تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. خرائط الحرية

2016-08-29

ربما من أكثر المفاهيم إشكاليةً في عالمنا المعاصر، أو في المنطقة العربية عمومًا، يأتي مفهوم الحرية في المراتب الأولى، إلى جانب مفاهيم ومصطلحات حديثة، دخلت إلى الحياة الاجتماعية التي طرأت عليها تغيرات متعددة المشارب، منذ منتصف خمسينيات القرن الفائت، إلى أن وصلت إلى أقصى ذروتها في انتفاضات الربيع العربي، ليصطدم لاحقًا بجدار مصفح من الاستبداد.

المفكر العربي عزمي بشارة، في بحثه الجديد "مقالة في الحرية"، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يتناول مفهوم الحرية، من بوابة الفلسفة النظرية، ضمن سبعة فصول، مقدمًا رؤية نقدية لبعض المقاربات والتواصيف التي ارتبطت مع المصطلح.

يرى بشارة في الفصل الأول، المعنون بـ"دلالات اللفظ ليست غريبة على العربية"، أن النهضويين العرب، حاولوا تمكين بعض التعاريف والتواصيف المرتبطة بالحرية في "التاريخ والفكر الإسلامي بأثر رجعي"، والتي تصل إلى أن فكرة التمكين هذه، جاءت من وجهين، أولهما "تجاهل الليبراليين العرب الأوائل تاريخية هذه الأفكار وحذف سياقات تطورها"، وثانيهما "تأويل الإصلاحيين الإسلاميين الأفكار بشكل يتسق مع العقيدة الإسلامية في حالات، أو تأويل العقيدة كي تتسع لهذه الأفكار".

يمضي بشارة في هذا الفصل قدمًا لمناقشة مفهوم الحريات الشخصية في واقع المجتمع العربي، والتي يلخصها في عصرنا الراهن على أنها حريات "شخصية، مدنية، وسياسية"، مضيفًا أن "موضع الحريات المقصودة كلها في الدولة، لا خارجها"، ويفرد حيزًا مهما في هذا الفصل، في حديثه عن "حرية البداوة"، التي طرحها عبد الله العروي، كون المفهوم في عصرنا الحالي يقدمها على اعتبار أنها "حرية الإرادة عند الأفراد"، رغم أن مفهومها الأدق يأتي من ناحية "عدم التبعية لسلطة خارج سياستها"، لأن مفهوم الحرية في القبيلة ليس فرديًا، بقدر ما يعني انتماء أفرادها إلى "قبيلة حرة"، ومن ثم ينتقل إلى تطور المفهوم لمعنى الحرية، عبر السنين التي تغيرت فيها معالم السياسة العربية، ونشأة الدولة الوطنية الحديثة، التي رافقها صعود الدولة الاستبدادية.

ويأخذ الفصل الثاني من البحث، "ليس الطير حرًا ولا يولد الناس أحرارًا"، منحًا جدليًا منذ بدايته، والذي يؤكد على أن "الطيور ليست حرة"، على عكس ما يصورها الأدب، ويضيف "لا حرية في الطبيعة"، ولا حتى "في الكائنات فوق الطبيعية"، لأن الإنسان وحده من يمتاز بها، فهو كائن أخلاقي وعاقل يستطيع التمييز بين الخير والشر، والخطأ والصواب، رغم أنه "لا يولد حرًا"، لأنها ليست معطًى طبيعيًا، مثل "قدرة البشر على التفكير".

ويعتبر بشارة أن الإنسان يكتسب "الحرية مع نمو الوعي والإرادة"، لأنها صيرورة تبدأ منذ لحظة اكتسابه للقدرات العقلية، فالتحرر من وجهة نظره "عملية ذهنية وعقلية تجعل الحرية في مجال ما حاجة يتوق الإنسان إلى تحقيقها"، ولهذا يعود ويصر على فكرة أن "الإنسان لا يولد حرًا"، وهو ما يقاربه في نهاية الفصل، على أنه "ليس صدفة أن تجتمع الحرية الطبيعية مع العقل"، في الفكر الليبرالي التأسيسي الذي يجعل الفرد يتنازل قليلًا عن حرياته لتكوين الكيان السياسي للمجتمع.

يقدم الفصل الثالث من البحث، "ملاحظات فلسفية لازمة"، والتي يرى فيها أن تأسيس بعض المنظرين لمفهوم الحرية على أسس "كوزمولوجية" هو مأزق فلسفي، لذلك نجد صاحب ثنائية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" يذهب لمناقشة كانط وهايدغر واسبينوزا، وغيرهم الكثير، وفعليًا هذا نقاش آخر، سيفتح أمام القارئ أبوابًا جديدة من التساؤلات، في معظم الأفكار التي يستند إليها البحث.

يخلص بشارة في هذا الفصل إلى أن ازدياد مجالات الحرية جعل استقلال الإنسان يمتلئ بالمضمون، لأنها "تتحول من مفهوم لبنية أنطولوجية عامة للوجود الإنساني إلى شخصية إنسان عيني، له استقلاليته، أي لديه شخصية".

الترا صوت