تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المفكر العربى عزمى بشارة للديمقراطية: الربيع العربى صرخة وجودية من أجل الحرية والكرامة

2013-01-15

حاوره: عبد الله الطحاوي

تنطلق الثورات بعد أن تتوفر شروطها، وليس بالظلم فقط تنهض الاحتجاجات، لكن بالوعى بالظلم والقهر. ولم يكن البوعزيزى إلا اللحظة التى انكسر فيها تراكم الخوف العربى ، فانزاح الحاجز، وصرنا قبالة ثورة جماهير تأبى التدجين أو القولبة، جماهير سكنت إلى الشوارع وسكنت الشوارع إليها، وعلى أفق الطموح تبقى التساؤلات مشروعة ، هل ماعايشناه ثورة ؟ أم حالة ثورية ؟ إلى أى عمق وصل التغيير ، وإلى أى مدى وصل الحلم ؟ ما الذى تغير ؟ وما الذى بقى ؟ سقط نظام الحكم فماذا عن نظام القيم والعقل ؟ عامان على الربيع العربى والأزهار لا تزال تقاتل من أجل التفتح،  والأنسام مازالت تتجادل مع روائح الغاز والبارود ،عامان من السؤال السياسى الحاضر بغزارة، وانحسار لتساؤلات التحديث والتجديد.

ضيف الحوار المفكر العربى البارز الدكتور عزمى بشارة - مدير المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، لا يقدم فقط إضاءة للتفاعلات الثورية العربية، بل ويطرح تنظيرا مركبا لماهية الثورات العربية ومراميها التحررية فى ضوء مشروعه التنظيرى المشدود، وفى القلب منه قضايا المجتمع المدنى، والديمقراطية والدولة الوطنية الحديثة، والمواطنة، وحقوق الأقليات، والتنويعات الثقافية، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورات العربية شرع فى  طرح أسئلة جديدة حول القابلية للثورة، ومفهوم الاحتجاج، والخروج فى الثقافة الإسلامية، وأنزل ضوضاء الميادين فى متون الدرس المعرفى من خلال خلاصات بحثية علمية تقبل بالاختلاف والاتفاق، ولكنها تحظى باحترام الجودة والمبادرة. وهنا يقدم تأملاته عن الثورات العربية ، تأملات معرفية وتأسيسية لحالة لا تزال سائبة من ربيع قلق.

تساؤلات عن السببية وصاحب الفعل التغييري:

عامان على الربيع العربي.. «الحالة».. دخلت مرحلة الفطام المعرفي..هل بالفعل كان لدينا ثورة.. وهل اتضحت معالمها ومشروعها..هل هى فعل التغيير الذى نهضت به الشعوب..أم هى أداة التواصل الاجتماعى والتشبيك التى بلورت الوعى الجمعى الاحتجاجى الشبابي..؟ أم هو الفاعل الإسلامى الكامن الذى التحق بباطن الثّورة، ليضاعف من مساحة افتراشها..أم هى المزيج من كل هذا؟

يستحيل حصر الأسباب الضروريّة والكافية للفعل الاجتماعي، لأنّه مهما توافرت الأسباب والعوامل الكافية لشرح الظاهرة فهنالك دائمًا عوامل لا نأخذها بعين الاعتبار نتيجة لعدم الإحاطة الكاملة بالمعلومات، أو نتيجة للموقف الأيديولوجي، أو نتيجة لزاوية النظر التى ينظر منها الكاتب وغيرها. وإذا صح ذلك على الفعل الاجتماعى عموما، فما بالك بظواهر اجتماعيّة كبرى مثل الثّورات التى يدخل فيها  قطاعات واسعة من الناس تقرر خرق الاستقرار والتوازن القائم، ويدخل فيها عنصر وعى الفاعلين الاجتماعيين ومدى تطوّر هذا الوعي، والعوامل التى تتحكم فيه. ولهذا فإنّه من السخافة حتى محاولة حصر أسباب الثّورات. يمكننا دراسة عدة أمور:أولًا، الخلفيّة التاريخيّة والعوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التى تشكّل نموذجًا تفسيريًّا لوقوع الثّورة. وثانيا، نشوء الحالة الثورية أو ما أسميه القابلية للثورة،  والأمر الثالث الذى يمكننا دراسته هو العوامل المباشرة التى تفاعلت مع الأولى وأدت إلى نشوب الثّورة ومساراتها. وهذا بالفعل ما قمت به عند دراسة الثّورة التونسيّة فى كتابى الثّورة التونسيّة المجيدة: بنية ثورة من خلال يومياتها. وما نعكف على فعله الآن فى دراسة نعدها عن الثّورة المصريّة، والثّورة السوريا بمساعدة طاقم عمل  فى المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات. ولهذا من الصعب أن أحيط بسؤالك فى مقابلة، ولكن من الواضح أنّه حصلت حالة انسداد عربى فجّرتها الثّورة التونسيّة وأظهرت الممكن، أى ما يمكن فعله. وقد وسّعت الثّورة المصريّة من إطار هذا الممكن بسبب محوريّة ومركزيّة مصر، والجاذبيّة الخاصّة التى تميّز بها جمهور الثّورة المصريّة، والنموذج السلمى الذى قدّمه. ولكن لا يسعنا إلا أن ندرس ما أسميه نشوء الحالة الثوريّة الذى أدى إلى الثّورة والمتمثل بالعفونة التى طالت نظام الاستبداد القائم والتحالف السافر بين أجهزة الأمن وطبقة رجال الأعمال الفاسدين، ونشوء مفهوم الأسرة الحاكمة فى الجمهوريّات، وإفساد النخبة السياسيّة. وقد رافق ذلك فى كافة الدّول التى نشأت فيها الثّورة عملية لبرلة اقتصاديّة من دون ليبراليّة سياسيّة، وما أفرغ اللبرلة الاقتصاديّة من مفهومها، إذ حل الفساد وعلاقات القرابة والزبائنية السياسيّة محل الاحتكار الاقتصادي. والحالة الثوريّة لا تنشأ من هذا وحده، بل من وعى هذه الحالة كحالة ظلم والاستعداد لفعل شيء لتغييرها. وقد ساهم فى ذلك وعى جيل الشباب المثقف والناقم لأسباب عديدة منها البطالة الاقتصاديّة، والشعور بالغبن من التطورات السياسيّة الإقليميّة فى محطات عدّة مثل حرب العراق، وحرب لبنان، والحرب على غزّة، ومنها أيضًا مواجهة إذلال الأجهزة الأمنيّة بالرفض عند جيل لم يعد يقبل بذلك، وولد بعد عصر الهزائم، وأقصد بذلك ليس فقط هزائم الدّول، وإنما أقصد أيضًا فشل حركات التغيير فى السبعينيات والثمانينيات.ويرمز إلى ذلك سيميائيًّا برفض البوعزيزى للبطالة، والإذلال الأمنى، واستخدام حرق الذات كصرخة قصوى تعبّر عن انسداد، وحركة خالد سعيد فى مصر التى قامت على رفض مقاربة أجهزة الأمن العربيّة لكرامة المواطن وانتهاكها حرمة جسده. وهو أمر لا تفهمه الأنظمة البطريركية التى ترى فى جسد، المواطن ملكا لها، ولا ترى فى الضرب انتهاكا لحرمته، بل تأديبا مثلما يفعل أب قاس ينزلق إلى السادية أحيانا.

والتقى خروج هذا الجيل مع درجة تطور وسائل الاتصال الاجتماعيّة والفضائيات العربيّة وموقع يوتيوب وغيرها من الأدوات التى ساهمت فى تشكيل وعيه الجماعي، وخرقت الحصار الإعلامي، ونشرت المشاهد والصور والأفكار بشكل لم يكن ممكنًا فى الماضي. وعلى كل حال فإن العنصر الرئيسى أو إذا شئت اللحن الرئيسى (الميلودي) فى سيمفونية الثّورات العربيّة الجارية التى تعزف فى كل مكان الآن هى مفاهيم الحريّة والكرامة. وهذه مفاهيم ترتبط فى ذهن الشباب العربى المعاصر المتطّلع لنظام الحكم الديمقراطى الذى لا يحل كل المشاكل، ولكنه يقدّم ضمانات ضد انتهاك السلطة لحرية الإنسان وكرامته. وكما هو معروف فإن الديمقراطيّة لا تقدم هذه الضمانات على المستوى العالمى، ولا تعاملها مع الشعوب الأخرى، وإنما تقدّمها عبر مفهوم المواطنة.

أما بالنسبة للتيار الإسلامى، فلا أعتقد أنّه كان أساسيًّا فى نشوب الثّورات، فهو لم يطلق الثّورة لا فى تونس ولا فى مصر، ولكنه بدون شك ولكونه التيار الرئيسى فى المعارضة الرئيسية المعرّضة للملاحقة فى هذه الدّول، قد انضم إلى الثّورات، وكان قسم كبير منه لحسن الحظ قد مرَّ بعمليّة مراجعة فى العقدين الأخيرين فى علاقته مع العنف السياسى والتعدديّة السياسيّة، وما زال يعمل جاهدًا لتقبّل القيم الديمقراطيّة. ولهذا انسجم بسهولة مع الثّورات وأسهم فى توسيع قاعدتها الشعبيّة. ولكن هنالك جزء من التيار الإسلامى اعتبر الثّورات فتنة ولم يسهم فيها، وجزء آخر أسهم فيها لأسباب حزبيّة متعلقة بالاستفادة منها للوصول إلى الحكم كما تفعل الأحزاب الشموليّة عادة حينما تنظر إلى الحركات الشعبيّة الواسعة من منظور حزبى ضيّق، ألا وهو تسخيرها لأهداف حزبيّة إن هذا فى الماضى ينطبق على أحزاب اليسار فى الثّورات الشعبيّة فى أوروبا فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهذه التفاعلات بين تقبّل الديمقراطيّة وقيمها وما بين اعتبار الثّورة الشعبيّة فرصةً للوصول إلى الحكم وإقامة حكم إسلامى لا زالت تتفاعل حتى اليوم. وإن كنت واثقًا أن الثّورات العربيّة سوف تنتهى جميعها بعد صعود وهبوط ومد وجزر وتعقيدات هنا وهنالك،(ولا استثنى حتى وقوع انتكاسات مؤلمة)، سوف تصل فى النهاية إلى بناء الديمقراطيّة فى ظروف المجتمعات العربيّة التى نعرفها.

