تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حوار خاص مع د. عزمي بشارة

2020-03-29

حوار خاص أجراه موقع عرب 48 مع الدكتور عزمي بشارة 

تاريخ النشر: 29/03/2020

ليس سهلا إجراء حوار معمق وجدي في زمن وباء كورونا، خصوصًا وأن تفاصيل المشهد السياسي في البلاد كثيرة والأحداث متواترة، ولا بد أن يكون الحوار مباشرًا مسهبًا، لأنه هذه المرة مع شخص يهتم كثر بمعرفة رأيه وتحليله وموقفه من قضايا عدة تخصنا؛ من المشهد السياسي الإسرائيلي، من السياسة عند العرب في الداخل؛ القائمة المشتركة؛ التوصية على بيني غانتس؛ مستقبل الحركة الوطنية في الداخل، وصولا لقضايا اجتماعية مثل العنف والجريمة؛

ولكن اغتنمنا هذه الفرصة بأن خصنا الدكتور عزمي بشارة بهذا الحوار، بعد أن توجهنا له في السابق عدة مرات وكان يتروى بسبب انشغالاته الكثيرة، وإصراره على تجنب الخوض في التفاصيل على الرغم من اهتمامه غير المنقطع بمجتمعه وأهله كما يقول، ووفرت لنا التكنولوجيا إمكانية الحوار عن بعد لطرح أسئلة طويلة وتناولها من عدة جوانب.

الحوار طويل نسبيًا وشامل تقريبًا، وأجوبته بعيدة عن زخم التفاصيل الصغيرة والأحداث المتسارعة؛ فيه نظرة متأنية، لذا لن نطيل في التقديم؛

* بدايةً، طمئنا عن نفسك في هذه الأيام التي يواجه فيها العالم وباءً، فقد تابعنا سلسلة الخواطر التي تنشرها تباعًا عن أزمة كورونا الحالية ولأزمنة أخرى.

أنا بخير، وأحاول استغلال الوقت قدر الإمكان في القراءة والكتابة ومشاريعي البحثية عمومًا، وأجري بعض الاجتماعات عن بعد.

أود أن استغل الفرصة لأعزيكم في موقع "عرب 48" بوفاة الأخ هاشم حمدان، وأعزي عائلته الحبيبة مثلما أعزي نفسي. كان هاشم من أول الشباب الذي اجتذبتهم للعمل في الموقع وتعلم الصحافة من خلال العمل فيه، إذ كان شابًا واعيًا سياسيًا، وأعجبني في حينه تمكنه من اللغة العربية، وقبلها كان قد ساعدني كثيرًا في بناء شبكة توزيع صحيفة "فصل المقال" عند تأسيسها.

أصعب الأيام في المنفى، هي تلك التي تفقد فيها أصدقاء ورفاقا ومعارف، مع العجز عن أن تكون مع الناس الذين تشاركهم محبتهم. حصل هذا معي عند وفاة شقيقتي، وأصدقاء ورفاق لا أريد أن أذكرهم لكي لا أنكأ جروحًا الآن.

* ماذا عن أزمة كورونا الحالية؟ كتبت في منشور أنه من المبكر الحكم على الأمور ووجهة العالم بعد الأزمة؛ وقللت من احتمالات أن تصبح الدولة أكثر أخلاقية ولكن ربما المواطنين، النظام العالمي أي الدولي كما ذكرت، لن يتغير؟

أولا، أتمنى لكم جميعًا الحرص والسلامة وأن تنتبهوا لأنفسكم في هذه الظروف العجيبة، التي أحيانًا يخيل للمرء أنها ليست حقيقية.

تجربة كبرى خطيرة ومحنة تواجهها البشرية جمعاء. ولكنه ليس أول ولا آخر وباء، هذا مع أن الأوبئة في عصرنا أكثر ندرة وأقل فتكًا مما كانت، والمجتمع المعاصر أكثر جاهزية من السابق، وعيًا وتجهيزًا. ليس وباء قاتلا، فنسبة الوفيات قليلة نسبيًا، ولكنه يعوض عن ذلك بسرعة الانتشار وسهولته مثل الإنفلونزا، ما يجعله خطيرًا حتى لو نسبة الوفيات قليلة، إلا أن عدد المتوفين كبير. ولذلك، فالمهمة الرئيسية حاليًا هي وقف انتشاره.

عمومًا، في حالات الخطر الجماعي تتصارع دوافع داخلية مختلفة للهيمنة على الإنسان وسلوكه: فتتصارع مثلا غريزة البقاء، التي قد تقود إلى عدم مراعاة الآخرين مع القيم الأخلاقية ومشاعر التضامن، والخوف الذي قد يقمع القيم الإنسانية الخيرة، أو قد يبرزها حسب قوة شخصية الإنسان وعموده الفقري القيمي.

من المهم في هذه المرحلة، عدم تسييس الوباء والتجهيل والاعتماد على العلم والطب والسياسات الصحية العمومية الصحيحة في المواجهة بالحجر والعزل والفحوص، والاستثمار في الأجهزة والعلاجات واللقاح.

الدول لا تصبح أكثر أخلاقية، بل الناس والرأي العام إذا استنتجوا الاستنتاجات الصحيحة من المساواة الطبيعية أمام الفيروس، والتضامن مع الطبقات والمجتمعات والشعوب الأكثر تضررًا. والمهم أن يُستنتج شيئًا بخصوص الاستثمار في العلم والطب، ولا سيما في مجالات مثل علاج الفيروسات والاستعداد الدائم المستمر لاكتشاف اللقاحات، والتجهيز لمواجهة أمر كهذا.

وتثبت الأوبئة أكثر من الأمراض الأخرى، عدم جواز إخضاع صحة البشر لقوانين السوق والعرض والطلب. فهي لا تنتج جاهزية لظواهر عامة مثل الوباء. هنا يجب أن يكون القطاع الصحي العام جاهزًا، فهو الوحيد القادر على التصدي له. ولكن آمل أن يتجنب الناس الإعجاب بتصرف بعض الدول الشمولية في حالات الطوارئ، لأن حالة الطوارئ عندها هي الحالة العادية، إذ تعيش الناس أصلا في ظل الهيمنة الشاملة للدولة. والمصيبة الأكبر هي الدول الديكتاتورية التي تفرض على الناس قوانين الطوارئ طوال العام، وليست لديها إمكانيات إدارية للوقاية ولا علمية أو طبية في الوقت ذاته لمكافحة وباء، فتكتفي بنشر الجهل.

* لننتقل للحديث عن المشهد السياسي في الداخل تحديدًا، والإسرائيلي عمومًا؛ لكن قبل ذلك، كتب صحافي إسرائيلي معروف تغريدة في "تويتر" بعد توصية القائمة المشتركة بما فيها التجمع بتكليف بيني غانتس، بأن "عزمي بشارة سينتحر في الدوحة" بسبب توصية التجمع غير المسبوقة؛ ورد عليه نجل نتنياهو، يائير، بأنه على العكس تمامًا، سيكون عزمي بشارة "’مبسوطًا’ لأنه لم يتخيل أن يكون رئيس حكومة دولة اليهود دميةً بيده"، كما كتب. منشغلون بموقفك حتى دون معرفته...

يبدو أنني ما زلت شبحًا أو كابوسًا لبعض السياسيين والصحافيين الإسرائيليين السخفاء. وفوق ذلك، يدعي كل منهم أنه يعرف موقفي. يهذرون كعادتهم بما لا يعرفون. يبدو أن المهم هو ذكر الاسم فقط. كانت المواقف والتحليلات التي أطرحها في الفضاء العمومي، والتي تكنّى في أي بلد آخر ديمقراطية ليبرالية، تثير مخاوفهم إلى حد الهستيريا، وكانوا حين لا يتمكنون من مناقشتها يقومون بتشويهها، ويصدقون كذبهم من كثرة التكرار، ليطلقوا حملات التشهير والتحريض، هذا حين كنت في البلاد، فما بالك وأنا في الخارج. لقد نسيت أسماء غالبية هؤلاء الذين ما زلت أشكل هاجسًا دائمًا بالنسبة لهم. يوجد بالطبع جانب استخدامي في ذكر اسمي للتعبئة العنصرية. أنا لا أبالغ حين أقول نسيت الأسماء، لأني فعلا غارق في قضايا أعتبرها أهم من آراء عابرة ونافلة لصحافيين ونواب إسرائيليين لاقتناص عنوان هنا، أو على الأقل "لايك" هناك.

