تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة

2016-09-10

عز الدين التميمي

تبدو العودة إلى مشاريع مثل مشروع المفكر العربي عزمي بشارة في نقد الديمقراطية الإسرائيلية، عودة ضرورية مع النقاش السائد في هذه الفترة، عن تناقض الديمقراطية الليبرالية ومآزقها. وحالة إسرائيل حتى وإن كانت حالة خاصة، فإن فيها أمثلة كثيرة على هذا التناقض.

في كتاب "من يهودية الدولة إلى شارون" (الواقع في 390 صفحة، عن دار الشروق، 2005) استعراض مباشر لمرجعيات هذا التناقض، إذ لا يكتفي بشارة بتقديم مقولة نقد تتعلق بالنظام السياسي الإسرائيلي، ولا بالنظرية الديمقراطية الإسرائيلية، ولكنه يقدم نقدًا فيه ما يجعله نقدًا عمليًا وسياسيًا، وفيه ما يمكن الاستناد إليه نظريًا وفلسفيًا.

يبدو الكتاب من البدء متسقًا مع مشروعه، بأن يقدم بحثًا جديًا، لا يسعى إلى تحويل الإسرائيلي إلى موضوع يمكن تمثيله فحسب، مناكفًا علاقة القوة التي يحوزها الباحث الإسرائيلي في دراسته للمجتمع العربي الفلسطيني. ولا يريد تقديم نموذج معاكس للاستشراق الإسرائيلي فيكتفي بكونه استغرابًا، كما يوضح في المقدمة، بقدر ما يريد تقديم وجهة نظر عربية فلسطينية مفقودة في هذا النقاش. فلا ينظر عزمي بشارة في الكتاب إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي كآخر منفصل كما يفعل البحاثة الغربيون مع المجتمعات الأخرى، ولكن بصفته متعلقًا بمصائر الفلسطينيين وقضيتهم، سواء كمجتمع نقيض، أو باعتباره النموذج العملي والإجرائي لإقصاء الفلسطينيين واستبدالهم. وإذا كان هناك دليل واضح على ما نقوله، فهو أن "في كل موضوع (من مواضيع الكتاب) يحضر العرب والفلسطينيون" (ص8).

الباب الأول

نركز في هذا العرض على الباب الأول (مكون من فصول: 1- تناقضات الديمقراطية اليهودية، 2- دولة يهودية وديمقراطية، 3- دوامة الدين في الدولة تاريخيًّا)، معتقدين أنه تكثيف للمقولة الأساسية للكتاب، وفيما بعد، في أبواب الكتاب الأخرى، سنقدم مجموعة من المقولات المساندة، والتفصيلية التي عرضها الكتاب، والتي تساعد على فهم هذا التكثيف.

يقدم الفصل الأول من هذا الباب، والمعنون بـ "تناقضات الديمقراطية اليهودية"، معلومات عامة عن المجتمع والنظام السياسي الإسرائيلي، تمهد للقارئ أرضية لعرض مقولة الكتاب الأساسية، وتضعه أمام السجالات التي تخوضها الأقلية العربية في إسرائيل. قبل أن يبدأ بتقديم محاججته عن تناقض الديمقراطية الإسرائيلية من خلال مستويين.

المستوى الأول هو أن الديمقراطية الإسرائيلية تخلط بين مفاهيم، يتعارض الربط بينها مع بنية النظرية الديمقراطية، مثل الدين والقومية، إضافة إلى التعريف البدائي للأمة أو الشعب على أساس هجين بين العاملين السابقين. ولا يتعلق هذا الفصل حسب بشارة بالقوانين أو غيرها من تفاصيل نظام الحكم، بقدر ما يتعلق بأساسات الديمقراطية الإسرائيلية، وأساس تناقضاتها، وهو ما يشرحه الكتاب ويصفه باستفاضة. وتندرج تحت هذا المستوى، عوامل أخرى مثل العقيدة الأمنية الإسرائيلية، والثقافة التي تحملها الدولة في إسرائيل كدولة استعمار.

إن انشغال الدولة بالأمن إذن - في مفارقة مهمة- فيه تهديد لبنية الديمقراطية (الصفة الأولى للأمن الاجتماعي حسب المفهوم الليبرالي). لكن التساؤل الذي تطرحه وتجيبه الأحداث الأخيرة في دول أوروبية: هل يقتصر هذا التهديد على الثقافة الاستيطانية فقط؟ ولعل ما حدث مؤخرًا في فرنسا بعد عمليات "إرهابية" يجيب جزئيًّا على هذا التساؤل، إذ تبدو مشكلة تعارض العقيدة الأمنية مع الديمقراطية مشكلة مرتبطة بالدولة الحديثة، لا فقط بالاستعمار. وهذا يجعل الحالة في إسرائيل مضاعفة، إذ يتقاطع الاستعمار مع الدولة الحديثة.