المدى الزمنى بين ثورة الغضب وثورة الإبداع:

مع بدايات الثّورة وانزياح الدّولة القابضة..بدا أن المجتمع العربى غير الذى نعرف..انتفض..تنظم.. تكافل.. تناوب الحراسة..أراد أن يقول للدولة الآفلة شيئًا لسنا فى حاجة: لتمددك وحضورك السمج.. وفى منتصف الطريق انكشف الغطاء عن كم من السلوكيات السلبية والنفسية الخطيرة كادت تودى بالثّورة المصريّة، بل ويلاحظ أنه عندما تشتد الأزمات تصبح الثّورة متهمة ، وفى الانفرجات نتحدث بفخر عنها.. أسأل هنا عن المحتوى التغييرى الثورى الثقافي؟؟ ومتى يظهر فى كل ثورة، ووفق أى شروط؟؟.. وهل ثمة مدى زمنى بين الغضب الاحتجاجى والانفجار الإبداعي..فمثلًا ثورة يوليو كانت حركة فى الخمسينيات ثم ثورة فى الستينيات..هل نحن بصدد شيء قريب من هذا؟؟ وإذا كانت ثورة يوليو لها قيادة يمكنها أن تأخذ قرارًا، وتتبنى مشروعًا وتفرضه فكيف يحدث هذا لثورة شعبيّة..الملايين هم المحتوى، وهم القائد والراية، ولم يتفقوا فى شيء سوى خطاب يسقط..؟؟

هذا سؤالٌ مهم، وأود أن أذكرك أن الثّورات العربية ليست ضد تمدّد الدّولة، فهى ليست ثورة انفصاليّة أو ثورة وقعت فى الريف أو فى الهوامش بعيدًا عن الدّولة، بل هى ثورة رافضة لتغوّل الأجهزة الأمنيّة، والفساد،  والعنف الجسدى، والإذلال، والاستهانة بذكاء المواطن من جهة، ورغبة فى المشاركة فى الدّولة من جهة أخرى. إنها ثورة مواطنين بكل ما فى الكلمة من معنى. وثورات المواطنين هى ثورة من الداخل.الدّولة العربيّة دولة سلطانية رثة،وليست دولة قويّة، ولا دولة متغوّلة، بل إنّ تغوّل الأجهزة الأمنيّة يكشف عن دولة ضعيفة غير قادرة على السيطرة الأمنيّة أو اختراق المجتمع بواسطة الاندماج الاقتصادى عبر عمليّة الإنتاج، والحقوق الاجتماعيّة، والاندماج السياسى عبر المواطنة، وعن التعويض عن نقص الهيمنة الثقافيّة بالدعاية الإعلاميّة الكاذبة. من هنا فإن القمع الأمنى، والكذب الإعلامى والشخصيات المشوّهة من النخبة السياسيّة الناجمة عن الجمع بين حاجات أجهزة الأمن، وحاجات الدعاية الإعلاميّة هى كلها من مظاهر ضعف الدّولة وليس من مظاهر قوّتها.

طبعًا معك حق فى مرحلة الانطلاق والاقتحام يُظهر المجتمع أفضل ما فيه، وأرقى ما فيه، لأنّها تخاطب المشترك النبيل بين الناس، وهو رفض الظلم، ورفض الاستبداد وغيرها، وهو ما يميّز أيضًا حماسة الشباب ويهمّش قيم العجز والاتكاليّة وتقبّل الظلم وتبريره وغيرها. هكذا بدت الثّورة المصريّة والثّورة التونسيّة واليمنية فى مراحلها الأولى زاهيةً وجذابة بهذا الشكل إلى درجة أنك رأيت الناس ليسوا فقط ثائرين، وإنما أيضًا مندهشون من أنفسهم، ومن شجاعتهم. هذا الشعور من الاندهاش من الذات، يعنى أقصد من وجود هذه الطاقة فيك وهذه العواطف فيك، اندهاش الإنسان من اكتشاف ما هو قادر عليه مثل فرحة الطفل عندما ينتصب على قدميه أو عندما ينطق بأوّل كلمة، هو المميّز لمراحل الانطلاق هذه.

لا يتصرف الناس بنبلهم فقط، بل يندهشون من أن فيهم هذه الدرجة من النبل، وهذا ما ينتج الغناء والموسيقى وغير ذلك من الأمور التى تميّز الثّورات. أما الظواهر التى تفضّلت بذكرها فهى ناجمةٌ عن الشعور بأن ما يوحّد الجميع قد انتهى، فى حالة مصر مثلًا الرغبة بإسقاط مبارك وإنجاز ذلك، وبدء الخلاف الأوّل البسيط هل أُنجزت المهمة أم لا؟ يعنى فى حالة مصر هل سقط النظام أم لا؟ هل يجب أن تسمر الثّورة أم لا؟ وهنا يبدأ النقاش والشكوك المتبادلة، ثم تدخل الأحزاب الصورة ويبدأ صراع القوى، ويهمش الثوريون أصحاب الأحلام والمثل العليا الذين كانوا فى الواجهة والصدارة فى أيام انطلاق الثّورة. وهذه المنافسة ليست رومانسية وقد تُخرِج من الناس قيمًا نبيلة، ولكنها أيضًا قد تخرج منهم أسوأ ما فيهم، لاسيّما عندما تنطلق الشكوك المتبادلة بين رفاق الدرب فيما يتعلق بأهدافهم الحقيقية من وراء انضمامهم للثورة. لا شكَّ أن هنالك مشكلة حقيقية حين لا يصل الثوار إلى الحكم. بمعنى حين لا تقوم قيادة ثوريّة بكسر جهاز الدّولة واحتلاله والوصول إلى الحكم، عندها طبعًا لا تقع هذه الشكوك والخيبات والإحباط الناجمة عن الشك فى الأحزاب التى تُتهم بأنها استولت على الثّورة أو سخّرتها لمصالحها أو قامت بعقد صفقات أو مساهمات على حسابها، وغير ذلك من الأمور التى تعرفونها جيدًا. ولكن هنالك ثمن آخر يُدفع حينما تقوم قيادة ثوريّة مبلورة بالوصول إلى الحكم بعد الثّورة مباشرة والاستيلاء على أجهزة الدّولة، إنه خطر الاستبداد الذى يبدأ مؤقتًا بانتظار الانتخابات، ثم يدوم طويلًا، كما حصل فى الثّورة الفرنسيّة فى بداياتها، أو الثّورة الروسيّة، أو الثّورة الإيرانيّة. كما تعلم الثّورة الإيرانيّة بدأت كثورة شعبيّة شارك فيها اليسار والليبراليون وأيضًا رجال الدين، واستولت النخبة الثوريّة مباشرة على النّظام ثم سخرته فورًا لتصفية أبناء الثورة أفسهم جسديا، وانتهى الموضوع فى إيران إلى احتكار الدّولة من قبل المؤسسة الدينيّة.

إذن نحن فى بعض الحالات نتحسر على عدم وجود قيادة مبلورة تصل مباشرة إلى الحكم بعد الثّورة، ولكننا نعود ونتذكر أن هذا يحمل أيضًا مخاطر. ومن هنا فإننا نقترح أن نعمل بما هو قائم بدل التحسّر، ففى مصر نشأت حالة انتقاليّة مشوّشة سيطر فيها العسكر على الحكم من دون تصوّرٍ جاهزٍ لكيفيّة إدارة الدّولة، وحصل شرخ بين الثوار هل يجب أن تتواصل الثّورة أم لا، واستفردت المؤسّسة العسكريّة بجزء منه. أما الأحزاب السياسيّة فكانت تُعدُّ نفسها للانتخابات، وأنت تعرف بقية القصة. هذا الطريق ليس طريقاً مستورداً ولا هو من خارج الدّولة، إنه طريق الثّورة المصريّة الذى يجب أن تعرف القوى الثوريّة كيف تتعامل معه، وتسعى لكى يقود إلى بناء الديمقراطيّة المصريّة. وهذا غير ممكن من دون وجود تصوّرات واضحة وقاطعة لدى القوى الثوريّة تنافس عليها. إن العطب البنيوى الرئيسى القابل للتصليح طبعًا، والذى وقع فى الثّورة المصريّة هو عدم قيام جمعيّة تأسيسيّة من قوى الثّورة بعد إسقاط الرئيس مباشرة لتضع مبادئ نظام الحكم المقبل فى مصر، وذلك قبل بدء التنافس الحزبى حين كان شباب الثّورة مازالوا فى وهجهم الأصلي، قبل أن تحاول وسائل الإعلام والأحزاب أن تستهلكهم. والسبب الرئيسى هو أن المجلس العسكرى بدأ بعد الثّورة مباشرة يدير البلاد بموجب قوانين سابقة وإعلانات دستوريّة، وجهاز قضائى سابق، كما لو أن الرئيس ذهب والنظام بقى على حاله، وتركت مهمة تغييره للعمليات الانتخابيّة المتكررة.

وهذا طبعًا فى حالة مصر، أما فى حالة تونس فقد اختلف الوضع بعض الشيء ولكن هنالك أيضًا تعقيدات فى تلك الحالة. وفى حالة سوريا وجدنا ظواهر إنسانية سامية ونبيلة فى الأشهر الأولى، وتفجر طاقات إبداعية، وعنفوان تحدى وتضامن أهلى عند شعب حاولوا لعقود كسره من داخله، ولكن قسوة النظام فى القتل والقمع بدرجات لم نلتق مثلها فى مصر وتونس واليمن غطى بالدم كل شيء، وغير من طبيعة الثورة بعد صمود أسطورى لطابعها المدنى امتد أكثر من نصف عام كاملة من التظاهر والأهازيج الشعبية المشتركة، والتكافل الاجتماعى تعرض فيه المتظاهرون إلى إطلاق النار والقتل بالجملة والتعذيب.

من الثائر الربيعى

هى ثورات بلا خطة مسبقة ولا قيادة استراتيجية.. وليست احتجاجا ضد اتجاه أو طبقة أو فئة أو عرق أو طائفة.. فمن هو الثائر الربيعى ..هل الذى خرج أم الذى التحق وضاعف من سرعتها؟؟ أم الذى حمى؟؟ السؤال هنا عن المنتمى والمناوئ للربيع العربي..ولعله السؤال الأصعب لأنَّ كل ثورة فى التاريخ كان لها معيار للتصنيف فهل ثمة معيار هنا؟؟هذا يدخلنا فى فكرة الفوضى فلكل ثورة فوضاها الخاصّة..كيف ترى الفوضويّة الربيعيّة التلقائية والمخططة، مركب الفوضى الذى جعل من الثورة فكرة غير قابلة على السيطرة؟؟

نعم هى ثورات بلا خطة مسبقة ولا قيادات استراتيجية، ولمن يرغب ببعض الرومانسية كانت للتلقائيّة والعفويّة عبقريتها التى وقعت على ظروف مواتية هى حالتى مصر وتونس وانفصال جهاز الدّولة المركزى، ــ وهو الجيش ــ عن الأسرة الحاكمة. ومن هنا لم تقع التلقائيّة والعفويّة فى حالات من الفوضى الخطيرة،بسبب سرعة الانتشار، والمشاركة الشعبيّة الواسعة، وعدم قدرة النظام على قمعها بشكل واسع، ولا على الصمود أمامها. كما أنها بمجملها كانت حركة سلميّة قل مثيلها من حيث الاتساع والعمق فى التاريخ الحديث. ولكن نفس التلقائية العفويّة الشعبية وغياب خطة استراتيجية، وقيادة أدى إلى التحول إلى الكفاح المسلح فى سوريا فى ظل نظام واجه المظاهرات بإطلاق النار، ولا يمكنك أن تفصل فيه بين السلطة الحاكمة والنظام، ووقعت فيه جرائم يندى لها الجبين. هذا إضافة للشروخ الاجتماعيّة القائمة، والتى تحوّلت إلى نقاط تماس تهدد وحدة المجتمع.