على فكرة، لم أتفاجأ من التوصية، ولم أغضب ولم أعبر عن موقف، فضلًا عن أن أخوِّن أحدًا ممن أوصوا. هذا اجتهاد سياسي في ظرف دقيق وحساس بالنسبة لقوى وطنية، ومن يجتهد قد يصيب وقد يخطئ. وهو تعبير عن نهج كامل في التفكير عند البعض الآخر، ولم أتفق مع هذا النهج ولا مع الإستراتيجيات المبنية عليه، ولا أتفق معه حاليًا. ولو اتفقنا معه، لما أقمنا في حينه تنظيمًا حزبيًا للحركة الوطنية هو التجمع. والتوصية بالنسبة للبعض الآخر، هي مجرد استمرار لسلوك الاندماج الشخصي في المؤسسة الإسرائيلية، للتمكن من مراكمة رأس مال من العلاقات ترفع من شأنه في المجتمع العربي - فالعلاقات مع المؤسسة الإسرائيلية تشكل بالنسبة للبعض رأسمالٍ سياسيٍّ - وخليط من الأمرين عند البعض الآخر... وهكذا. ثمة أسباب كثيرة، ليس أي منها مفاجئًا.

* تواصلنا معك مرارًا في السنوات الأخيرة لإجراء حوار عن قضايا الداخل وإسرائيل، وكنت تفضل التروي، كما ذكرت في مقدمة الحوار. من هذه المسافة التي تُمكن المتابع من تجاهل التفاصيل ورؤية المهم والأهم في العمليات الجارية، كيف ترى المشهد السياسي في الداخل؛ الأمور تبدلت كثيرًا في السنوات الأخيرة، مثل الانزياح العربي نحو المركز - الوسط الإسرائيلي بحجة الرغبة بالتأثير.

أعتذر عن التأجيل المستمر. أحاول تجنب النقاشات المتعلقة بعمل الأحزاب والقوى السياسية العربية في الداخل. كما أنني منهمك تمامًا في البحث والتأليف. أهتم كثيرًا بمجتمعي العربي وأهلي في الداخل كما تعرفون، وبقضية فلسطين عمومًا، ولكني بعيد كل البعد عن الأحزاب والعمل السياسي الحزبي بسبب طبيعة عملي وانشغالاتي. وأنا أعتبر هذا الحوار سداد دين لكم.

لست أرى تغيرًا جوهريًا. ثمة صيرورتان متداخلتان - وأشدد على أنهما متداخلتان متفاعلتان، وليستا متوازيتين- تعرض لهما المجتمع العربي في الداخل وما زال يتعرض لهما: عملية الأسرلة المدنية والاقتصادية، وجزئيًا حتى الثقافية، وهي عملية بنيوية ناجمة عن أن العرب يعيشون حياتهم ضمن المواطنة الإسرائيلية ويجرون معاملاتهم الرئيسية في إطارها، ويطالبون بالحقوق على أساسها. فمن المنطقي التشديد عليها. ومن ناحية أخرى عملية فلسطنة وإدراك واع للهوية العربية الفلسطينية. فهم عرب فلسطينيون. لغتهم وثقافتهم عربية، وهم أبناء وأحفاد الفلسطينيين سكان هذه البلاد الأصليين الذين كانوا يومًا يشكلون أكثرية، وأصبحوا أقلية بعد النكبة، وقضيتهم من تشعبات القضية الفلسطينية. وقد تطورت ثقافتهم العربية الفلسطينية مع الوعي بالتاريخ وواقع التمييز العنصري داخل الدولة اليهودية، الذي يصل حد العداء في جوانب حياتية مثل الأرض والمسكن، ومع التواصل مع بقية العرب والفلسطينيين، ولا سيما بعد العام 1967.

وكلما انتشر التعليم سوف يزداد هذان البعدان احتدامًا، وسوف يبحث المواطن العربي عن تسويات في داخله بين الصيرورتين. وتتخذ هذه التسويات أشكالا مختلفة. وعلى الحركة الوطنية أن تهتم بألا تكون التسوية على حساب التطلع لمواطنة كاملة متناقضة مع الصهيونية، ولا على حساب الانتماء الكامل للشعب العربي الفلسطيني.

ما تشير إليه حاليًا شهدنا ما يشبهه بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، وبدء تطبيع العلاقات بين منظمة التحرير وإسرائيل، حين انتسب عشرات الآلاف علنًا إلى حزب العمل وتفاخروا بالمشاركة في الانتخابات التمهيدية له، وتحوّل رابين رئيس أركان حرب 1967 ومن صقور حزب العمل إلى "رمز للسلام" بالنسبة لبعض العرب، ونشأت فكرة إسناد حكومة رابين بكتلة مانعة بعد أن انسحبت حركة "شاس" من الائتلاف، وذلك في سياق وقف الاستيطان في جبل أبو غنيم. فماذا جرى؟ هل زار أحدكم جبل أبو غنيم مؤخرًا؟ لم يبق فيه متر مربع من دون استيطان، ورابين قُتل، والمجتمع الإسرائيلي ازداد انزلاقًا إلى ما اعتبرته (في كتابي "من يهودية الدولة حتى شارون") مستقبل إسرائيل، وهو الخطاب الصهيوني القومي المتطرف والخطاب الصهيوني - الديني.

الكتلة المانعة وغيرها هي مساومات مؤقتة، وهي لا تغير من طابع الدولة وبنيتها. من يعتقد أنه بوسع العرب في الداخل (بكتلة مانعة أو غيرها) أن يحددوا سياسة إسرائيل، وذلك بأن تعتمد حكومة في الحاضر أو المستقبل على أصواتهم لتشكيل ائتلاف له أغلبية، فهو مصاب بوهم خطير قائم على تجاهل مدى مركزية الأيديولوجية الصهيونية، وسيادة الخطاب القومي اليهودي، ليس فقط في بنية الدولة، بل أيضا في الـ"إيثوس" السياسي السائد في الفضاء العمومي.

ليس الأمر جديدًا إذًا. الجديد هو إنجاز القائمة المشتركة الذي لطالما سعينا إليه حين كنت بينكم، وقدمناه عدة مرات اقتراحًا في إطار نهج فكري سياسي في ما يتعلق بتنظيم العرب في الداخل، وذلك قبل رفع نسبة الحسم، وعارضت بعض الأحزاب في حينه الفكرة مبدئيًا، واستمر تنافس حزبي يرافقه تشهير وتجريح لا تضبطه لا قيم ولا أعراف. ولكن نسبة الحسم أجبرت الجميع على العودة إلى فكرة القائمة المشتركة. ومن الواضح من المقارنة بين نسب التصويت في جولتي الانتخابات الأخيرتين أن المواطنين العرب متمسكون بالوحدة التي تحققت. وأنا سعيد بذلك، وآمل أن تتطور علاقات الائتلاف بين الأحزاب إلى تحالف وثقة تتجاوز حساسيات الماضي، وتتيح النقاش والاختلاف من دون عداوات.

* ماذا بالنسبة للرغبة بالتأثير؟

الرغبة في التأثير ليست مشروعة فحسب، بل هي مبرر الوجود في البرلمان. صحيح أن الوحدة فُرضت على الأحزاب، سواء بسبب نسبة الحسم أو عزوف المواطنين عن المشاركة من دون وحدة، ولكن عليهم الآن التعامل مع الوحدة التي تحققت كخيار وإستراتيجية، ويجب شرح هذه الإستراتيجية، وما يمكن تحقيقه لكي لا تُنسج أوهامًا، أو تُبنى القصور على رمال. ومن الواضح أن خيار تشكيل لسان ميزان بين اليمين ويمين الوسط، أو بين اليمين المتحالف مع القوى الدينية واليمين العلماني - ولا أقول الليبرالي لأن فيه أقلية هامشية ليبرالية، وأخرى يسارية - قد سقط للمرة الثانية على التوالي، بعدما توجه غانتس إلى التحالف مع نتنياهو.

