتفاءل البعض بمراجعة للإرث الاستعماري.

 

وقد صعب على رامسفيلد تحديد المعيار لتقسيم اوروبا بين قديمة وجديدة: فاسبانيا وايطاليا وبريطانيا ليست من ضمن الاعضاء الجدد في الـ"ناتو" لكنها ايدت سياسة الولايات المتحدة العدوانية بدون شروط، مما يقصر صفة القدم على فرنسا والمانيا. وروسيا، من ضمن الدول الجديدة بمعيار الدول التي برزت حديثا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، اتخذت موقفاً متحفظاً من الحرب.

 

لذلك كان عليه ان يكون اكثر وضوحاً في فترة لاحقة ليجعل الموقف في السياسة الاميركية هو المعيار للتمييز بين الجديد والقديم بعدما تورط فيه ليصبح نظرية تحتاج الى تفسير جديد، وهكذا شهدنا عملية تحول رامسفيلد هاوي المصارعة طوال مدة خدمته في المارينز الى منظّر: "التمييز بين اوروبا ليس مسألة حجم او جغرافيا او جيل، انه مسألة سلوك ورؤية تجلبها الدول معها الى ناتو". انها مسألة سلوك اذاً. والمعيار هو السلوك تجاه سياسات الولايات المتحدة الخارجية. لكن الامور لا تقال بهذه الصراحة، فالمقصود حسب بوش ورامسفيلد ان الدول والشعوب التي اجتازت لتوها تجربة الديكتاتورية تبدي حساسية اكبر تجاه معاناة الشعوب الاخرى (ريتشارد بيرنشتاين "نيويورك تايمز"، 12 حزيران/ يونيو 2003)! انه يتهم سياسات انتهازية تحاول ان تتخلص من تقاليد "التضامن" القسري مع شعوب العالم الثالث بالحساسية تجاه معاناة البشر، والدول المقصودة بريئة بالطبع من تهمة الحساسية الانسانية هذه.

 

وفي أي حال، أثارت تصريحات رامسفيلد الشهيرة في حينه ضجة كبرى في اوروبا المستفزة كما يقع عادة للسياسيين الاجلاف المتوسطين من "نمرته ونمرة" برلوسكوني، رجل الاعمال الفهلوي السياسي الدجال الذي يذكر بقيادات عربية كثيرة، والشاعر اخيراً، المهتم بلون البشرة البني في الصيف، المحتال باختصار، الذين يحاولون التحدث والظهور بعفوية ومباشرة سريعي الخاطر فينتهون الى التصرف كالحمقى البلهاء. وخلافاً لتصريحات برلوسكوني التي لا تفتح نافذة لتداعيات مثلما لا تصلح الشتائم العادية المتوسطة كبداية نقاش لان التفكير فيها ينتهي برفع حاجب او بإظهار الاشمئزاز من مستوى صاحبها، قد تحمل تصريحات رامسفيلد معاني لم تخطر ببال قائلها وتفتح نافذة لبعض التداعيات الفكرية.

 

وللمناسبة حظي برلوسكوني قبل يومين بقرار غير مسبوق من الكنيست الاسرائيلية، اقترحه رئيس الائتلاف الحكومي، بالتضامن مع رئيس الوزراء الايطالي ضد الانتقادات الاوروبية التي تعرض لها بسبب مواقفه البهلوانية!

 