طبعًا فى حالة اليمن كان هنالك توازن بين العفويّة التلقائيّة، ووجود شباب حزبى وقوى حزبيّة مسيطرة فى المجمل ولها استراتيجية وتكتيك، وهى قوى أحزاب اللقاء المشترك التى جنّبت البلاد حربًا أهليّة باعتقادي. ورغم أن الثّورة فى اليمن لم تنته إلى النهاية الرومانسيّة التى تمنّاها شباب اليمن، إلا أن عليهم أن يتخيلوا لو لم يكن التكتيك والاستراتيجية الحزبيّة التى لا تثير الحماس بطبيعة الحال، فقد كان بالإمكان أن تنطلق حرب أهليّة فى اليمن لا تنتهى فى عقد من الزمان بوجود ولاءات سياسيّة أمنيّة قبليّة تُصعّب الفصل بين الأسرة الحاكمة وجهاز الدّولة.

إذن العفويّة والتلقائيّة انتهت بسلام فى مصر وتونس بسبب طبيعة الدّولة والمجتمع وهذا أمر رائع، أما التلقائيّة فى حالة سوريا فقد قادت إلى ما قادت إليه فى ظل نظام مجرم بكل معنى الكلمة اختار أن يقمع التظاهر بالسلاح من أول يوم، وتجاوب معه جهازه الأمنى والعسكري. وهنالك حالة وسطيّة فى اليمن. وفى الحالات الخمس لا يمكننا أن نلوم الجماهير على غياب الأحزاب والقيادة المركزية ووجود إستراتيجية مسبقة، فالحركة الشعبيّة ضد الظلم، وهى من الأمور التى ينتظرها الناس فى التاريخ، أن تحصل، أى أن يخرج الناس للشارع طلبًا للحرية والكرامة. كما لا يمكننا لوم الأحزاب التى قُمعت وكانت فى السجون ولم تكن قادرة على تنظيم الثّورات أو تكيفت مع هامش صغير أتاحه النظام القائم وغيرها من الأمور. وعلينا أن نقلع عن عادة الحكم على التحولات التاريخيّة بأحكام الاستحسان والتخوين أو بإعطاء العلامات للجماهير والأحزاب.مهمتنا أن نقوم بتحليل علمى وذلك ليس فقط كعلماء أو كمثقفين، وإنما لأن هذا برأيى هو الأمر الأخلاقى الذى يجب أن نفعله عندما نحكم على التاريخ.

ما يمكن أن نلومه هم المثقفون والسياسيون الذين يرون الحقائق والتجاوزات الناجمة عن العفويّة والتلقائيّة، ولا يكتفون بأنهم لم يتمكنوا من تنظيم الحركة الجماهيريّة وأنهم لا يقومون بأضعف الإيمان، وهو توجيهها، بل يزيدون على ذلك باستغلال ما يحصل من تجاوزات أو فوضى شعبية (تصل حد الجرائم فى بعض الحالات) لتملّق حركة الجماهير. هنا طبعًا من واجبنا أن نلومهم ونوجه لهم الاتهام أنهم لا يقومون بواجبهم، وإنما بتملقهم ومراءاتهم لحركة الجماهير يحاولون اكتساب شعبيّة رخيصة ليست لديهم بفضل قيادتهم للجماهير، ولا بسبب تنظيمهم، بل بسبب قدرتهم على المداهنة وانتهاز الفرص لتحصيل مكاسب سياسيّة أو شعبيّة.

بين الدستور المنشئ والكاشف

لغط المرحلة الانتقالية.. فى تونس الحديث عن الدستور المنشئ (الدستور أولًا).. وفى مصر كان الحديث عن الدّستور الكاشف (الانتخابات أولًا)..فى تونس نتوافق حول النص ثم نتصارع سياسيًّا فى ضوء أسس معروفة..وفى مصر نتصارع وندخل العمليات السياسيّة لنعرف حقيقة الأوزان السياسيّة والاجتماعيّة، ثم يحدث تقريب أو مفاوضة أو حتى توافق على النص.. أيهما كان أكثر ثوريّة النموذج التونسى من الثورة إلى النص ثم الدّولة..أم النموذج المصرى من الثّورة إلى الدولة إلى النص؟؟

لا أرى فرقًا جوهريًّا بين المحاولة التونسيّة والمصريّة. الفرق هو فى رسوخ أيديولوجية الدّولة ومكتسباتها كدولة علمانيّة فى تونس قياسًا بمصر. وبرأيى ففى الحالتين سوف تستمر عمليّة مناقشة الدستور وإدخال التعديلات عليه خلال السنوات القادمة. وهذا طبيعى لأن الدستور لم يتم كإعلان ناجم عن توافق القوى الثوريّة التى أطاحت بالاستبداد. وهذا برأيى ما كان يفترض أن يكون، إذ إن القوى التى ساعدت الثّورة معروفة ولم يكن بإمكان أى منهم أن يصنع ثورة بمفرده. تخيل لو دعا الإسلاميون لثورة فى تونس ومصر، هل كان سيستجيب أحد؟ وهذا ينطبق أيضًا على الليبراليين والقوميين بدرجة أكبر. ما صنع الثّورة هو أنها ثورة ديمقراطيّة ضد الاستبداد، وكان ينبغى أن تحوّل روح الثّورة هذه من ميادين تونس ومصر إلى مبادئ مصاغة على شكل مبادئ دستوريّة والإجماع عليها فور نهاية الثّورة. هذا هو الإجماع المقصود وليس إجماع المئة بالمئة فى استفتاء، إذ لا يمكن الحصول على ذلك ولا يفترض الحصول على ذلك، لأن الدستور المصرى، والدستور التونسى، والدساتير العربيّة القادمة لا يفترض أن تكون إلا دساتير الثّورة المصريّة والتونسيّة التى أطاحت بالاستبداد تحت شعارات الديمقراطيّة، والتى لم يكن بإمكان أى حزب أو تيّار أيديولوجى أن يدعو إليها أو يسيطر عليها بعدما اندلعت. ولكن ما حصل هو صياغة الدستور متأخرا فى أطر برلمانيّة أو منبثقة عن برلمانات ما أخضعها مباشرة للصراع الحزبى على السلطة بعد الانتخابات، وليس صدفة أنّه تم تهميش شباب الثّورات وروحها فى هذه العمليّة. وأنا متأكد من أن هؤلاء الشباب سيعودون إلى حكم مصر وتونس ودول عربيّة أخرى فى المستقبل، ولكن كان يفترض بالأحزاب أن يكونوا أمناء لروح الثّورة، ويجب أن يتذكروا جيدًا ماذا كان وضعهم قبل الثّورات وأثنائها. ولكنى أطلب أضعف الإيمان منهم حاليًّا، وهو الفصل بين الصراع الحزبى على السلطة والتوافق الدستورى الذى يفترض أن يقوم عليه هذه الصراع. وأن يميزوا بين حكم الأغلبيّة ولو كانت 51 بالمئة وبين الدستور الذى يتوافق عليه الجميع لكى يرضى ال 49 بحكم ممثلى الـ 51 بالمئة (مثلا). هنالك فرق بين الأغلبيّة الحزبيّة اللازمة للحكم وبين الأغلبيّة الدستوريّة التى تجعل مثل هذا الحكم بالأغلبيّة شرعيَّا، وهى تشمل مبادئ أخرى عديدة غير الحكم بالأغلبيّة، ومنها بموجب أى مبادئ تحكم الأغلبيّة،وبحيث يصبح انتقال السلطة من أغلبيّة إلى أخرى فى الانتخابات عمليّةً طبيعيّةً وليست ثورة. فانتقال السلطة فى النظام الديمقراطى ليست ثورة لأن المبادئ الدستورية متفق عليها بين الأحزاب التى تتداول السلطة. ولو أتى كل حزب يصل إلى السلطة بالأغلبيّة بمبادئ دستوريّة جديدة لأصبح كل تبادل سلمى للسلطة عبارة عن ثورة.

الديمقراطية بين الصندوق والقيمة

دور النخبة العربيّة والثّورة..لماذا تتمسك بعض النخب العربيّة بمقولات مثل الديمقراطيّة التشاركيّة واعتبار أنّ الديمقراطيّة قيمة لا صندوق، الأمر الذى يذكر بموقف بعض الإسلاميين والنظر إلى الديمقراطيّة بحسبانها صندوقًا فقط لا قيمة.. كيف تفكك وعى النخبة إزاء الربيع الشعبى وبعضهم يقدم الارتهان للإرادة الشعبيّة بحسبانه فعلًا موجه ضد التنوير والحداثة، وبعضهم تحدث عن انتخابات ذات مستويات..والبعض الآخر تحدث عن جدوى الذهاب بالدستور للشعب نفسه..أسأل عن النخبة والثّورة والجماهير؟؟

يتعلق هذا بإجابتى على السؤال السابق. الموضوع هو ليس التشاركيّة، ولا المحاصصة بل الإجماع أو التوافق اللازم للحكم بالأغلبيّة وليس الحكم بالتشاركيّة، وهذا هو ليس التوافقية أو ما يسمى بالديمقراطيات التوافقيّة. فهذه تقوم على منح حصص تمثيليّة لهويّات ثقافيّة أو إثنيّة أو قوميّة أو غيرها. ليس هذا هو المقصود بالتوافق على الدستور. فنحن نتحدث هنا عن أغلبيّة المواطنين وليس عن الأغلبيّة الدينيّة وليس الأغلبيّة القوميّة أو الأغلبيّة الطائفيّة التى بموجبها لا يولد الإنسان ويموت ويقضى حياته جزءاً من الأغلبيّة أو جزءاً من الأقليّة، إنها أغلبيّة متغيّرة ناجمة عن تغيرات فى المصالح، وفى القناعات والأفكار، وأيضًا ناجمة عن ائتلافات وتحالفات وتوازنات متغيرة. ولكن ليس بالضرورة أن تكون تشاركيّة، أى ليس بالضرورة أن يشارك الجميع فى الحكم، ولكن يجب أن ينشأ اتفاق بين الجميع على أسس الحكم ومبادئه لكى يصبح ممكنًا أن تحكم أغلبيّة صغيرة بغض النظر عن هويّة الحزب الحاكم، لأن هنالك ثقة أنها تحكم بموجب مبادئ راسخة وعامّة ومتوافق عليها. وعندما تأتى اللحظة التاريخيّة لتغيير هذه المبادئ الدستوريّة فإن هذا أيضًا لا يتم بأغلبيّة حزبيّة بسيطة وإنما تنشأ الحاجة لخلق توافقات جديدة، وهذه الحاجة لا تحصل بنفس الوتيرة التى تحصل فيها الانتخابات البرلمانيّة. فليست كل أكثريّة برلمانيّة جديدة تحدث تغييرًا فى الدساتير. وإلا كما قلت فى إجابتى على السؤال السابق: يتحول كل تغيير حكم إلى انقلاب وإلى ثورة.