هذا النوع من التأثير مستحيل، ولكنه ليس الوسيلة الوحيدة. فوزن العرب السياسي والاقتصادي - بما في ذلك في المهن والتخصصات العلمية - والانتخابي في ازدياد، وكذلك قدرتهم على التأثير. وقد تغيّرت أوضاع العرب الاقتصادية والحقوقية للأفضل على نحو كبير منذ مرحلة الحكم العسكري، وقد حققنا إنجازات كبيرة في التسعينيات بالنضال والعمل البرلماني وغيره من دون كتل مانعة أو ائتلافات. والمساومات على دعم قانون "لنا" مقابل دعم قانون "لهم" كانت ممكنة في القضايا المدنية، وأصبحت حاليًا ممكنة أكثر بزيادة التمثيل، ويمكن إتقان العمل البرلماني مع الارتفاع الجاري في عدد النواب ومستواهم العلمي، دون تجاوز الخطوط الحمر التي يمكن التوافق عليها في القائمة المشتركة، والتي يقود تخطيها إلى التصهين. وإذا لم يتم التوافق عليها، فأصلا لكل حزب الحق في اتخاذ موقف مستقل في قضايا يعتبرها مبدئية، من دون التفريط بالوحدة. فهذا معنى مصطلح "قائمة مشتركة".

* جاء موقف التجمع من التوصية مركبًا؛ ضد التوصية مبدئيًا ولكنه يلتزم بقرار أغلبية مركبات المشتركة من التوصية، ومعروف مسبقًا أن المركبات الأخرى تؤيد التوصية. هذا مستجد على التجمع، موقف غير مسبوق... ماذا تغير؟

هنا مشكلة هذا الموقف، ما تسميه التركيب هو نقطة ضعفه الأساسية. كان عليه أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسباً، مع التوصية أو ضدها، ويدافع عنه حتى النهاية وليس الاختباء خلف ما سمي "الأغلبية في المشتركة". هذه سابقة لمرات قادمة. كيف سيخالف حزب رأي أحزاب أخرى ويبقى في المشتركة من دون ما سمي خطأً الالتزام برأي الأغلبية؟ ولذلك، يُفضل أن تُلخَّص هذه الصياغة كخطأ على وجه السرعة. فالمشتركة ليست حزبًا سياسيًا تلزِم فيه الأكثرية الأقلية، وكل حزب يتخذ موقفه من دون الإضرار بها.

لا يصح أن يكون موقفك بوصفك حزبًا سياسيًا هو عدم التوصية، ثم تذهب إلى رئيس الدولة وتوصي بوصفك من المشتركة، فأنت ما زلت الحزب السياسي نفسه. يمكنك أن تذهب مع وفد المشتركة وتقول إنك لا توصي وتبقى في المشتركة، أو العكس، أي أن توصي بالصفتين. يفترض أن يتخذ الحزب موقفه ويدافع عنه، بغض النظر، أكان الموقف مع التوصية أم ضدها. لا يوجد موقف من دون ثمن، ولا يمكن لأي حزب أن يرضي جميع الناس. والضغوط تُأخَذ بعين الاعتبار بالطبع، فالحزب لا يعيش وحده. ولكن الأهم هو الموقف، فإذا كان صحيحًا سوف تثبت الأيام صحته.

فمثلا، قد تفقد الحركة الوطنية بعض المصوتين، وربما حتى بعض المؤيدين، عند التصريح بموقف ديمقراطي على المستوى العربي أو موقف اجتماعي ضد الطائفية وغيرها، ولكنها تكسب غيرهم، وتحافظ على هويتها السياسية. وهذا هو الرهان الرابح على المدى البعيد - وبين الشباب على المدى القريب أيضًا - والأخطر هو عدم اتخاذ موقف إطلاقًا.

إن غالبية إنجازات الحركة الوطنية وتوسعها السريع وانتشار خطابها، بما أقلق المؤسسة الصهيونية الحاكمة، نجم عن النجاح في موازنة مكوني المواطنة والهوية الوطنية في التعامل مع واقع العرب في الداخل، وفي خطاب الحركة الوطنية السياسي، أي بالقول والفعل. بمعنى التمسك بالموقف الوطني وتثقيف الجمهور عليه، وإتقان النضال، وليس النضال فقط بل العمل المهني أيضًا، من أجل الحقوق المدنية أيضًا. كل هذا يجب أن يتوافق مع حداثة في أساليب العمل واستغلال وسائل التواصل ووسائل الإعلام. إذ يجب أن يواكب العمل السياسي الحزبي التطورات في مجالات الإدارة والقيادة والاتصالات.

وفي المقابل، نجمت غالبية أخطائنا السياسية عن الإخفاق أحيانًا في الموازنة بين مركبي المواطنة والهوية الوطنية، وذلك إما بالانزلاق إلى شعبوية الخدمات وحدها والتخلي عن الموقف السياسي الوطني، الذي خلافًا لما يشاع يدعمه الناس ولا يشكل عبئًا عليهم، أو بالانزلاق إلى شعبوية المزايدات الوطنية، ولا سيما عند من يريد أن يثبت وطنية مفرطة للعالم العربي أو لجزء من القواعد الحزبية أو غيره. والحقيقة، أننا لسنا بحاجة أن نثبت ذلك لأحد، ولسنا مدينين لأحد بموقف غير ناجم عن قناعة، لا في الداخل ولا في الخارج، فالحركة الوطنية بخطابها وثوابتها وما تثقف الشباب عليه، هي الضمان للحفاظ على الهوية الوطنية والقضية الوطنية في الداخل. هذا هو دورها هي الذي لن يقوم به أحد من الخارج بدلا عنها.

* هناك من يدعي في التجمع، بأن قراره سيساعده على استعادة مكانته السياسية والشعبية بين الناس، أو كما قال أحدهم "التصالح مع الناس"؛ هل تخاصم التجمع مع الناس لكي يتصالح معهم؟ أم أن أداء الحزب في العقد الأخير كان أقل من المتوقع وسبب تراجعًا في مكانته وشعبيته؟

في رأيي ترتبط مكانة أي حزب سياسي صاحب فكر وبرنامج وإستراتيجية كفاحية، بما يلي: نواة صلبة متمسكة بفكره وقادرة على تجديده وتطويره، لكي لا يصبح "دوغما"، أو عقيدة جامدة أو مجرد شعارات لفظية منفصلة عن الواقع والممارسة؛ ومن حولها قاعدة تنظيمية قوية مدارة بأساليب تنظيم حديثة وقادرة على العمل على توسيع قاعدة الحزب الاجتماعية، وقادرة على تثقيف أوسع جمهور ممكن بهذا الفكر؛ وبرنامج سياسي يتضمن خدمة مصالح الشعب كله، وإستراتيجية مثابرة في تنفيذه. هذه هي عوامل القوة، المثابرة ووضوح الهدف مهمة للغاية، لكي لا تربك الناس أو تتهم بالانتهازية، لا سمح الله.

ولا تنسى أهمية العامل الشخصي، فالحزبية بحد ذاتها لا تهم المجتمع الواسع، بل قد يكون لدى كثيرين نفور منها. ولذلك، من الأهمية بمكان أن يقدم الحزب نماذج شخصية جذابة من الأعضاء الفاعلين على مستوى القواعد، وذلك في القدرات والمهارات والمناقبية الأخلاقية... وحتى العناصر القيادية التي تمثل الحركة وتظهر في الإعلام، وتمتلك مهارة التواصل والقدرة على التعبير والمبدئية والصلابة، والتواضع والليونة في التعامل مع الناس في ظروف العمل السياسي الديمقراطي. إن إهمال العامل الشخصي والاعتماد فقط على اسم الحزب وشارته الانتخابية لا يلبث أن يستهلكها ويؤدي إلى تآكلها. وأسوأ ما قد يحصل على هذا المستوى، هو اختيار القيادات على مختلف المستويات بناءً على تنافس محاور، وليس بناءً على القدرات والمؤهلات.