لقد انعكست الدنيا واصبح بالامكان الحديث عن ولايات متحدة قديمة واوروبا جديدة. سياسة الولايات المتحدة الخارجية التي تطالب اوروبا بالتجند غير المشروط لصالحها هي سياسة قديمة، الجديد فيها هو امكان تنفيذها وتحويلها الى سياسة وحدانية تتوقع من النظام الدولي كله تأييدها. وهي تتوقع ذلك لأنها قادرة على ان تنفذ ذاتها بذاتها اذا امتنع النظام الدولي عن تأييدها. ومهما اوغل الباحث في تصريحات من يسمون بالمحافظين الجدد فلن يجد جديداً لم يقله كيسنجر او بول نتسه في الماضي. كما سيكتشف ان زمرة اساسية من رهط المحافظين الجدد تم توريثها للادارة الحالية من ادارة ريغان، وان علاقاتها مع المنطقة تعود الى المساهمة في اكاذيب تلك الادارة لتغطية فضيحة "ايران-كونترا غيت". وعناصر هذه السياسة التي يتم الترويج لها: احتكار الحقيقة ايديولوجيا في السياسة الخارجية التي تقسم العالم بين معسكر خير ومعسكر شر، اعتماد القوة من دون تردد في السياسة، التصرف كامبراطورية في مناطق النفوذ المتاحة، عدم تقديس التوازنات او الالتزام تجاه حالة "الوضع القائم"status quo كمبرر للتقاعس عن تغييره، الامتناع عن التقيد بالشكليات القانونية اذا تطلبت المصلحة ذلك. كلها عناصر في السياسة الاميركية يسهل تعقب جذورها الى حقبة ترومان وادارة ما بعد الحرب. هذه اذاً اميركا القديمة في سياستها الخارجية. الجديد الاساسي هو في مركزة السياسة وتوسع دولة البوليس داخلياً في الولايات المتحدة، وهي امور لا متسع لتناولها هنا. الجديد هو في انهيار القطب الثاني عالمياً وحدوث الطفرة التكنولوجية والاقتصادية في اميركا التي جعلت في الامكان تحويل هذه السياسة الى سياسة وحدانية غالباً ما تنفذ من جانب واحد في السياسة العالمية بعدما تحول العالم بأسره الى منطقة نفوذ. لم يكن خروج الولايات المتحدة الى الحرب من دون موافقة الامم المتحدة جديداً، بل كان الجديد في سعيها الى الحصول على مصادقة دولية، وفي الظهور بمظهر الشرطي منفذ القانون الدولي ضد اجتياح العراق للكويت في حرب الخليج الثانية وضد صربيا. اما الحرب الاخيرة فهي نسخة تكنولوجية جديدة عن حروب قديمة قاربت خمسين عدواناً وتدخلاً عسكرياً اميركياً في دول اخرى منذ الحرب العالمية الثانية، تمت جميعاً (ما عدا حالة تمثيلية كوريا في الامم المتحدة) من دون موافقة دولية في ظروف تفوق تكنولوجي اميركي اقل وضوحاً وفي فترة اخذت فيها بالحسبان قدرة الطرف الآخر على الصمود لفترات طويلة والاضطرار الى دفع ثمن لم تدفعه في حرب الخليج الاخيرة الخاطفة.

 

ولكن هل الجديد في اوروبا ان هنالك من يقبل ذلك بشكل غير مشروط؟ لا. لا جديد حتى في هذا. الجديد هو في انتشار هذه المعارضة الاوروبية الشعبية غير المسبوقة منذ الحرب الثانية للسياسة الاميركية، وفي محاولة دولة مثل المانيا ان تبلور سياسة خارجية مستقلة نسبياً تأخذ في الاعتبار التنافس الحزبي الداخلي والرأي العام الداخلي ضد الحرب. ولا جديد حيث اعتقد رامسفيلد بعفوية انه وجد اوروبا الجديدة، اي في سياسة بولندا وهنغاريا وتشيخيا وغيرها من الدول العشر الجديدة في حلف "ناتو". اذ لم يكن لديها سياسة خارجية في الماضي، وليست لديها سياسة خارجية حالياً، وبالتأكيد ليس في اجندتها الخارجية ذكر لحقوق الانسان. لقد خضعت هذه في الماضي لسياسات الاتحاد السوفياتي الخارجية، وتخضع حالياً لسياسات الولايات المتحدة الخارجية واعتباراتها. وغني عن القول ان تغييرات جذرية قد طرأت على الأنظمة الحاكمة في هذه الدول وعلى النمط الاقتصادي فيها. ولكن النخب السياسية الحاكمة لم تتغير كثيراً. فطبقة المديرين والبيروقراطية الحزبية الحاكمة التي اكتشفت فجأة كم كانت ديموقراطية في داخل النفوس استولت في الواقع على عملية الخصخصة وعلى ملكية ما تم خصخصته، واقتسمت الغنائم في حالات عديدة مع وجه النظام المنهار الآخر، السوق السوداء، ليلتقي "الابيض"، اقتصاد بيروقراطية الحزب والدولة السلطوية، مع "الاسود"، وجه النظام السابق الآخر المتمثل بالسوق السوداء، في مناطق النشاط الاقتصادي الرمادية الحالية التي تختلط فيها حيوية المافيا مع المبادرة الاقتصادية. لم تنشأ في هذه الدول اجندات سياسية خارجية مستقلة، ولكن تحرر بعض العقد القومية من اسر الخطاب الحزبي العقائدي يخلق انطباعاً وكأن هنالك نزعات قومية الطابع ومستقلة في السياسة الخارجية.