يمكنك بحق أن تطلب من المثقفين أو من النخبة أن يحترموا الأغلبيّة التى تظهر فى الصناديق بعد انتخابات متساويّة وعامّة وسريّة. ولكنَّ التوافق يجب أن يكون على الأسس التى بموجبها تجرى هذه الانتخابات والمبادئ التى يجب أن يحترمها الفائز إذا فاز، بحيث لا يكون من حقه مثلًا اضطهاد المواطن، أو المس بحقوق الإنسان، أو التمييز ضد المرأة، أو ضد الأقليات، أو الامتناع عن إجراء انتخابات فى المرة القادمة لأن ذلك يروق له، أو تفصيل قوانين تجعل فوزه محتّمًا فى الانتخابات القادمة أو فرض أيديولوجيّته الحزبيّة بحيث تصبح أيديولوجيّة دولة، أو يستخدم الوزارات الخدميّة والوظائف فى الدّولة لكى يحقق مكاسب حزبيّة. لهذا توجد مجموعة مبادئ وتقوم عليها آليات تسن قوانين فى خدمة هذه المبادئ أو تمنع قوانين تخرق هذه المبادئ. أما النخبوى غير الديمقراطى الذي يتحدث بشكل عام عن جهل الأغلبيّة ويربط بين درجة الثقافة وحق التصويت فإنّه يعيش فى بدايات الديمقراطيّة الأوروبيّة وتحديدًا الإنجليزية فى القرن السابع عشر والثامن عشر. لا يمكننا أن نمر بنفس المسار التاريخى الذى مرت به أوروبا من جديد، فحرمت مثلًا النساء من التصويت، وحرمت العمال الأجراء من حق الاقتراع. ولا أريد أن أفصّل كيف تطورت الديمقراطيّة البرلمانيّة فى بريطانيا، وما الفرق بينها وبين الفرنسية، ولقد تطرقت إلى ذلك فى كتابى فى المسألة العربيّة: «مقدمة لبيان ديمقراطى عربي»، وسوف أتطرق لها لاحقًا فى الجزء الثانى من كتابى عن «الدين والعلمانيّة فى سياق تاريخى».

ولكنى أقول لكم باختصار أنّه لا يمكننا اليوم إلا أن نطبّق الديمقراطيّة الليبراليّة جاهزة وكاملة، (لا الليبرالية وحدها دون ديمقراطية، ولا حكم ممثلى الأغلبية فى الصناديق وحده)، و أقصد بمبادئها الرئيسيّة. فنحن لا يمكننا إلا أن نطبق الديمقراطيّة كحكم غالبيّة ممثلى الشعب أو حكم ممثليه المنتخبين بالأغلبيّة (حسب النظام) وذلك بموجب مبادئ ديمقراطيّة هى تشمل الحريات المدنية وغير ذلك. والسؤال حول تعارض ذلك مع الثقافة السائدة فى المجتمع وحتى ثقافة الأغلبيّة هو سؤال مهم وناقشته كما قلت لك فى إطار عوائق التحول الديمقراطى فى كتابى فى المسألة العربيّة، ولكنّه ليس سؤالًا يمنع تطبيق الديمقراطيّة، بل يحفزنا على التساؤل فى كيفيّة التأثير بالثقافة الديمقراطيّة. ولدى رأى هو أن الثقافة تتغير وتتأثر بنظام الحكم الديمقراطى أكثر مما تمنع قيامه، وأن المواطنة تمارس ولا يمكن التثقف بها نظريًّا من دون ممارستها. وأنا أدرك أن هذه قضيّة تحتاج إلى وقت، ولكن هذه من مهام عمليّة التحوّل الديمقراطى التى يجب أن ننتبه لها، والتى تختلف من دولة إلى أخرى. إن تحقيق الديمقراطيّة وبناءها ونشر الثقافة الديمقراطيّة فى المجتمع بعد حقبة الاستبداد هى مهمةٌ نضاليّةٌ تبقى مركزيةٌ حتى بعد الإطاحة بحكم الاستبداد، وهى تتم عبر المشاركة وليس الإقصاء.

الإصلاحية والثورية تفكيك ثنائية اللينينية

«الثوريّة والإصلاحيّة» يتم التصدى لهما معرفيًّا بحسبانهما النقيضان اللذين يلازمان كل ثورة. هذا الفصام بين الفكرتين هل هو دقيق؟ كيف عبر الاصطلاحيون والثوريون عن نفسهما لاسيّما أن معظم من شارك فى الثّورة المصريّة كان إصلاحيًّا وثوريًّا فى آن؟؟

لقد حاولت فى كتاب المسألة العربية أن أفنّد الفصل بين الإصلاح والثّورة الذى صنعه لينين فى نقاشه مع الاشتراكيين الديمقراطيين وجعل التحول فى أنظمة الحكم يقتصر على الطريق الثّوري. لقد قلت أن هذا جمود عقائدى لا علاقة له بالواقع، وأن ما نشهده بالتاريخ هو أن الثّورات مضطرّة أن تقوم بعمليّات إصلاح واسعة، فالثّورة من دون إصلاح فى بنيان النظام والمجتمع تتحول إلى عمليّة نسف عدميّة لا تُبقى ولا تذر كما حصل فى حالات نعرفها فى أوروبا والشرق الأقصى. أما الإصلاح فمن الممكن إذا أُحسن استغلاله من قبل المعارضات السياسيّة المنظمة أن يقود إلى تغيير نظام الحكم فى الواقع، وكأنه ثورة سلميّة متدرجة. وما حصل فى أوروبا الشرقية كتغيير ثورى بدأ بإصلاح، وهذا ما حصل أيضًا فى دول عديدة فى أمريكا اللاتينية. ومن الممكن تخيل إصلاح يفلت فيه زمام المبادرة من أيدى النظام الحاكم بالتدريج ويتحول إلى تغيير  لنظام الحكم. هذا لم يحصل فى المنطقة العربيّة ولكن لا مانع أن يحصل مستقبلًا. فمثلًا أنا كنت أتمنى أن يتم تغيير النظام، فى سوريّا بالإصلاح، ولو كان من فوق، طالما هدف الشعب هو تغيير النظام ولكن بشكل تدريجى يكفل عدم وقوع شروخ اجتماعيّة واقتتال أهلى، والثمن الباهظ الذى قد يدفع نتيجة القتل والدمار والتدخل فى سيادة سوريا مستقبلًا كما حصل فى ليبيا. ولكن هذه الأنظمة لم تترك للشعوب خيارات أخرى.

لقد كتبت كتابى فى المسألة العربيّة قبل أربع سنوات بالضبط من نشوء الثّورات، وكنت أشدد على إمكانيّة الإصلاح وشروطه لكى يقود إلى ثورة مبرزًا أن الإصلاح الذى تم عربيًّا فى الثمانينيات فى دول مثل مصر (1984)، واليمن والبحرين، والأردن بقى إصلاحًا شكليًّا لم يقد إلى ثورة، ولم يفلت فيه زمام المبادرة من يد النظام الذى بادر إلى الإصلاح. أى أن الإصلاح بتقييمه التاريخى فى تلك الحالة كان محاولة ناجعة نسبيًّا فى احتواء المعارضة وانتفاضات الخبز التى نشبت فى تلك الفترة. ومن هنا نشأ شك القوى المعارضة والثوريّة بفكرة الإصلاح، ولكنى طرحت الإصلاح من نوع آخر كخيار تستغله قوى ثورية ديمقراطية منظمة، ولكن مسألة نظام الحكم طرحت على كل حال، ولا بد من التعامل معها سواء بالثورة التى تقود إلى إصلاح، أو الإصلاح الذى يقود إلى ثورة.

الثورات ونزعات الانعزال القطرى:

هل الديمقراطية (حكم الشعب) داخل الدّولة القطريّة العربيّة ستزيد من غربة القوميّة العربيّة أكثر..أم لا..باعتبار أن الديمقراطية ستعمل على إحياء المركب الهوياتى الوطنى..وهو ما سيزيد من نزعة الانعزال كما كان حادثًا إبان استبداد ما قبل الربيع العربى؟

لقد أشرت إلى ذلك فى مقالاتى بداية عن الثّورة المصريّة، ونبهت الإخوة الذين يرون بالقوميّة العربيّة أيديولوجيا، مثل الذين يرون بالإسلام أيديولوجيا، ومثل الذين يحولون مفهوم الأمّة أصلًا إلى أيديولوجيا سواء كانت أمّة عربيّة أو إسلامية. إن الثّورة نفسها وضرورات بناء الديمقراطيّة سوف تقود بشكل طبيعى إلى التأكيد على الدّولة الوطنيّة، إذ لا يمكن أن تبنى دولة ديمقراطيّة دون التأكيد على المواطنة فى الدّولة، والمواطنة فى النهاية هى مواطنة فى الدّولة القطريّة وليس فى الأمّة. والأمر الثانى هو أنه لا يمكن أن تبنى ديمقراطيّة دون التأكيد على شرعيّة الدّولة من دون أن يعنى ذلك الانتقاص من شرعيّة الأمّة.