* قد تنعكس التوصية على هوية التجمع السياسية والحزبية وعلى طريقه؛ هو حزب الحركة الوطنية السياسي؛ لكنه اتخذ خطوةً غير مسبوقة بهدف إسقاط نتنياهو، وكان من المعروف مسبقًا أن غانتس في طريقه لحكومة وحدة مع نتنياهو والليكود؟

لا تكفي خطوة سياسية واحدة لتغيير الهوية السياسية لحزب. يجب شرح ما جرى للجمهور، والتأكيد على ما تعرض له من ضغوط، وأن التحليل الأساسي كان صائبًا. تضعف الحركة أحيانًا في مواجهة ضغوط من المجتمع نفسه، فهذه هي الضغوط الأصعب، ويفضل الصمود في وجهها حين تتخذ أشكالا شعبوية. ولكن لا يجوز أن تضعف وتنحني لضغوط خارجية.

المسألة ليست أن هذا مجرم حرب وذاك مجرم حرب. فهذا ليس تحليلا سياسيًا. وإذا أردت الاختيار بين مجرمي الحرب وغيرهم في الكنيست فسوف تحتار كثيرًا. المسألة سياسية. هل تبني إستراتيجيتك على وهم، هو أن تقوم في إسرائيل حكومة لا تعتمد على أغلبية يهودية وتحظى بشرعية؟ هل تبني إستراتيجيتك على أسرلة في دولة يهودية، لا تعترف هي أصلا بالإسرائيلية بوصفها هوية مواطنية، وتصر على أغلبية يهودية لأي ائتلاف مشروع؟ هذه إستراتيجية تحدث تآكلا في الموقف الوطني، وفي الوقت ذاته لا تحقق المطالب أو تحقق أهدافًا لصالح الجمهور. يفضل تجنب هذه الدوامة.

سوف يحتاجون إليك في العمل البرلماني، عاجلا أم آجلا، ويمكن التفاوض مع وزراء على هذا المطلب أو ذاك المتعلق بعرب الداخل، بغض النظر أكانوا مجرمي حرب أم لا. فتحقيق مطالب عينية للمواطنين العرب هو من أهم أسباب وجودك في البرلمان، إضافة إلى تمثيلهم سياسيًا. والتعبير عن الموقف من قضية فلسطين وغيرها من القضايا المبدئية الوطنية، يكون على المنبر وفي النضال الجماهيري، أما الاعتقاد بأنك سوف تغير الموقف الإسرائيلي الحكومي من قضية فلسطين وحتى من الاستيطان وحده، من دون أكثرية يهودية فوهم.

* يواجه التجمع ادعاءً، وقد تستغرب، أيضًا ممن يقاطعون الانتخابات، بأنه إذا قبل على نفسه الدخول في اللعبة البرلمانية، فعليه "اللعب حتى النهاية"؛ ما رأيك؟

أحترم هذا الرأي، ولكن أذكّر أصحابه أن اللعب حتى النهاية يعني الانضمام إلى الائتلافات الحكومية، ولا أحد يريد ذلك. الجميع يرفض ذلك. ربما يريد البعض أن يصل إليه، ويحاول تثقيف الجمهور بأساليب مضمرة في هذا الاتجاه لإيجاد رأي عام مؤيد له، ولكنه يخجل أن يقول ذلك حاليًا.

توجد حدود إذًا. لا يوجد شيء اسمه اللعب حتى النهاية. دعكم من التطرفات ووضع خيارات مثل: إما المقاطعة، وهي كما قلت خيار فردي، ولا تصلح سياسة عامة، وإما اللعب حتى النهاية، أي سياسة بلا مبادئ.

يجب وضع حدود ومحاذير، والسؤال ما هي هذه الحدود. تذكر أن إسرائيل نفسها تضع حدودًا لكل من يرفض أن يتصهين ويشوه هويته وأخلاقه. وثمة حدود على أي حركة وطنية تخوض الانتخابات أن تضعها، لأنه ثمة مسؤولية وطنية متعلقة بالجمهور وتثقيفه، والنموذج الذي تقدمه له في البرلمان. هنا يجب أن تقود الحركة الوطنية الشعب، لا أنا تُقاد هي من طرف الشعبوية.

قد تتساءل الناس ببساطة، لماذا لا ننضم إلى الائتلافات الحكومية؟ يجب أن تشرح لهم بجرأة وبلا مواربة لماذا لا. ويجب أن تشرح لهم لماذا لا تريد أن تنضم للجنة الخارجية والأمن، ولماذا يجب أن ترفض تمثيل إسرائيل في الخارج. إن أي اندماج في السياسة الإسرائيلية على هذا المستوى يقود إلى التصهين، ولا يحقق مكاسب في دولة تعرف نفسها وظيفيًا وبنيويًا على أنها يهودية ودولة اليهود. وهي إضافة إلى ذلك دولة احتلال، وفصل عنصري. أنت عربي فلسطيني ابن السكان الأصليين الذين سلب وطنهم، كيف تمثل دولة الاحتلال والسلب والتمييز العنصري في الخارج؟ يجب أن يدرك الإنسان متى يستخدم الوجود في المؤسسات التمثيلية لتمثيل شعبه، ومتى تصبح المؤسسة الإسرائيلية تستخدمه.

يواجه أبناء الشعب الفلسطيني المواطنين في إسرائيل تحديات كبرى متعلقة بمصيرهم، ترتبط على المستوى السياسي بتصاعد العنصرية في إسرائيل، ومحاولات تهميشهم الثقافي في دولة قامت على أرض وطنهم، وتفكك قضية فلسطين إلى مجموعة قضايا. ولكن لهذه التحديات تبعات بالغة الأثر على المجتمع والثقافة ونمط حياة الناس.

لقد أصبحت مواطنة العرب في الداخل واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا قائمًا لا يقتصر على منشئه التاريخي في احتلال فلسطين واستيطانها، إذ أصبحت هذه المواطنة عنصرًا رئيسًا في إنتاج واقع جديد من التمييز من جهة، والحقوق المدنية والاجتماعية (الإسرائيلية) التي يمارسونها في حياتهم اليومية، ويتميزون فيها عن بقية أبناء الشعب الفلسطيني، من جهة أخرى.

نشأ هذا التميّز قبل تمايزات أخرى بين القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات. وأطاحت اتفاقيات أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير بمنظمة التحرير ذاتها، التي كانت تشكل مظلة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده (مع أنها شملت عرب الداخل معنويًا فقط، وذلك بالنسبة لبعض القوى الوطنية، ولم تشملهم عمليًا وتنظيميًا في يوم من الأيام). وثبت أن اتفاقيات أوسلو، بما في ذلك إنهاء دور منظمة التحرير، عادت وبالا على القضية الوطنية. وفي الظروف الجديدة نشأ واقع أبرتهايد إسرائيلي يعاني في ظله الفلسطينيون من درجات متفاوتة من التمييز والتهميش.

لم ينتج هذا الواقع نقيضه التنظيمي السياسي بعد، وسوف يحتاج إنتاجه إلى وقت طويل، وذلك بعد أن نشأت سلطتان فلسطينيتان تعيقان ذلك. ولكن برنامج التجمع الوطني الديمقراطي، هو الأقرب إلى أن يشكل مشروعًا لنقيض ممكن في المستقبل لنظام الأبرتهايد الإسرائيلي.