عمومًا فإن هناك مستوى ثانيًا لهذا التناقض حسب بشارة، متعلقًا بيهودية الدولة، فليست إسرائيل ضمن الإصرار على يهوديتها، دولة لكل مواطنيها، لهذا السبب ولأسباب أخرى تفقد المواطنة فيها معناها الأولي الجامع في الدولة القومية الحديثة. ما يعني "أن الدولة ترى لذاتها مهمة أيدولوجية في إقناع هؤلاء -غير اليهود- أن لهم دولة غير الدولة التي يعيشون فيها عليهم أن يبادلوها الولاء وأن ينتقلوا إليها" (ص21).

تعجز الدولة بالتالي عن التخلي عن مهمتها السياسية في تصنيف مواطنيها كفئات مرغوب بهم، أو غير مرغوب بهم، فتعجز أن تلبي شرطًا من شروط الديمقراطية، أي المساواة.

بعد عرض هذا التناقض، يستعرض بشارة في الكتاب اختلاف نموذج الديمقراطية المتناقضة في إسرائيل عن نماذج أخرى معروفة، فهو إذ يرى فيها نموذجًا استعماريًّا، فهو يؤكد أن هذا التناقض ليس تناقض دولة الاستعمار الأم، التي تتغنى بديمقراطيتها بينما تمارس أشكال قمع مختلفة على مستعمراتها، ولكنه نموذج مختلف متعلق بأصل وفكرة الدولة في إسرائيل وبنائها. ويقترح الكتاب فيما بعد مفهمة خاصة لحالة إسرائيل، من خلال ما أظهره من تناقضات وتمييز في تعريفها للأمة والمواطنين، حيث يستخدم مفهوم الأبرتهايد الكولونيالي، الذي يأخذ من نموذج الاستعمار التقليدي، ومن نموذج التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، أسوأ ما فيهما.

فيما بعد يستعرض الكتاب المستوى الأول من هذا التناقض بتفصيل، أي (العلاقة بين الدين والدولة) محاولًا التأريخ له، وتشخيص تأثيره على الديمقراطية الإسرائيلية. فبرغم أن هذه العلاقة كانت متعارضة مع بناء الهويات القومية الجديدة في العالم، مثل الوطن العربي (الذي تشكلت القومية فيه من خلال الصراع مع الإمبراطورية الدينية العثمانية) فقد كانت هذه العلاقة ركنًا من أركان تأسيس الدولة في إسرائيل. ويظهر ذلك في أدبيات إسرائيلية كثيرة تتغنى بالشعب اليهودي، والأمة اليهودية.

الحالة في إسرائيل إذن تطابِق بوضوح بين القومية والدين. فالدين هو مقياس الانتماء إلى هذه الدولة. ولا تتشابه هذه المطابقة مع حالة تأميم الدين أو الشعور الديني، من أجل صياغة رموز وطنية، وهذا موجود في دول مختلفة من العالم. ولكنها مطابقة فريدة جدًا، تُبنى السيادة فيها، ويبنى حق تقرير المصير بحجج ميثولوجية توراتية.

إن السياق الذي تطورت فيه الديمقراطية الإسرائيلية إذن، هو السياق الصهيوني، رغم كل ما يتعلق بهذا التطور من دور الطبقة الوسطى والتعليم والعلاقة مع أوروبا، إلا أنه يظل رهينًا لعناصر مؤسسة من السياق الصهيوني. بالتالي تنوب الصهيونية عن مفهوم المواطنة كرافعة للديمقراطية الإسرائيلية، وكمعيقة لها في نفس الوقت، "فهي في ساعات الأزمات تحديدًا لا تعدو كونها ديمقراطية داخل قبيلة" (ص31).

وتنوب الوظيفة الأيدولوجية عن المواطنة، حيث إن الجامع الوحيد بين فئات إسرائيلية متناقضة، في ظل غياب التاريخ المشترك، هو الانسجام والاتفاق على أن هدف الدولة هو تجميع الهجرات اليهودية. وباختصار ضروري، فإن المقولة التي يريد الكتاب تقديمها هنا، هي عدم جواز فصل يهودية الدولة عن ديمقراطيتها، ضمن السياق التاريخي والاستعماري المذكور. 

حسب بشارة، لا فصل بين ديمقراطية إسرائيل ويهوديتها، لأن لا فصل بين قوميتها ويهوديتها أيضًا، فلم تستطع الدولة في إسرائيل تقديم تعريف للمواطنة يختلف عن تعريف الانتماء إلى دين معين. وبهذا يتشارك موقف العلماني في إسرائيل مع الموقف الذي يتبناه المتدين المتطرف! لأن تعريف اليهودي قوميًّا هو نفسه تعريف اليهودي دينيًّا.