ماذا أقصد من هذا؟ أقصد أنه فى الممارسة، وهذا ما يجرى فى الواقع، سيصبح المواطن العربى أكثر مصريّة، وأكثر عروبة فى الوقت ذاته، ولا تناقض بين الأمرين. وهو سيصبح أكثر مصريّة لأنه سيؤكد على حقوقه بناءً على المواطنة المصريّة، وهو سيصبح أكثر عروبة لأن الثّورة انتشرت عربيًّا باللغة والوجدان العربي، ولأنه سيصبح أكثر حرية فى التعبير عن هويته ومشاعره، وهى عربيّة. ولأن سياسة بلده ستكون أكثر توافقًا مع ما يمكن تسميته حاليًّا بالرّأى العام العربى، ومع قضايا الأمّة. كما يتعلق هذا أيضًا بانتشار وسائل الاتصال الاجتماعى، ووسائل الاتصال التقليدية ودخولها إلى كافة البيوت وازدياد درجة التسييس عند الجمهور، وكلها تقود إلى اهتمام أكثر بالقضايا المحليّة والقضايا العربيّة فى الوقت ذاته. صحيح أنه تنشأ لغة دارجة بين الشباب هى لغة المواقع الاجتماعيّة، ولكن اذا انتبهت إلى لغة الثّورة المصريّة، ولغة الثّورة التونسيّة، ولغة شباب اليمن وتونس لوجدت أنهم يخاطبون بعضهم بعضًا،ويخاطبون عدسات التلفزة بلغة تحاول الاقتراب إلى الفصحى قدر الإمكان، وهى ما أسمح لنفسى أن أطلق عليها تسمية «لغة المجال العام العربي» أو «لغة الفضاء العام العربي». إنها لغة التواصل ليس بين مختصين، أو جامعات، أو أكاديميين فى مؤتمرات علميّة، بل هى لغة التواصل التلقائى بين المهتمين فى المجال العام من هذه الأمّة فى الدّول العربية المختلفة، والتى تقترب خطوتين من لغة الإعلام العربى وتبتعد خطوتين عن اللهجات العاميّة، ولكنها لا تقطع الصلة باللغتين، بل تبقى قادرة على الإبداع بهما.

إدارة التناقضات العرقية والطائفية والدينية:

بعض الخلاصات العلميّة ترى فى المجتمعات العربيّة مجتمعات بدائيّة لم تنقسم طبقيًّا انقسامًا يهدم التمحور الدينى والطائفى والعرقي، والديمقراطيّة هى النظام الذى يدير النزاعات الطبقيّة المؤسسة على تموضع اقتصادى وسياسي، لماذا لا نوظف الديمقراطيّة، وهى أداة إدارة التناقض لإدارة المكون العرقى والدينى والطائفى بوصفهم الخطر الحقيقى الذى يهدد الوجود العربى بحيث تدخل تلك التكوينات طوعًا فى الجماعة الوطنيّة؟؟

نعم لا بدَّ من استخدام الحجر المكوّن الأساسى فى بنيان الديمقراطيّة، وهو المواطنة من أجل التغلب على الانقسامات الطائفيّة والعشائريّة واختراقها، وأيضا إدارة تنوعها بشكل حكيم. وهذا الاختراق لا يعنى تهديمها، بل يعنى تحييدها من العلاقة بين المواطن والدّولة، وبين المواطنين بصفتهم مواطنين. وقد تنحل بعض هذه الجماعات، ولكن قد ترسخ أخرى متخذة وظائف جديدة.ولا يمكننى فى هذه المقابلة أن أبين لك الفرق، وما هى البنى المعرضة للانحلال، والأخرى التى سوف ترسخ، ولكن ما يهمنى هو تحييدها من العلاقة بين المواطن والدّولة بحيث لا يكون لها علاقة بحقوق المواطن، أو بمساواته أمام القانون. وهذا أمر يجب العمل عليه كثيرًا فى الديمقراطيّة فى مصر وتونس وسوريا، وليبيا، وغيرها.

طبعًا القضيّة ليست فقط قضيّة إلغاء مفهوم الأكثريّة والأقليّة الدينيّة من المعجم السياسى والمعجم الحزبى، فهذا لا يجوز فى دولة ديمقراطيّة أن يتحدث زعيمها أو حزب حاكم فيها بلغة «نحن» ولا يقصد بذلك المصريين بل المسيحيون أو المسلمون أو السنة أو الشيعة. هذا مرفوض. ولكن هنالك مشاكل معقدة أخرى مثل الانتماءات القبليّة فى ليبيا واليمن، ومحاولات إعادة مفهوم العشائر فى سوريا، والعراق، إضافة إلى المذاهب التى تحولت إلى طوائف تفتت الانتماء العربي. هذا كله مرفوض. وأنا أقول لك أنّه فى النهاية حين يقرأ مواطن مصرى الدستور يجب أن يجد نفسه فيه، لا أن يجد نفسه ضيفًا فيه. وعندما أسمع مسؤولًا مصريًّا يقول أعطينا الأقباط كذا وكذا من الحقوق فإن هذا بحد ذاته يعنى أن هذا السياسى المصرى لا زال خارج العصر، وخارج الديمقراطيّة، فلا هو فى وضع يسمح فيه لنفسه بأن يقول أعطينا. فهو لا يملك الدّولة ولا يملك الحقوق والـ «نا» فى أعطينا لا تتعلق بالمصريين، فهو يقصد الطرف الذى أعطى، وهو بالتأكيد غير الطرف الذى تلقى. أما فى الديمقراطيّة فالذى يُعطى هو الذى يتلقى. لا فرق بينهما. لأنّها عمليّة تجرى فى إطار فهم الدولة- الأمة والمواطنة، والسياسى فيها هو ممثل للشعب وليس لطائفة، وهو لا يعطى أصلًا. (ولا يمنح «مكرمات» كما يفعل الملوك العرب وكأنهم يعطون من جيوبهم)، ولا الطائفة تعطي، بل  يقوم بدور أو بوظيفة فى إطار فهمه لتمثيل مصالح المواطنين وبرنامجه السياسى المعبر عن فهمه هذا. لا أحد يعطى، ولا أحد يأخذ. ولا أحد أيضًا يتسامح مع أحد، فليس للدولة هويّة دينيّة تتسامح مع ديانات أخرى، إذ يفترض أن يتساوى المواطنون بدياناتهم وعقائدهم أمام الدّولة. هذا هو حال الديمقراطية فى عصرنا (خلافا لبداياتها). إن نقاشاتنا المختلفة وحواراتنا التى نحاول أن  نقودها بحكمة لكى لا تتحول الخلافات السياسيّة إلى شروخ مجتمعية يجب ألا تمنعنا من توضيح مفاهيم الديمقراطيّة والمواطنة المعاصرة، والعمل من أجل تحقيقها.

الأديان والمجال العام:

هل ترى أن مفهوم الدّولة الدينيّة قابل للإحياء من رقاده التاريخى الكاثوليكى الأوروبى القروسطى، حيث يروج المصطلح حاليًّا داخل المناكفات بين التيارات.. هنا أسأل عن الطبيعة التاريخيّة والتكوينيّة بين المسيحيّة والإسلام.. إذا كانت المسيحيّة تقبل بعلمنة المجال العام بحكم أن الدين والمسيح يتجلى فى المجال الخاص، وهى الكنيسة واللاهوت المحمى بالأسرار الكهنوتيّة..فماذا عن الإسلام الذى يتجلى فى المجال العام (جعلت لى الأرض مسجدًا) ليس لها مجال خاص تديينى؟

ترتبط إجابتى على هذا السّؤال بالسّؤال السابق، ولا يمكننى أن أتوسع فى الاجابة عليها، إذ يمكنك أن تتخيل صعوبة ذلك عند من يكتب كتابًا كاملًا حول هذا السؤال. على كل حال لا يوجد دين من دون تدين. هذا بالنسبة لنهاية سؤالك. ولا أرى الفرق الجوهرى بين المسيحيّة والإسلام فيما يتعلق بالديمقراطيّة. فليس للديمقراطيّة دين ولا أيديولوجية. قد يكون هنالك دين للحكام، وأيديولوجية للحاكم، ولكن ليس للديمقراطيّة. والديمقراطيّة ليست نظام حكم مسيحى، ولا نظام حكم إسلامي، يجب أن يكون هذا واضحًا. وأصلًا لا أعتقد أن هنالك نظام حكم مسيحى، ونظام حكم إسلامى، رغم أنّه كانت هنالك دول مسيحيّة تحكم بشرعيّة الدين والكنيسة فى مراحل معيّنة من العصر الوسيط، وكذلك دول إسلاميّة. ولكن هذا لا يعنى أنَّه نشأ نظام حكم مسيحى أو إسلامى إلا بصفته نظام حكم المسيحيين أو المسلمين فى مراحل تاريخيّة معيّنة هيمنت فيها الثّقافة الدينيّة كمرجعيّة.

أما بالنّسبة للعلمانيّة فهنالك نقاش بدايته معروفة، ونهايته أيضاً معروفة متعلقة بموقف الدّولة من الدين، ما أسميه بالعلمانيّة الصلبة، ويمكن أن تسميها إذا شئت المتطرّفة أو الراديكاليّة، هى علمانيّة ترى فى الدين دور سلبى فى السّياسة وتحاول أن تبعده عن المجال العام وتسعى إلى حصره فى الحيّز الخاص فى مسألة الخيارات الفرديّة. وقد رأينا أنماطًا من ذلك فى الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة تحديدًا، وفى سياسات أتاتورك الذى رأى أن بناء دولة حديثة يتطلب إخراج المرجعيات الدينيّة من المجال العام. ولكن العلمنة برأيى لم تبدأ بذلك، بل عمليّة العلمنة بدأت بإخضاع الدّولة للدين والمؤسسة الدينية فى خدمتها. أى أننى أبدأ العلمانيّة تاريخيًّا بتفوق الدولة، ورفض الدّولة لمرجعيّة الدين وإصرارها أن تكون هى المرجعيّة الدينيّة. ولكن هذا موضوع طويل، نحن نحتاج إلى وقت لمناقشته، وعلىَّ أن أقدم إجابةً للسياق العربى والإسلامى وهو أن هنالك خيار الذى يمكن تسميته بالعلمانيّة المحايدة أو الرخوة إن شئت أو المعتدلة، والتى لا نُصرُّ حتى على تسميتها بالعلمانيّة، ليس بسبب أنها مذمومة أو أن هذه التسمية خطأ، وإنما نتيجة للتداعيات السلبيّة التى بدأت فى خضم معركة الإصلاح الإسلامى فى الدفاع عن هوية الأمة عند التحديث، ورفض مصطلحات كهذه مع أن الإصلاحيين طرحوا فى الواقع مضامين شبيهة. والمقصود هو تحييد الدّولة فى الشأن الديني، بحيث لا تتخذ الدّولة موقفًا من النشاط الدينى فى المجال العام، وتراه أمرًا طبيعيًّا، بل حق، لا سيّما فى الدّول التى يمكن اعتبار غالبيّة السكان فيها من المتدينين، ولا بدَّ أن يؤثر التدين على خياراتهم الانتخابيّة وغير ذلك. ومن هنا فإنّه لا مجال لمنع الدين من المجال العام من دون فرض ذلك بالقمع وإعادة إنتاج الاستبداد. ولذلك لا تتخذ الدّولة الديمقراطيّة موقفًا سلبيًّا من النشاط الدينى فى المجال العام، ولكنها تمنع استخدام جهاز الدّول فى ذلك،أى أنها تحيّد الدولة وتمنع استخدامها لنشر أفكار دينية، أو لفرض سلوك دينى معين أو عقيدة دينيّة معيّنة، وهو ما أسميه بالإملاء أو القسر الديني. والإملاء والقسر الدينى برأيى لا يتناقض مع الديمقراطيّة فقط، بل يتناقض مع جوهر الدين باعتباره خيارًا إيمانيًّا، ولا فضل فيه ولا أجر إذا لم يكن كذلك.