توصلنا إلى هذه الحقيقة قبل مدة طويلة، وكان هذا الاستنتاج أساس إقامة التجمع وخوض الانتخابات البرلمانية. إنه اعتماد الحركة الوطنية على نفسها بالجمع بين الحقوق المدنية والسياسية لعرب الداخل، من منطلق المواطنة والأصالة في هذه البلاد من جهة، والهوية الوطنية الفلسطينية والقومية العربية من جهة أخرى. ولم نفصل يومًا بين مطلب المواطنة المتساوية والهوية الوطنية. لقد كان مصدر خشيتنا الرئيس هو رضا العرب بمواطنة منقوصة وعروبة منقوصة، لا تلبث هي ذاتها أن تتحول في واقع الناس الاجتماعي وممارساتهم السياسية اليومية، إلى جهوية وحمائلية وطائفية.

يفترض أن تعتبر الحركة الوطنية وجودها في البرلمان واجبًا مدنيًا ووطنيًا، وليس امتيازًا، ولا مهنة، ولا وجاهة. وهي ترى خطر الأسرلة الكامن فيه، ولذلك تضع لنوابها بعض المحاذير. هذا أساس الثقة مع القاعدة الاجتماعية للحركة الوطنية . ليس تمثيل الحركة الوطنية وجاهةً وامتيازًا ورتبة وظيفية عالية. ثمة ربما من يعتبرها كذلك، ويغلف مقاربته هذه بمزايدات وشعارات وبلهوانيات برلمانية لا تكلف شيئًا، لأن الكنيست تتيح التهريج، ولا بطولة في الأمر.

من ناحية أخرى، ليست مقاطعة البرلمان خيارًا سياسيًا في ظروف عرب الداخل، بل خيارًا فرديًا. فالخيار الحقيقي هو بين المشاركة واللامبالاة. ومن يدعو إلى المقاطعة بحجة أن الانتخابات تسهم في تصوير إسرائيل ديمقراطية، يمارس حقوقًا إسرائيلية يوميًا، ويتمسك بها، ومن ضمنها حقه بالدعوة إلى المقاطعة لأسباب وطنية. ومن يزايد من العرب في الخارج على عرب الداخل في مسألة البرلمان، يزايد على عرب الداخل حتى لحملهم الجنسية الإسرائيلية - وهذا يشمل المقاطعين، فلا توجد نهاية للمزايدات -. وعلى الحركة الوطنية التصرف بمسؤولية في ظروف المواطنين العرب. إن مشكلة العرب في الداخل ليست المقاطعة، بل العزوف عن السياسة واللامبالاة في الانتخابات قبولا بالتهميش إلى نصف مواطنة ونصف عروبة.

إذا كانت المواطنة واقعًا حقوقيًا واجتماعيًا، ووسيلة في الصراع مع الصهيونية (يهودية الدولة)، فلا بد من إتقان الصراع المدني، من دون مزايدات. والبرلمان من أهم منابر هذا الصراع من أجل حقوق المواطنين العرب. وهو أهم من غيره من المنابر، لأنه أيضا منصة محلية وعالمية لطرح الموقف السياسي الوطني، الذي يزداد أهمية في أجواء التطبيع وما يسمى "صفقة القرن".

* كيف بمقدور التجمع الخروج من حالته الراهنة؟

عليه أن يجد طريقه بنفسه. لديه الأدوات والبوصلة. لا يمكنني تقديم نصائح عينية، فأنا أعيش واقعًا مختلفًا تمامًا، وأعمل في شؤون بعيدة عن أي عمل حزبي.

بعد خروجي القسري إلى المنفى واصلت التنسيق مع المكتب السياسي واللجنة المركزية وواظبنا على ذلك بعض الوقت، ثم تخليت عن الأمر. استنتجت أنه جهد يستنزف الوقت والأعصاب ويؤجل فقط ما هو حتمي، أي تولي الحزب قيادة نفسه. والفائدة محدودة حين لا تتمكن من متابعة تنفيذ ما توصي به في غياب تقاليد قيادة من المنفى عند عرب الداخل، الذين لا يحتاجون إلى ممارسة عمل سري فعملهم السياسي علني. وقبل سنوات، أعلنت أني تركت العمل الحزبي، لقد قمت بواجبي فيه وأكثر، ومنذ ذلك الحين أحافظ على الصمت في الأمور الحزبية ولا أتدخل. ولن تعيدني إليه بسؤالك. وقد أجبت في السؤال السابق على أسئلة مبدئية لا تتعلق بوضع الحزب الداخلي أو أي حزب آخر.

* رغم ذلك، يريد كثيرون أن يسمعوا منك كلامًا مبدئيًا، ولو كمثقف صاحب تجربة، ومن منطلق المسؤولية عما أسهمت إسهامًا رئيسيًا في بنائه...

حسنًا، سوف أقول كلامًا لا علاقة له بنقاشات عينية أو قضايا عينية أو محاور أو أشخاص بعينهم:

من الناحية السياسية المبدئية، يفترض تشخيص الوضع السياسي الإسرائيلي والعربي والفلسطيني في الظرف الراهن، وبناء الإستراتيجية بناءً على مثل هذا التشخيص ومن خلال حوار ومناقشات مطولة، بوصلتها الموقف الوطني والديمقراطي. ولا يجوز أن تقوم الإستراتيجية على مجموعة شعارات.

وفي رأيي، جوهر النضال ضد الصهيونية (العلمانية والدينية) هو وطني وديمقراطي، ولا يجوز التنازل عن أي شق في هذه المعادلة. ويجب أن يندرج النضال ويصاغ بلغة ديمقراطية. ولا يمكنك أن تتبنى لغة دولة المواطنين هنا، والدفاع عن الطغيان والاستبداد هناك.

دولة المواطنين برنامج إستراتيجي وطني وديمقراطي، ولا يمكن أن يحافظ أي حزب، أو حتى فرد، على مصداقية عند طرحه إذا كان ينكر المواطنة المتساوية والديمقراطية على شعوب عربية أخرى، ولا سيما أنه عربي يتحدث كثيرًا عن الانتماء للعروبة، في وضع يتاح له فيه حرية التعبير بقدر يحسده عليه عرب كثر. وما من سبب يمنعه من طرح موقفه بوضوح، إلا إذا كان غير ديمقراطي قناعةً، وفي هذه الحالة يصبح طرح دولة المواطنين بالنسبة له مجرد تكتيك، فيفقد مصداقيته ليس في أوساط الإسرائيليين، بل عند شعبه أولا. إن الموقف الديمقراطي هو أضعف الإيمان في حالة من يعتبر نضاله ومطالبه ديمقراطية. ومن دونه يفقد المصداقية.

لقد لوحظ تراجع في وضوح الهوية السياسية للحركة الوطنية في العمل السياسي، في القرى والمدن العربية، نتيجة لانشغالها في خلافات داخلية وعدم العمل بمنهجها. ولاحت ملامح خسارة هويتها السياسية. وهي الخسارة الأفدح، ولا سيما حين تتفاعل مع أزمة ناجمة عن الصراع على مواقع النفوذ في حزب صغير. فالصراع من هذا النوع يزداد شراسة كلما قلت الموارد التي يتصارع عليها، ويوجه غالبية طاقات الحزب نحو الداخل ويتداخل مع فقدان الهوية السياسية على نحو مدمر.

إذا أصبح التنافس على التمثيل البرلماني الإسرائيلي يؤدي إلى شروخ ونشوء محاور في حزب فلسطيني، فيجب التوقف قليلا والتفكير: على ماذا نتنافس؟ على الفوز بالحكم؟ لا طبعًا، على شرف أو منزلة؟ لا طبعًا، فيفترض أن يعرف الجميع أن الوجود هناك بمثابة عبء بالنسبة للفلسطيني الوطني، وهو ثمن يدفعه لتمثيل شعبه وعدم الانفصال عن قضاياه المعيشية. على ماذا التنافس إذًا؟ فكروا قليلا! أخشى أن تكتشفوا أن الصراع يدور على أمور أصغر كثيرًا!

لا يجوز أن يكون المجتمع ومؤسساته أكثر تقدمًا وعصريةً من الحزب الذي يريد أن يقودها. ومن الضروري التمكن من الإدارة الحديثة وتقنياتها، فالنضال والموقف السياسي لا يعني بالضرورة إتقان فن إدارة مؤسسة، كما أنه من الضروري التعامل مع وسائل التواصل الحديثة وإتقانها.