 

القومية البولندية الوثيقة الارتباط بالكنيسة الكاثوليكية تميزاً عن محيط سلافــــي ارثوذكســــي او الماني لوثري بقيت تعيش حالة المرارة وعقدة الاضطهاد في العلاقة مع روسيا والمانيا. وترافق المرارة نزعات استعمارية محبطة (ومن السخرية العبثية انها قد تكون وجدت لها متنفساً الا في فلسطين حيث تغذت الصهيونية من المدرسة القومية البولندية، وغالبية قياداتها التاريخية تتحدر من المنطقة الواقعة بين روسيــــا وبولندا و"ذهبت الى المدرسة القومية" في الاقاليم المتنازع عليها تاريخيـــاً".

 

ويسمح الانضمام الى طوابير الحرب الاميركية في ظروف معارضة روسية والمانية بخلط الولاء البراغماتي الانتهازي للسياسة الاميركية بالتعبير عن الذات. ولئلا تحسب المانيا ان بولندا باتت مجال هيمنتها وساحتها الخلفية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا بأس من تذكيرها بالعلاقة الاميركية البولندية على رغم دور الاقتصاد الالماني في مساعدة بولندا على اجراء الانتقال المطلوب من اقتصاد الدولة الى اقتصاد السوق وعلى رغم السوق الالمانية الواسعة للبضائع والايدي العاملة.

 

وتستعين الدول التي انضمت حديثا الى الاتحاد الاوروبي بالوصاية الاميركية كي تتجنب وصاية المحور الفرنسي - الالماني الذي اسس الاتحاد الاوروبي عملياً. ولا تساعد المانيا وفرنسا عنجهيتهما القومية القائمة فعلاً. ولم تساهم سياسة المانيا الخارجية في دول اوروبا الشرقية منذ انهيار المنظومة الاشتراكية خصوصاً في تشجيع القومية الكرواتية الانفصالية في ازالة الاشكاليات في العلاقة بين المانيا وبقية دول اوروبا الوسطى والشرقية.

 

ومن السهل ايجاد اكثر من سند في الذاكرة التاريخية حول العلاقة مع الجيران لتأسيس الديماغوجية الشعبوية للاعضاء العشرة الجدد في حلف الناتو لتبرير علاقة اكثر ودية مع الولايات المتحدة منها مع الجارات الاوروبيات. ومن اقدمها الدافع التاريخي المستتر لتبرير العلاقة الجديدة مع اسرائيل والانصياع لطلباتها بشكل كامل. فلم يلب الشرط الاسرائيلي ويقاطع زيارة ياسر عرفات من بين الوزراء الاوروبيين الذين زاروا البلاد الا الوزراء من بولندا وهنغاريا وغيرهما من هاتين الدولتين، ومنهم شيوعيون سابقون وقادة احزاب شيوعية حاكمة غيرت اسمها. هؤلاء انصاعوا لشروط اسرائيل. في حين لم ينصع لها حلفاء آخرون للولايات المتحدة في الحرب ضد العراق مثل وزراء من اسبانيا وبريطانيا اصروا على لقاء ياسر عرفات مثلاً على رغم انزعاج اسرائيل، وذلك ليس حباً بالرجل بل رفضاً لاملاءات اسرائيل. ويحتاج المرء الى عقل عديم السذاجة في السياسة ليلاحظ ان اسطورة السيطرة اليهودية على رأس المال العالمي وتحديداً على السياسة الاميركية ما زالت منتشرة في اوروبا الشرقية بما في ذلك في اوساط النخب الحاكمة، مع الفرق ان استثمارها يتم الان لصالح العلاقة مع اسرائيل. لقد تحولت المقولة نفسها من مقولة تحريضية واسعة الانتشار في شرق اوروبا ضد اليهود الى دافعٍ للتقرب من اسرائيل لنيل رضا يهود اميركا، اي ان العلاقة الودية مع اسرائيل هي المفتاح لقلب اميركا ومساعداتها واستثماراتها وتحالفها العسكري، تقزيماً وتقليصاً للحاجة الى المانيا وفرنسا والسوق الاوروبية برمتها.

 

هذا كله قديم اذاً، ولكن هذا القديم قد يستغل من جانب الولايات المتحدة القلقة من تزايد عدد قتلاها في العراق لاقناع بعض الدول بأن تشارك ايضاً في تقديم شبابها على مذبح السياسة الاميركية. وليقتل شباب آخرون غير اميركيين، ولو كان الثمن تقديم الولايات المتحدة بعض التنازل للامم المتحدة. الآن، بعدما بدا ان الولايات المتحدة حريصة على الا يشارك في قطف نتائج الحرب من لم يشارك في دعمها وفي فك العزلة الدولية عنها، باتت راغبة في ان تقطف النتائج رؤوس شباب غير اميركيين ايضاً.