الاسلاميون والحكم

هل لديكم إجابة تاريخية لماذا ورث الإسلاميون حكم دول الربيع العربي..هل هى أسباب لوجستية تتعلق بالإمكانات البشرية والمادية فقط؟؟ وهل ذلك هو النتاج الطبيعي؟؟

لا أعتقد أنّه من الصعب العثور على إجابة لسؤالك فهى لم تكن ضائعة يومًا. ولكن إذا كنت تتوقع إجابة حتميّة، فلا توجد إجابة حتميّة، أى لا توجد حتميّة تاريخيّة متعلقة بوصول الإسلاميين للحكم فى دول الربيع العربي. وأكثر من ذلك أعتقد أن الأحزاب الإسلاميّة لا تشكل أغلبيّة فى أى دولة عربيّة إنما هى الحزب أو التيّار الأكثر تنظيمًا والأكثر استثمارًا للثقافة الشعبيّة فى ظل الاستبداد، وذلك لأسباب عديدة متعلقة بثنائية الدّولة والمسجد فى غياب الحرية والمؤسسات المدنيّة الأخرى.

أعتقد أنّه من الطبيعى أن يصل إلى السلطة فى أول انتخابات بعد زوال الاستبداد الحزب الأكثر تنظيمًا، والأكثر شعبيّة فى الوقت ذاته فى ظل انتشار الثقافة الدينيّة، وفى ظل التحريض الذى قامت به هذه الأنظمة ضد التيار الإسلامى، وتخويف الناس والغرب بأنّه البديل لها. وأنا أقصد التيار الإسلامى الحزبى المنظم. مع العلم أن الدّول العربيّة كافّة ودون استثناء استخدمت خطابا إسلاميا دينيا، واستخدمت رجال دين، وبرامج إذاعية وتلفزيونية دينية، واستخدمت حتى تيارات إسلامية تدعو إلى طاعة ولى الأمر ضد التّيار الحزبى الدينى. ولكن الملفت هو ليس وصوله إلى أغلبيّة انتخابية أو ما يقترب من أغلبيّة انتخابية بل صعود تيارات كثيرة أخرى كانت مقموعة فى ظل هذه الثنائية بين النظام والتيارات الإسلامية، ولم تجد تعبيرًا حرًّا عن ذاتها. والجميع تفاجأ بقوة وحجم التيارات المعارضة لدولة الاستبداد، ومن خارج التيار الإسلامى أيضًا. وبرأيى سوف يزداد غنى الخارطة السياسيّة الحزبيّة والفكريّة العربيّة مستقبلًا بتنوعات لم تُعرف فى السابق. وبرأيى ستتغير طبيعة التيارات الإسلاميّة ذاتها بانتقالها من فترة المعارضة إلى فترة السلطة، وهذه هى الأمور الأهم حاليًّا.

الدولة الوطنية الدستورية

الدكتور محمد مرسى تحدث عن دولة وطنية دستوريّة..وليس دولة الفكرة أو الدّولة الإسلامية كما كان شائعًا فى أدبيات الإخوان .. هل هو التدجين السلطوى للأفكار المثالية أم التجديد؟

بالنسبة لمرسى ليس هنالك حاجة لأن نسمى هذا تدجينًا سلطويًّا، وإنما هو تغيير طبيعى ناجم عن تطوّر فكر الإخوان المسلمين فى العقد الأخير بما يتوافق مع متطلبات العمل السياسى، وتطلّع الشعب المصرى والشعوب العربيّة الأخرى إلى الديمقراطيّة. لم يحصل التغيير فقط عند الوصول إلى السلطة، بل طرأ تغيير تدريجى بعد فترة المواجهات المسلحة بين الجماعات الإسلاميّة على أنواعها والدّولة فى الثمانينيات والتسعينيات، وبعد فشل قصّة الغرام والانتقام بين الإخوان والسادات، وعدم تمكن نظام مبارك من احتواء الإخوان المسلمين، وعدم طرحه لأى صيغة تسوية تشركهم فى الحكم، طرأ تغيّر على الخطاب السياسى للإخوان المسلمين بما يتطلبه العمل فى النقابات ومؤسسات مجتمعية أخرى، وبما يتوافق مع تطلعات الشعب المصرى كما قلت. وبرأيى ظل شعار «الإسلام هو الحل» وغيرها من الشعارات مثل «حكم الشريعة» وغيرها شعارات عصبويّة لها تأثير سلبى على الثقافة السياسيّة للمجتمع لأنّها تعبئ الناس على مضامين غير معروفة لهم، وتحوّل الدين إلى شعارات حزبيّة عصبويّة. وما زالت هنالك نزعة لاتهام من يخالف الحزب الإسلامى أيًا كان بمخالفة الدين، وهى تهمة خطيرة فى مجتمعات مدنيّة. ولكن على كل حال حصل تغيير فى فكر الإخوان المسلمين، وأعتقد أنّه إيجابي، و سوف يتعمق أكثر فى المستقبل، وسيحصل ذلك بالتدريج من دون انقلاب. ودليلى على ذلك هو أن كل من حصل له تحوّل جذرى فى فكره وجد نفسه خارج الإخوان المسلمين ولم يتمكن من تغييرهم. حصل هذا مع مجموعة حزب الوسط فى الماضي، وحصل هذا مع أحد المؤسسين الحقيقيين للجماعة بوضعها الحالى بعد فترات الملاحقة والسجون وهو عبد المنعم أبو الفتوح، وحصل ذلك مع شباب الثّورة الذين يسمون أنفسهم بالتّيار المصري. ولذلك من يتوقع انقلاب فى فكر الجماعة مخطئ، وسيحصل التحول والتغيير بالتدريج.

وبرأيى هنالك خيارات ثلاثة أمامهم، أن لا يتغيروا، وبالتالى أن يصطدموا مع نظام الحكم الديمقراطي، ونحن رأينا حساسيّة المصريين الآن لحقوقهم المدنيّة والسياسيّة. أو أن يتغيّروا، وقد يكون التغيير قسريًّا نتيجة لفشل أو يكون التغيير تدريجيًّا يتم فيه احتواء الأفكار المخالفة، وأنت تعلم أن كل من يعمل احتواء للأفكار المخالفة يتغير هو بذاته لكى يتمكن من التوافق. ولكنى لا أرى إمكانية أن يقيم الإخوان المسلمون نظام حكم إسلامى بالمعنى الذى كانوا يقصدونه بالماضي، أما إذا كان المقصود بنظام الحكم الإسلامى هو بشكل عام نظام حكم عادل فهذا أمر آخر.

الإسلاميون

الإسلاميّون والثّورة..هناك رأى بحسب الثنائيّة الإصلاحيّة والثوريّة أن حركة الإخوان هى حركة إصلاحيّة.. وبحسب البنا فإن منطق التغيير يبدأ من الفرد مرورًا بالمجتمع انتهاء بالدّولة.. وهناك رأى يقول إن مشاركتهم تمت وفق تقديرات الواقع لا النظريّة..كذلك السلفيون الذى يعتمدون منطق الدّعوة والوعظ التبشيرى الطهورى إطارًا للتغيير ولهم موقف مبدئى وفقهى من الثّورة..لكنهم التحقوا..حتى الحركات الجهادية كانت تؤكد على التغيير المسلح وليس على الثّورة الشعبيّة كيف ترى الأمر..؟

لم تكن حركة الإخوان المسلمون فى يوم من الأيام حركة ثوريّة، وهم لم يستخدموا هذه المصطلحات أصلًا، ولم يروا فيها مصطلحات إيجابية فى الماضي. والحركة لم تتوقف كثيرًا عند هذه المسائل، ولكنها بالمجمل حركة تغيير اجتماعى إصلاحيّة تسعى لتغيير الدّولة عبر تغيير المجتمع. وأعتقد أنها رغم تسييسها ودخولها فى العمل السياسى فى الفترة ما بين الحربين، إلا أنها ظلت ترى أن العمل الاجتماعى الدعوى هو الأساس. وحتى مرحلة السيد قطب لم يكن لديها مانع على الإطلاق من صنع تسويات وحلول وسط مع الحاكم المسلم، وبرأيى حتى المشاركة فى السلطة. ورأينا نماذج من ذلك فى الأردن فى السابق، كما نرى الآن نماذج من ذلك فى المغرب، والأمثلة عديدة.

تعرفون أن التحول حصل من قبل الأنظمة، ومن قبل الحركة فى أيام السيد قطب وغيره من المفكرين الإسلاميين الذين لم يتوانوا عن الحكم على المجتمع المسلم بأنّه جاهلى أو عن تكفير الحاكم المسلم وغيرها من الأمور التى لا مجال للخوض فيها الآن، ولكن فى كل الحالات لم تكن الحركة الإسلاميّة يوميًا حركة ثوريّة، فهى فى مراحلها الأوّلى حركة إصلاحيّة، وفى مراحل أخرى قصيرة حركة انقلابيّة أو جهاديّة، ولكنها لم تكن حركة ثوريّة بمعنى أن تراهن على حركة مجمل المجتمع بإسلامييه وغير إسلامييه ضد نظام الحكم فى سعيهم لتغييره، ليس من منطلق كونه كافر، أو غير دينى بشكل كافوليس من أجل تطبيق الشريعة، وإنما ضد الاستبداد تحديدًا. هذا أمر جديد لم تبادر إليه الحركة الإسلاميّة، ولا كان بإمكانها أن تطلق شرارة الثّورة، ولو أعلنت النفير فى أى بلد لما انضم المجتمع بكامله لهذه الدعوة، ولشرخت المجتمع أو قسّمته. ومن هنا لا شكَّ أنّها فى البداية لم تفهم ما يجرى فى تونس، ثم انضمّت بقوة وأدركت خلال الثّورة أنها ثورة، وقد وثقت ذلك فى كتابى الثّورة التونسيّة المجيدة، أن أول من أدرك أنّها ثورة فى تونس وطالب باستمرارها لإسقاط النظام هم الشباب، ومنظمات حقوقيّة، واليسار، وبالذات حزب العمال الشيوعى التونسى، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، أى حزب المنصف المرزوقي. ولكن النهضة شاركت دون أن تدرى أنّها أمام ظاهرة جديدة هى الثّورة، وبالطبع أدركت ذلك فى النهاية وخرجت بجماهيرها للمساهمة فيها. وحصل ذلك فى مصر بعد أن كانت تجربة تونس ماثلة، فكان من الممكن الحكم على ما يجرى فى مصر أنّه ثورة، ولكن علينا التمييز بين شباب الإخوان المندمجين فى المجتمع مع المسلمين وغير الإسلاميين، وبين تنظيم الإخوان الذى تردّد وساوم واعتبر أن الثّورة هى مناسبة للدخول فى حوار مع النظام للدخول فى الحكم. هذا هو الأمر الطبيعى لأحزاب معارضة شبه شرعية أو نصف شرعية، وهذا ما أصاب الأحزاب فى سوريا فى مرحلة من المراحل.