من الضروري وجود فئة واسعة من المثقفين حول أي حزب وطني يسعى إلى أن يهيمن خطابه السياسي، وأن يكون مقنعًا.

من الضروري التمسك بالشعارات السياسية، وعدم تعديلها حسب ظرف آني عابر. ولكن يجب تعديلها إذا أصبحت متنافرة مع الواقع المعاش والممارسة، ومع الهدف من النضال، وفقط بعد نقاش معمق ومعلن تشارك فيه القواعد.

ما لم تنتبه له الحركة الوطنية، هو احتمال الإفساد الذي تتعرض له نتيجة التنافس على التمثيل في البرلمان، وتغلغل هذا الإفساد حتى القواعد. ويرافق هذا التنافس الذي لا يمكن أن يفرز أفضل تمثيل للحزب، صراعات أخرى على مناصب القيادة وفتات الوظائف. وعندما يصبح التنافس مسألة ولاءات وليس كفاءات، لا يختار الحزب الأفضل لقيادته ولا لتمثيله، بل بناء على الانتماء لشِلَلٍ تغطي على فشل من ينتمي إليها، وتذم حتى نجاح من ليس فيها.

نتيجة لهذه الصراعات المصطنعة، يتبدد جزء كبير من طاقة حزب وطني وأعضائه على الصراعات الداخلية، بدلا من أن يوجه نحو الخارج لتوسيع قواعده وللنضال. وكان ذلك سببًا رئيسًا في إضعاف القواعد، وتنفير بعض المؤيدين من أوساط مثقفي الحركة الوطنية ونشطاء الحركة الطلابية السابقين وغيرهم، ممن يتركوا فريسة للمزايدات وهشاشة الموقف في حالة تركهم من دون صلة بالتنظيم.

* يُستحضر مشروع "دولة جميع مواطنيها" الذي أسست له من خلال التجمع، وتحوّل لاحقًا إلى إجماع تقريبًا بين القوى السياسية في الداخل؛ يُستحضر بهدف تبرير الاندماج بلا ضوابط في "اللعبة" البرلمانية الإسرائيلية، وحتى أن البعض يستحضر ترشحك لرئاسة الحكومة في العام 1999...

مشروع دولة المواطنين هو الخطاب الوحيد الممكن لصياغة النضال الوطني، والنضال من أجل المساواة صياغة ديمقراطية ومناهضة للصهيونية في ظروف عرب الداخل. وهذا السر في انتشاره على مستوى عرب الداخل، وأيضًا في تخوف المؤسسة الصهيونية منه. كما أنه برنامج رابح لقضية عرب الداخل على المستوى العالمي، فهو برنامج ديمقراطي.

لقد كان الترشح لرئاسة الحكومة فرصة لإشهار هذا المشروع وشرحه (ونشرت مقالا في "فصل المقال" في العام 1998 بهذا الشأن ودعوت لقائمة مشتركة واحدة تختار مرشحًا عربيًا لرئاسة الحكومة). وقد أتاح لنا فعلا منابر محلية وعالمية لشرحه. ومن ناحية أخرى، كان الترشح فرصة لإبراز هوية عرب الداخل القومية والسياسية بوصفهم معسكرًا آخر ثالثًا في مقابل المعسكرين القائمين في إسرائيل، وبطرح مختلف جوهريًا عنهما. ومكّنَنَا الترشح في الوقت ذاته من الانسحاب من المنافسة من دون الدعوة للتصويت لإيهود براك، وذلك خلافًا للأحزاب العربية الأخرى التي دعت صراحةً للتصويت لبراك، الذي أصبحت مرحلته من أسوأ المراحل في تاريخ الدولة. فقد كان السبب في تفجر الانتفاضة الثانية والتعامل بالرصاص الحي مع مظاهرات المواطنين العرب (مثلما فعل رابين في يوم الأرض). وحين ترشح مرة ثانية كان من المحرج لأي حزب عربي أن يدعو إلى انتخابه حتى حين نافسه شارون، بل انتشرت دعوة لمقاطعة تلك الانتخابات لرئاسة الحكومة (التي كانت آخر انتخابات مباشرة لرئاسة الحكومة).

ولهذا، لا يوجد أي شبه بين الترشح الاعتراضي غير الاندماجي لرئاسة الحكومة، الترشح الأول والأخير في تاريخنا، وبين التوصية بغانتس. ومرة أخرى، أنا لا أخوِّن التوصية به، وأتفهم وجود ضغوط اجتماعية داخلية، وضغوط فلسطينية ناجمة عن أجندات خاطئة وتشخيص خاطئ لما يجري في المجتمع الإسرائيلي. المسألة تتعلق بعلاقة الثقة بينك وبين جمهورك، وقدرتك على شرح الموقف.

* بعد إخفاق التوصية ومشروع الكتلة المانعة بإسقاط نتنياهو خلال العام الأخير؛ هل ترى أن الخطاب المهيمن حاليًا على المشتركة، خطاب التأثير وغيره، له مستقبل في المدى المنظور، خصوصًا وأنه لم يقدم طرحًا جديدًا، بل يجرب أدوات مجربة، ويتجاهل جوهر إسرائيل الأيديولوجي الصهيوني، ويسير عكس مسار التاريخ في إسرائيل، مسار نحو نظام فصل عنصري استيطاني، وضم الكتل الاستيطانية والأغوار، يعني يختلف كليًا عما كانت في عهد حكومة رابين واتفاق أوسلو... هل وصل أو سيصل إلى طريق مسدود؟

لا أدري ما المقصود بالخطاب المهيمن داخل المشتركة؟ إذا كنت تقصد الاندماج في المؤسسة الإسرائيلية لغرض التأثير، فمن الواضح منذ الآن أن أصحاب هذا التوجه يتأثرون أكثر مما يؤثرون. يجب إيجاد توازن بين النضال الشعبي والعمل الدعائي السياسي من جهة، والعمل البرلماني من جهة أخرى. ولا حل آخر. والمستقبل هو لخطاب وطني ديمقراطي يدرك أن منظومة الحكم والسيطرة القائمة في فلسطين هي ذاتها، وأن ظروف عرب الداخل المتجسدة أساسًا في المواطنة الإسرائيلية تحتم أن تختلف طبيعة النضال ووسائله، ونوع المطالب العينية وتوقعات الناس من القوى السياسية التي تمثلها عن بقية تجمعات الشعب الفلسطيني، ولكن لا تعني أن إسرائيل هنا غير إسرائيل هناك. إنها منظومة الحكم ذاتها.

التوجه اليميني للضم وإحلال الإملاء محل المفاوضات، وتغلغل الخطاب الصهيوني الديني، يحتم على العرب في الداخل تنظيم أنفسهم من أجل تحقيق حقوقهم المدنية والجماعية الوطنية، والتمسك بخطاب سياسي ديمقراطي في الوقت ذاته. هذا سلاح عرب الداخل الأساسي. ويجب أن تكون ثمة واقعية في الطرح تراعي ظروف العمل في إطار المواطنة، من دون الانزلاق إلى تناقض مع المواقف المبدئية.

* أذكر أنك قلت حينها، حين ترشحت لرئاسة الحكومة، ولاحقًا في مقابلات صحافية، إن الترشح لرئاسة الحكومة كان بهدف طرح بديل للعرب عن مرشحي الإجماع الصهيوني، نتنياهو وبراك حينها؛ ما يحصل الآن، أن الرهان يكون على أحد طرفي هذا الإجماع؟

هذا صحيح كما بينت في إجابة سابقة. ولكني انسحبت في النهاية. كانت الواقعية والضغوط التي قد تقود إلى اتهامك بإنجاح نتنياهو - التي لم يتورع عنها بعض العرب في الداخل والخارج - تتطلّب الانسحاب. ولكن مجرد الانسحاب كان كافياً من دون أن تدعو للتصويت لبراك. لقد حررنا ذلك من ضغط قوى عربية وفلسطينية تدعو من الخارج لتأييد براك.