فيما عدا كون الإخوان المسلمين حركة إصلاحية لا تهدف إلى ثورة، علينا أن نتفهم أن الأحزاب الملاحقة لعقود قليلة تعتبر أن تلبية النظام لمطالب كانت تعتبر حلمًا فى الماضى إنجازًا، هذه ليست انتهازية ولا توانٍ، بل هو أمر طبيعى عند مثل هذه الحركات. ولذلك أعتقد أنّه لو كان النظام السورى مثلًا جاهزًا للحوار فى الأشهر الأولى من الثّورة، وكان لديه فعلًا ما يقدمه لما توانت برأيى الحركات الإسلاميّة عن محاورته. فثمة تجارب أليمة ومحنة حقيقية مرّت بها هذه الحركات تجعلها لا تتسرع بشأن المواجهة مع الأنظمة. أما بالنسبة للسلفيين فالموضوع واسع ويحتاج إلى تطويل هذه المقابلة إلى دراسة كاملة. ولكنهم بالمجمل (وفيما عدا استثناءات) وقفوا ضد الثورات، وهم يحاولون الآن بنجاح متفاوت دخول الساحة السياسية البرلمانية بعد عزلة طويلة عن السياسة العامة. وهذا ليس بالأمر السهل، سوف يحتاج إلى تغييرات جذرية فى نظرتهم للمجتمع والدولة.

فى تونس كانت هناك نخبة مهجرية إسلاميّة متطورة، ونخبة سجن منعزلة تقريبًا كيف ترى التلاقى ولأى اتجاه حسم الخيار الفكرى فى تونس؟

يصعب التمييز فى تونس بين النخب الإسلاميّة المهجرية، والنخب الإسلاميّة التى كانت فى الداخل وعاشت فى السجون. فأنت تجد متطرفين وبراجماتيين، أيديولوجيين وعمليين فى المجموعتين. فأنا أعرف ممن جلسوا فى السجن لمدة سبعة عشر عامًا وهم حتى أكثر انفتاحًا فكريًّا من الغنوشى، وأعرف العكس أيضًا. لذلك لا أرى أن هذا التقسيم يساعد على فهم ما يجرى فى الحركة الإسلاميّة فى تونس، ولكن هنالك أمر يساعدنا فى فهم ما يجرى فى تونس ومصر، وفى سوريا وغيرها لم أذكره فى الأجوبة على الأسئلة السابقة وأود أن أتطرّق إليه هنا وهو أنّه فيما عدا التأثير العملانى لممارسة الحكم والسلطة وإدارة المجتمع الذى سيطرأ على فكر وسياسة حركة الإخوان المسلمين فى هذه البلدان، وغيرها فإن وجود منافس بصورة الحركات السلفيّة وغيرها تؤثر بشكل معاكس، إذ إنها تدفع هذه الحركات للتمسك بأيديولوجيتها، ولعدم المرونة خوفًا من أن تتهم بالتخلى عن الشريعة، وأن تفقد أصواتًا للحركات السلفيّة فى الانتخابات،لاسيّما بعد أن قررت هذه الحركات خوض الانتخابات. وأعتقد أن هذا الخوف هو خوف وهمي، فما سوف يسهم فى نجاح أو فشل أى تيار هو قدرته على تقديم إجابات على قضايا المجتمع فى مرحلة التّحول الديمقراطي، وليس مدى تمسكه بشعاراته الأيديولوجية، ولا يمكن للتيارات السلفية ان تحكم شعوبا خرجت تطالب بحقوق مدنية.

المؤسسة الدينية والثورة

المؤسسة الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة تفاوتت فى سرعتها التحاقًا بالثّورة، هل للبنية المحافظة لكليهما أم لاشتراطات السلطة والخوف من القفز فى الفراغ الثوري؟؟

هذا صحيح، وأين سمعت أصلًا عن مؤسّسة دينيّة بمعنى وسيط بين النّص المقدّس والدّولة، وبين الدّولة والرعيّة، انضمت إلى ثورة. هذا من طبيعة المؤسّسة الدينيّة أن تقبل واقع الدّولة كما هي، وفى أفضل الحالات أن تتوسط بينها وبين السماء، أو تقبل الواقع المنفصم بين المقدّس عن الدنيوى وتكيّف نفسها بموجبه. وهذا هو وضع المؤسّسات الدينيّة فى الحداثة التى حين استغنت الدّولة عن استخدامها وجدت لنفسها وظائف أخرى غير الوظائف السابقة، وظلّت تصارع على دورها فى قضايا الأحوال الشخصيّة، إضافة إلى موقفٍ أخلاقيٍّ فى المجال العام، ومهمتها الأصليّة فى إدارة العلاقة مع المقدّس أو ما نسميه بتدبير المقدّس، لا سيّما فى طقوس العبور الهامة لحياة المجتمعات، وفى الشعائر وغيرها.

لم تكن المؤسّسة الدينيّة، سواء كانت مسيحيّة أم إسلاميّة، بعيدةً عن الدّولة فى أى مرحلة من مراحل تطور الدّولة المصريّة الحديثة، ودخلت فى صراعاتٍ هنا وهناك مع محاولات الدّولة تحديد دورها أو استخدامها بشكل سافر لتبرير سياستها. والعلاقة كانت أعقد بالطّبع مع المؤسسّة الكنسيّة التى استفادت من عدم حل مسألة الأقباط كمواطنين متساوين وسكان أصليين فى مصر، إذ تحوّلت الكنيسة فى مرحلة مبارك إلى عنوان للدّولة تخاطب عبره الأقباط، وهذا خطأ كبير يجب أن يصحّح فورًا. والطريق الوحيد من أجل تحقيق المساواة الكاملة فى المجتمع هو عدم التأكيد على الهويّة الإسلاميّة فى مقابل غير الإسلاميين، بحيث يندمج الأقباط فى الحياة الاجتماعيّة كما بدأ يحصل بالفعل منذ مرحلة محمد علي. وانقطعت هذه العمليّة بشكل بائس فى العقود الأخيرة، وأسهم فى ذلك الديماجوجيا الدينيّة للدولة فى مواجهة الحركات الإسلاميّة عبر تملق المشاعر الطائفيّة. وقد قام بذلك ناشطو الحزب الوطنى بشكل أدى إلى تخريب اجتماعي، هذا بالإضافة إلى الخطاب الذى نمّتهُ الجمعيات والحركات السلفية.

على كل حال، فى الوضع القائم حاليًّا فى مصر، لا سيَّما فى مرحلة الصراع الحزبى غير المنضبط بمسؤولية وطنيّة، فاجأتنا المؤسّسات الدينيّة بأن لعبت دورًا أكثر مسؤوليّة من الأحزاب، ليس لأنها أكثر ميلًا إلى الديمقراطية أو دمج المجتمع، بل لأنها أقل قابليّة أن يتحكم التنافس على السلطة بسلوكها. على كل حالٍ، هذا موضوعٌ طويل وسيكون هنالك دور للمؤسسات الدينيّة تلعبه فى المجتمع المصرى لفترة طويلة. ولكنى أعتقد أن البرلمان المنتخب فى المستقبل والرئيس المنتخب، خاصّة بعد تكرار العمليات الانتخابيّة، سوف يقلل من دورهما فى المجال العام على المدى البعيد.

كيف ترى موقف وقدرة النظام المصرى فى إدارة الموقف الإقليمى والعالمى وتشابكاته المصريّة على الصعيد الإسرائيلى وميراث كامب ديفيد، والدولى الأمريكى، وبرنامج المعونة، والمؤسساتى كإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن وصندوق النقد الدولى، وانحيازات الكيانات الدوليّة طبعًا تشاركًا مع دول أمريكا اللاتينيّة والهند وجنوب أفريقيا،ثم أى نموذج برأيك يقارب مصر.. هل التركى ونجاحاته التنموية وعلاقاته المميّزة بالغرب أم الإيرانى وقدراته التوطينيّة للدين وقيمه، ومواقفه الحدية من الغرب وإسرائيل؟ أم ثمة خيار آخر عربي؟

من المبكر الإجابة على هذا السؤال، وأعتقدُ أنّنا سوف نحتاج أن نوليه أهميّة فائقة فى المرحلة القادمة، لأنّه حالما تترسخ قواعد العمليّة السياسيّة فى مصر سواء بالتنافس (أو التوافق أو الجمع بينهما، كما أعتقد أنه سيكون الحال)، فإن مسألة دور مصر الإقليمى والدولى سيكون حاسمًا فيما يتعلق بصياغة هويتها الثقافيّة والسياسة الداخليّة، وأيضًا خياراتها الاقتصاديّة والتنمويّة. هنا أقترح أن يُفكر فى هذا الموضوع جيدًا، فليس بوسع مصر أن تتصدر العالم الإسلامى أو أفريقيا أو دول عدم الانحياز (والحالة الأخيرة لم تعد تشكّل حالة دوليّة حقيقيّة). ولكنها تستطيع أن تتصدر العالم العربى لأن العالم العربى يحتاج إلى مركز ثقل فعلى لكى ينتظم، أى لكى يعود شكل من أشكال النظام العربى حتى قبل أى شكل من أشكال الاتحاد أو الوحدة. العالم العربى بحاجة إلى دور فاعل وقيادى لمصر، ومصر بحاجة إلى العالم العربى لأن قيادتها للعالم العربى ستعود عليها بالمنفعة الاقتصاديّة والتنمية والثقافيّة على مستوى هويتها الداخلية، وأيضًا على مستوى وزنها الدولى الذى سيترجم إلى علاقات تبادل تجارى واقتصادى واستراتيجى وغيره. هذا أمر يجب حسمه، وأعتقد أن المجال الفورى للتأثير، فيه هو السودان وليبيا، وتونس، هذا فضاءٌ مفتوح للتأثير والتأثر وهو جغرافيًّا ملاصق لمصر، وأضيف إليه طبعًا وربما قبل ذل،ك قضية فلسطين.