التوصية بغانتس هي موضوع مختلف، فإما أن توصي أو تمتنع عن التوصية. لو امتنع التجمع عن التوصية، كل ما يجري الآن من تأليف حكومة وحدة وطنية، كان سيجري بتوصية أو من دونها، سوف يصبح بالنسبة للبعض مسؤولية التجمع، وسوف تنسى السلطة الفلسطينية وربما بعض الأحزاب العربية في الداخل، واليسار الصهيوني الصغير الحجم والعالي الصوت، كل شيء ويحمل القوى الوطنية التي رفضت التوصية بغانتس المسؤولية عن كل ما يجري. أدركُ هذا، وأعرف كيف يستبيح التنافس الحزبي كل الحرمات والمحرمات في غياب سقف من المسؤولية الوطنية المشتركة.

ولذلك، على التجمع أن يشرح للقوى الوطنية المعارضة للتوصية هذه الملابسات. كان مثلا بمقدوره أن يخرج ويقول: "نحن ضد التوصية للأسباب التالية... وسوف يحدث كذا وكذا... ولكن إذا امتنعنا عن التوصية سوف يتهمنا الجميع والقوى الأخرى بأننا السبب وراء ما سيحدث بتوصية أو من دونها، ولذلك هذه هي التوصية نلقيها لكم فقط لنعفي أنفسنا من المسؤولية - وليس التزامًا بقرار الأغلبية -، وسوف تظهر الأيام أننا على حق". لا أعتقد أن مشكلة التجمع هي التوصية. بل ما ذكرته أعلاه، وكل ما يمنعه من مصارحة جمهوره والشرح له، ووجود أزمة ثقة ناجمة عن تعب من لغة الشعارات، وصراعات محاور وعملية إفساد أساسها التنافس على كرسي الكنيست.

وهذه كلها أمور قابلة للإصلاح، إذا أدرك الناس حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وجذبوا الناس إليهم، وفسحوا المجال لقدرات وطاقات وكفاءات أن تضطلع بأدوار. ما لا يمكن إصلاحه هو ملوثات العمل السياسي، مثل الأحقاد والحسد والغيرة وسوء النوايا وغيرها. وآمل أن هذا غير موجود.

الناس تتقبل حتى الخطأ وتتفهم، إذا كان ثمة صلة بين القيادة والأعضاء، والأعضاء والقواعد الاجتماعية، وثقة وصراحة في شرح الموقف من دون مزايدات.

فشلت إستراتيجية التوصية على غانتس؛ إذًا هذا هو الوقت المناسب لشرح صحة الموقف المبدئي.

* ما يلفت انتباهي مثل كثيرين، أن الخطاب الحالي يحمل بعدًا واحدًا، أو سياسة ذات البعد الواحد؛ بمعنى أنه يرتكز على بُعد ولغة وقاموس واحد في السياسة، وهو البرلماني، ويتجاهل بشكل تام أهمية التنظيم الجماعي القومي للمجتمع، وتنظيم القدرات المجتمعية. مجتمعنا اليوم فيه كفاءات علمية وأكاديمية واقتصادية كثيرة؛ لم تُنظم، وما يجري في نظري هو إعلاء شأنها كلاميًا، وطمس قدراتها فعليًا؛ لا دور جماعيًا لها بالمجتمع؛ حتى دور المجتمع المدني تراجع... وهذا، ربما ينعكس أيضًا بالعنف والجريمة وعدم التطور العمراني والكثافة السكانية...

أبدأ بالشق الأخير من سؤالك المتعلق بالجريمة. كان تقييمي الذي عبرت عنه أثناء وجودي بينكم بعدة أشكال في مقالات ومحاضرات، وحتى في كتابي عن العرب في الداخل، أن مستقبل عملية مصادرة الأرض والتصنيع والتطور غير المتكافئ، الذي يميل لصالح التجمعات اليهودية، وسياسة التهويد المعلنة، يعني في النهاية تحويل القرى والبلدات العربية إلى هوامش للمدن اليهودية هي أشبه بأحياء الفقر دون عملية تمدين حقيقية. على هذا يمكن أن تبني سوسيولوجيا كاملة، بما فيها العنف الاجتماعي والجريمة – ظاهرتان مختلفتان متداخلتان -، ولا سيما إذا أضفت الصيرورتين أعلاه الأسرلة والفلسطنة، ونشوء القصور الثقافي وأزمة الهوية وسهولة ترجمتها على مستوى السلوك والأخلاق، وتآكل المعايير الاجتماعية للسلوك. وباختصار، فإن الاتجاه هو نحو سوسيولوجيا أحياء الفقر. كل هذا من دون تواجد شُرَطي حقيقي من داخل المجتمع نفسه.

هذه من نوع المسائل التي لا يحلها العمل البرلماني بحد ذاته، ولا المظاهرات ضد الجريمة بحد ذاتها. هنا تظهر أهمية المؤسسات المجتمعية والعمل الأهلي المثابر على مستوى الحي والقرية، وعلى مستوى العرب في الداخل عمومًا.

العمل البلدي في السلطات المحلية مهم أيضًا، ويجب أن يدخل في إطار إستراتيجية القوى السياسية. فهذه مؤسسات قائمة ومنتخبة محليًا ولديها ميزانيات وإمكانيات وصلاحيات جباية. وهي مجال مهم لتنظيم المجتمع. مشكلتها الكبرى هي الشروخ المجتمعية التي تخلفها الانتخابات المحلية، والتي لا بد من التوصل إلى حل لها، حتى لو كان الاتفاق على التناوب بين قوى اجتماعية وسياسية من دون انتخاب. إذا حل المجتمع العربي معضلة انتخابات السلطات المحلية، وحولها إلى اتفاق مجتمعي داخلي ولو كان غير حزبي أو مختلط حزبيًا وغير حزبي، فإن ذلك يحل مشكلة كبرى على مستوى الطاقات السلبية، ويتحول إلى استخدام هذه السلطات أيضًا في التطوير الذاتي، وفي مقارعة السلطة على قضايا الأرض والتعليم والصحة العامة ورخص البناء وغيرها، والثقافة الوطنية نعم؛ فلم لا تستخدم المجالس المحلية إمكانيات دوائرها في ترسيخ الثقافة الوطنية والتربية العلمية، وفي مكافحة الجريمة وضد الشعوذة والخرافات وغيرها. كل هذا بالطبع ضمن إمكانياتها، فلا تكلف أكثر مما في وسعها.

توجد مشكلة كبرى بالنسبة لأقلية قومية أصلانية تواجه نظام حكم صهيوني عنصري، إذا اقتصرت طاقتها السياسية على العمل في برلمانه، وأهملت مجالات أخرى، مثل بناء المؤسسات الوطنية واللجان الشعبية الجاهزة على مستوى كل بلدة وقرية ومنطقة، والحاضرة لخوض النضالات الشعبية في القضايا المختلفة.

* سؤال قبل الأخير بهذا الشأن؛ سياسة البعد الواحد هذه، مشكلتها مثلا، أنها تحوّل السياسي ومنتخب الجمهور إلى وكيل على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى نجم مثل المشاهير، ليست ميدانية أو تنظم المجتمع، تخطب بالناس عبر "فيسبوك" بدل الميدان، سباق نجومية باختصار...

هذا عمل سياسي. لا يمكن التخلص من حب الظهور في العمل السياسي الدائر في ظروف من الحرية النسبية. ووسائل التواصل تضاعف النرجسية وتضخمها. العاملون في السياسة الانتخابية عمومًا يحبون الظهور والشهرة. المهم أن يكون لديهم ما يقولونه أكثر من مجرد كليشيهات أو تهريج وبهلوانيات لجذب المعجبين.

ولذلك، لا يكفي أن تنتقد القوى الوطنية هذه الظاهرة، وهي تنتقدها بحق ليس فقط سياسيًا، بل أيضًا لأنها أيضًا مُضللة وتُفسد ثقافة الناس. ولكن لا بد أن تبرز هي أيضًا شخصيات جذابة للأسباب الصحيحة، أي لأنها قادرة أن تطرح المواقف بشكل مقنع، أو لصفات أخرى إيجابية مثل الكاريزما الشخصية والقدرات الخطابية أيضًا. ليس ضروريًا أن تُنافس بالتهريج، يمكنك المنافسة بمقومات تدوم أكثر بكثير من طرفة هنا ومناورة وبهلوانيات هناك.

كما أنه إذا غاب التنافس في التحليل والطروحات السياسية المختلفة، يبقى التنافس الشخصي سيد الموقف.

يجب أولا طرح المواقف التي تميزك. ثم تنتقد ظواهر النجومية الفارغة من المضمون في السياسة. ولكن على الحركة الوطنية أن تدرك أن هذا عمل سياسي جماهيري في ظروف من الحرية النسبية، ولا يمكن أن يقتصر فقط على صحة الموقف، فهو يشمل أيضًا طريقة تمثيل الموقف وجاذبيتها، ومهارة شرحه للناس، والقدرة على التأثير عليهم عاطفيًا ووجدانيًا أيضًا.

* قبل أن ننتقل للحديث عن تبعات الانتخابات الإسرائيلية، عربيًا وفلسطينيًا؛ أود أن أسأل التالي: العرب في إسرائيل يواجهون حكومات غير مسبوقة في عدائها لهم، بالممارسة والتشريع مثل قانون كامينتس أو "قانون القومية"، والمجتمع الإسرائيلي كذلك أكثر عداءً؛ ومن جهة أخرى تشتت فلسطيني وتمزق عربي من حولنا؛ قد يسأل نفسه أي عربي هنا، إذا لم يتوفر حاليًا أي نموذج عربي تحرري أو فلسطيني يعوّل عليه أو يحتذى به، فلنتدبر أمرنا هنا من خلال الأدوات المتاحة، أدوات المواطنة غير المتساوية في دولة اليهود. في موازاة تطور المجتمع لجهة التعليم والاقتصاد ونشوء طبقة وسطى مرتبطة كلية بالاقتصاد الإسرائيلي؛ أي أننا في مرحلة مختلفة، سياسيًا وإقليميًا، عما كانت عليه قبل عقدين أو حتى أقل؛ ما رأيك؟ ما الخيارات...

صحيح. ولكني أكرر مرة أخرى الصيرورات، العمليات الجارية في هذا الاتجاه كانت قائمة.

عندما تفجرت الثورات العربية وظهر أن تحولا عظيمًا يجري باتجاه إيجابي، حصل صعود سريع وصاروخي للهوية العربية والفلسطينية. وعندما اجتاحت المنطقة ردود الفعل المضادة والحروب الأهلية انسحب العرب في الداخل إلى مواطنتهم الإسرائيلية الناقصة على علاتها. هذه تطورات موضوعية، وليس خير وشر. يجب أن تتفهم الحركة الوطنية الناس وتوجههم في الوقت ذاته، ما يتطلب أن تكون لدى القوى الوطنية بوصلة محلية سياسية غير تابعة لهذا النظام العربي أو ذاك.

كنت دائما أقول للأخوة في الداخل في الاجتماعات الشعبية وغيرها، نحن لسنا عربًا لإرضاء الأنظمة العربية، بل هذه ثقافتنا وهويتنا، وأيضًا مصلحتنا في الحفاظ على المجتمع من التمزق والعائلية والطائفية والانحلال الأخلاقي وغيرها. وسياسيًا، ليس لدى هذه الأنظمة ما ترشدنا به بخصوص عملنا السياسي.

كان موقفي دائمًا أن علينا أن نقدم نموذجنا التحرري في ظروفنا، وأن تتنظم حركة وطنية بصيغة حزبية في إطار المواطنة الإسرائيلية، وتخوض الانتخابات بحيث لا يهمشها الانفصال عن قضايا الناس اليومية شعبيًا، أي أن تكون ذات قاعدة اجتماعية واسعة نسبيًا، لأنها على صلة بقضايا الناس الحياتية، ولأنها مُقادة من نخبة يحترمها الناس وتحترم هي أيضًا الناس وتتفهم ظروفهم، وفي الوقت ذاته أن تعتبر قضية العرب في الداخل غير منفصلة عن القضية الفلسطينية. هذا معنى الدولة لجميع مواطنيها والحقوق الجماعية للسكان الأصليين.

وبالنسبة للدول العربية، من ليس لديه الجرأة للوقوف مع الديمقراطية والعدالة وحرية التعبير ووقف التعذيب وغيرها في العالم العربي، فليصمت على الأقل، لا أحد يطلب منه موقفًا. فالدفاع عن أنظمة ديكتاتورية وأنظمة طغيان من دون معلومات وبلا أي اطلاع حقيقي وباستخفاف بمعاناة الشعوب الأخرى، يفقِدُ من يقوم به المصداقية حين يتحدث عن عدالة ومساواة وحرية تعبير وحقوق سجناء في بلده هو. وينفّر الشعوب العربية المظلومة من قضية فلسطين. هذه مسألة بديهية.

* فلسطينيًا، لا بد أنك تعلم أن السلطة الفلسطينية تحاول التأثير على المشتركة لتعويلها على أي بديل آخر لنتنياهو، غانتس هذه المرة، وبالنتيجة غانتس ألغى نفسه كبديل نتنياهو؛ هل من داعي لهذا الانشغال لدى السلطة الفلسطينية والتعويل على تناقضات الإجماع الإسرائيلي؛ يبدو أن هذه التناقضات لا تتعلق بالتسوية مع الفلسطينيين، وإنما أكثر بشأن طابع الدولة؛ ليبرالية أقل أو أكثر؛ علمانية أكثر أو يهودية أكثر...

جوابي هو لا. هذه إستراتيجية خاطئة تقوم على ثلاثة أسس واهية: 1. أجندات خاطئة؛ 2. تشخيص خاطئ للأوضاع في إسرائيل وسوء تقدير لمدى صهيونيتها وديمقراطيتها؛ و3. اتباع الأساليب ذاتها التي فشلت حتى الآن.

المشكلة أن البعض ممن يفترض أنهم يعرفون إسرائيل من الداخل، بدل أن يشرحوا للسلطة ويعقلنوا موقفها بشأن السياسة الإسرائيلية وعرب الداخل وإمكانياتهم، إما يضللها لكي تدعم أجنداته الاندماجية، أو ينصاع لأجنداتها على حساب مواقفه.

يجب أن تساعد السلطة (إذا رغبت في التأثير) العرب في الداخل وتشجعهم أن يتنظموا ويتمثلوا برلمانيًا، لكي يدافعوا عن حقوقهم المدنية ويتمسكوا بالهوية الوطنية والموقف السياسي المبدئي في صراعهم مع النظام الصهيوني نفسه، وليس في خدمة أجندة تفاوضية أصبحت عبثية في ظل انقسام فلسطيني.

* سؤال أخير. كذلك الحال بالنسبة لبعض الدول العربية، في السابق كان التعويل على "معسكر السلام"؛ اليوم دول مثل السعودية والإمارات تعوّل على نتنياهو؛ عفوًا... أضيف وبعض القيادات السودانية الحليفة للإمارات، وربما أخرى...

بعد أن احتدم الصراع في المنطقة على طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة، أصبح بعضها - ولا سيما قوى الثورة المضادة - يجاهر بتحالفه مع إسرائيل، بغض النظر عمن يحكمها، معسكر حرب أم معسكر سلام، لترسيخ قوته في الولايات المتحدة ولمواجهة مخاطر نشوء ديمقراطيات ممكنة، أو لمواجهة التدخلات الإيرانية في المنطقة. وهي على كل حال تدخلات مناهضة للديمقراطية ومثيرة للطائفية.

فالصراع هو صراع محاور وليس بين خير وشر. ليس لعرب الداخل ما يبحثون عنه في أي من المحورين، وليسوا بحاجة إلى ذلك.