لم يتوقع أحد من الحزب الذى يصل إلى الحكم فى مصر سواء كان الإخوان أو غيرهم، بالطريقة التى وصل فيها أى بعد فترة المجلس العسكرى الانتقالية، أن يلغى اتفاقيات كامب ديفيد فورا، ولكن الجميع يتوقع منه أن تتصرف مصر كدولة مستقلة ذات سيادة لا تكتفى برفع الحصار عن غزة بشكل كامل، بل تعمل على تسليح غزّة لكى تدافع عن نفسها، وتدعم القضية الفلسطينية بشكلٍ عام فى المحافل العربيّة والدوليّة. لا بدَّ أن تتحول مصر إلى سند للمقاومة العربيّة ضد كل أنواع الاحتلال فى فلسطين وغيرها. وأقصد مصر الديمقراطية التى يساندها رأى عام مصرى قوي، وهو رأى عام عربى جدًا سواء فى نظرة العرب إليه، أو فى نظرته هو للعرب.

لا أستطيع الجزم فيما إذا كان الطريق الذى خطّته قيادات الدّولة حاليًّا فى مصر وتحديدًا مؤسّسة الرئاسة يقود بهذا الاتجاه، ولا شكّ أن الكثيرين تسرعوا باتهام الإخوان بالعمالة لأمريكا وغيرها، والغريب أن تأتى هذه الاتهامات من أطراف لا مانع لديها من أن تتحالف مع الولايات المتحدة، والمستغرب أن تأتى من أفراد دعموا النظام السابق أو تأسفوا عليه. ليس لدى شك أن النظام فى مصر سيكون براجماتيًّا فى تعامله مع القوى العظمى بما فيها الولايات المتحدة، ولكن الأمر المهم هو أن لا يتحول إلى وكيل لمصالح دولة أجنبيّة كما تحول النظام السابق. وهذا لا يمكن أن يحصل فى مصر الثورة، وحتى مبارك نفسه ما كان ليقوم به لو كان يواجه انتخابات حقيقيّة كل أربع سنوات، أو رأى عام حر فعلًا، أو صحافة نقديّة كما هو الحال فى مصر حاليًّا. ولكن لا شك أن محاولة مرسى أن يظهر أن هنالك خيارات لدى مصر، وأنّه بدأ بافتتاح اتصالاته الدوليّة بزيارة للصين فهذا أمر جيد ويُبنى عليه، ولا يجوز برأيى أن يعول كثيرًا على الإطراءات الأمريكية على واقعيته السياسيّة التى تجلّت فى التّوسط فى الحرب على غزة. ويجب أن يكون واضحًا أن مصر منحازة لقضيّة فلسطين، ولقضايا الأمّة عمومًا وليست وسيطًا «يعتمد عليه»، حتى وإن اضطرت إلى القيام بدور الوساطة فى بعض الحالات.

وما أقوله هنا يفترض أن ينطبق على الثورات جميعًا وأنا أراه بشكلٍ أكثر وضوحًا فى حالة تونس التى انتفضت أيضًا على سياسة زين العابدين الخارجيّة، ولا تحمل عبئًا جيوستراتيجيًّا بحجم كامب ديفيد. أما فى ليبيا فبرأيى تُظهر بعض القيادات السياسيّة عدم حصانة وقابليّة للتأثر بالأجندات الأوروبيّة والأمريكيّة، مع أننى واثق بأن الرّأى العام الليبى هو فى العمق عربى إسلامي، ولكن يجب أن تعمل مصر، وأن ترى أن من مهام سياستها الخارجيّة التّعاون مع تونس لمنع تحول ليبيا بنظرها شمالًا بدل أن تندمج فى العالم العربي. فالقذافى لم يكن عروبيًّا بحيث يتم استغلال ذلك بالارتداد على مواقفه المزعومة إلى مواقف مغتربة عن العرب والأفارقة، وإن أسوأ ما قيل من جمل تكاد تكون عنصريّة بحق العرب والفلسطينيين قالها القذافى عندما لم يقبلوا بأجنداته وتوقعاته.

أما بالنّسبة للشق الثانى من سؤالك والمتعلق بالنموذج، فنحن من ناحية لا يجوز أن نخترع العجلة فى مسألة الديمقراطيّة، فهنالك تجربة الشعوب عبر قرنين من الزمن. مبادئ ديمقراطية ترسخت متعلقة بانتخاب السلطة التشريعيّة، واستقلال القضاء، والحفاظ على الحريات المدنيّة، ومفهوم المواطنة المتساوية. وغير ذلك. ومجرد التفكير بأنّه بالإمكان طرح نماذج تتضمن أفكارًا مناقضة لهذه بحججٍ متعلقة بالأصالة والخصوصيّة هو ديماجوجيا للتغطية على منهجٍ معادٍ للديمقراطيّة. المطلوب هو إضفاء طابع الوطنى على النموذج السياسى فى أمورٍ أخرى متعلقة بظروف وثقافة البلد، وهى كثيرة. ولهذا أيضًا يختلف النموذج التركى عن الماليزى والإندونيسى، والبرازيلى، وغيرها، ولكننا نسميها جميعًا ديمقراطيات بسبب الأمور المشتركة بينها وليس بسبب الفوارق بينها. ولا شكَّ لدى أن مصر وتونس وغيرها سوف يطرحون أيضًا نماذج ديمقراطيّة تحمل خصوصيّة ثقافة هذه البلدان العربيّة. وهذا أمرٌ لا يتم بقرار، ولكنه يحصل تلقائيًّا وتدريجيًّا بسبب طبيعة الفاعلين وثقافتهم وطبيعة البلد وثقافته. ما يحتاج إلى انتباه وحرص هو أن لا يؤثر ذلك على تطبيق أسس ومبادئ الديمقراطيّة الأساسيّة.

الاستعصاء الثورى

كيف ترى الاستعصاء الثورى السورى وانقسام المعارضة قبل النصر، عادة القوى تنقسم فى التمكين لا فى إطار المقاومة..هل انقسام ما قبل الثورة سيؤدى إلى تقسيم ما قبل الثورة. هل إزاحة بشار، وإسقاط النظام يعنى ضمنيًّا تقسيم سوريا..؟ ومن أى منبع أتى بشار بكل هذا العنف؟؟ وما تقييمكم لما حدث فى ليبياواليمن؟ وهل المغرب العربى اكتفى بدروس ثورة تونس ليمارس خلاصًا إصلاحيًّا للعبور من نفق القلق.

جاءت الثورة السورية امتدادًا لثورات الربيع العربيّ التى بدأت من تونس وتشابهت معها فى بعض مفاصل تطورها وصيرورتها قبيل أن تتحول إلى ثورة مسلحّة. لقد انطلقت الحركة الاحتجاجيّة فى سوريا فى ظل نظام استبداد قمعى وفاسد قل مثيله فى القمع بشعارات إصلاحيّة راهنت على إمكانيّة أن يتولى النظام عمليّة الإصلاح السياسيّ التدريجى الذى يضمن إنتاج التحول الديمقراطيّ بصورة هادئّة، وسلسلة تمنع انهيار البيئة الاجتماعيّة فى مجتمع كالمجتمع السوريّ المركب دينيًّا وإثنيًّا، وطائفيًّا. لكن النظام رفض الإصلاح والتغيير، وكانت قناعته الراسخة أن القمع الأمنى والعسكريّ هو الخيار الوحيد فى التعامل مع الحركة الاحتجاجيّة، فارتكب الفظاعات والمجازر ما جعل الناس تسعى إلى تغييره بعد أن رفض أن يتم التغيير بالإصلاح وبقيادته.

كان عمليّة الإصلاح السياسيّ بمثابّة فرصة سانحة لسوريا قيادة وشعبًا من أجل منع اتجاهات كارثيّة معاشّة وانقسامات فرعيّة، لكن القيادة السوريا أضاعت هذه الفرص مرات عدة ونكثت بوعودها الإصلاحيّة على مدى العقد الأخير، وأساءت تقدير اندفاع الشعب السوريّ للتغير، وفضلت القمع وسيلّة بدل احتواء الاحتجاجات، وتفهم المطالب الإصلاحيّة، ومحاسبّة القادة الذى ارتكبوا جرائم ضد المواطنين والمحتجيّن. فتحولت انتفاضّة درعا الجهويّة إلى ثورة شعبيّة عارمة فى مختلف مناطق سوريا رفعت شعار إسقاط النظام. من ثم، تحولت بفعل القمع الوحشى والاعتماد على الحل العسكرى إلى ثورة مسلحة.

لقد اختار النظام المواجهة المسلحة للقضاء على الثورة قبل أن تتسلح. لقد كان هذا الخيار المسلح خيار النظام وليس خيار الثورة.

لم تنجح الجهود والمبادرات السياسية فى إيجاد مخرج سياسى للأزمة. كما أسهم طول الصراع واحتدامه فى بروز مظاهر سلبية رافقت الثورة من اضطرابات طائفية، ومظاهر جنائية عدا عن تنامى دور الجماعات الجهادية والأصولية. ترافق ذلك من غياب قيادة سياسية تمثل الثورة على خلفية استمرار الانقسامات والخلافات بين أقطابها.

كما ازداد نفوذ الدول الأجنبية التى لم تسهم فى دعم الثورة بشكل جدي، ولكنها تتواصل مع أوساط سياسية وفئات مقاتلة على الأرض بناء على أجنداتها.  وهى تسهم فى تفتيت القيادة السياسية والعسكرية، وفى تفكيك حصانتها السيادية ضد التدخل الأجنبى فى بلد تطمع فى موقعه الاستراتيجى ودوره دول غربية حليفة لإسرائيل التى تحتل أراضى سوريا وفلسطين.

تعتبر الثورة السوريا حالة فريدة فى الإقليم لجهة تشابك وتداخل العوامل المؤثرة فيها والتى قد تؤدى إلى سيناريوهات كارثية ما لم يتم التوصل الى حل يضمن ذهاب النظام، وبقاء جهاز الدولة، ويضمن تحولا تدريجيا نحو الديمقراطية من دون اجتثاث. ولكن الثورة السوريا هى ثورة مجيدة بكل معانى الكلمة، وذلك بخروج شعب يدافع عن كرامته وحريته وصموده التاريخى أمام قمع غير مسبوق وصل حد قصفه بالطائرات من قبل جيشه هو. ويمكن تحويل الطاقة الجبارة المادية والمعنوية فى صنع نهضة عظيمة لسوريا وبلاد الشام والأمة العربية، كما يمكن أن تتحول الى طاقة سلبية تفجر ذاتها ووطنها. يتوقف كل شيء على وعى ومسؤولية الفاعلين السياسيين، ونقصد مسؤوليتهم الوطنية عن ثورة أصبحت ثورة وطنية، وعن ديمقراطية مقبلة أصبحت مطلبا وطنيا.

المصدر: مجلة الديمقراطية