ويختتم الكاتب الباب الأول، بعرض التعريفات المختلفة لعملية العلمنة، وعرض عدم تناسب إسرائيل مع أي من شروط هذه التعريفات واستحقاقاتها. فلم تجر حسب وصف الكتاب أي عملية علمنة في إسرائيل، إلا ظاهريًّا، فتلتقي الحركات القومية المتطرفة، مع توجهات دينية مباشرة، مستخدمة نفس الخطاب والمصطلحات!

يرى بشارة أن الأمة التي تستند إلى المواطنة، هي أمة لدولة لا لمجموعة إثنية أو لدين، وهذا يتناقض مع جوهر الدولة في إسرائيل، التي تعرف نفسها وديمقراطيتها من خلال بعد ديني لا يستند إلى المواطن، ولكن إلى اليهودي. بالتالي "ليس كل مواطن إسرائيلي جزءا من الأمة الإسرائيلية" (ص58)، وفي الوقت نفسه الذي لا تكون فيه إسرائيل دولة ليست لكل مواطنيها، فإنها حسب تعبير بشارة "دولة لمواطنين كثر ليسوا مواطنيها"، في إشارة إلى الأمة اليهودية في العالم. ولعل اللبس الذي يقع فيه قانون العودة، مثال على التطابق الكامل بين مفهوم الدين ومفهوم الأمة.  إذ يفتقر هذا القانون - الذي يتيح لجميع اليهود في العالم الانتماء إلى دولة وأرض ووطن، بينما يحرم فلسطينيين من العودة إلى أراضيهم- إلى تعريف من هو اليهودي؟ وهو حسب الادعاء الأساسي للكتاب، سؤال دينيّ وكل الخلافات حوله خلافات دينية.

فيما بعد يستغرق الكتاب في وصف دور المتدينين المتطرفين في إسرائيل، وصعود مكانتهم السياسية. ويصف دور الأحزاب اليسارية، وتأثير صعود اليمين الإسرائيلي والصراع مع اليسار في البرلمان، ودور كل هذه السجالات في التأكيد على يهودية الديمقراطية الإسرائيلية المتناقضة، والأساسات الدينية التي تقوم عليها.

الباب الثاني

في هذا الباب (مكون من فصل: النزعة الأمنية)، يؤرخ عزمي بشارة للنزعة الأمنية ونشوئها في إسرائيل. إذ يرى بوضوح أن الانشغال الإسرائيلي (الذي سنوضحه لاحقًا) بالأمن، يعيق تشكل ديمقراطية إسرائيلية حقيقية.

فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية تجيء بالأساس من الشعور بالتهديد الدائم، ومن إدراك عميق للجريمة التي قامت بها الحركة الصهيونية ضد الفلسطينيين. وبالتالي فإن مفهوم الأمن والعقيدة الأمنية ليس فقط مجرد خطاب للتجييش ومبرر للضبط، الخ، كما يستخدم هذا الخطاب في العادة. ولكنه شعور حقيقي بخطر وجودي وتهديد دائم. فقيام الدولة في خضم الصراع العربي الإسرائيلي، يجعلها منشغلة بهذا التهديد على وجودها، واستمرار السؤال عن شرعيته، ويجعلها على صلة بعدم تسليم الفلسطينيين ولا العرب بهذا الوجود.

وتأخذ ضرورة الحروب جزءًا أصيلًا من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وهذا على صلة بإدراكهم أن الفلسطينيين والعرب لم يقبلوا بوجودهم أيضًا. إذ إن ضرورة حرب إضافية تجيء من وعي بأن الفلسطينيين بحاجة لهزائم أخرى من أجل الاقتناع بهذا الوجود والاستسلام له. وكان هذا واضحًا كما يقول بشارة في عمليات التصفية على الحدود حتى عام 1956، واستمر هذا المنطق حتى حرب عام 1967. بالتالي فإن الكتاب يؤرخ في البدء للنزعة الأمنية الإسرائيلية من قيام الدولة إلى أولى المعارك التي خاضتها إسرائيل كدولة في الخمسينيات.

إضافة إلى ذلك فقد كان هناك قناعة رائجة عند القادة العسكريين الإسرائيليين، والسياسيين أيضًا، أن الأمن لا يجيء إلا من خلال العنف، ومن خلال إجبار العرب وإقناعهم أن وسائل العنف ضد إسرائيل بلا جدوى. والمفارقة التي نظر إليها قادة مثل شمعون بيرز هي أن السلام يأتي من خلال العنف العسكري وقوة الردع!

والنزعة الأمنية في إسرائيل هي القيمة العليا، رغم استخدام حجة غياب السلام، للتأكيد على ضرورة العنف، لكن استخدام غياب السلام يظل ضمن منطق سجالي لا أكثر، والنزعة الأمنية مرتبطة بأبعاد داخلية في إسرائيل وبنيوية، أكثر من ارتباطها بأبعاد خارجية مثل العلاقة مع الدول الجارة وتقبلها لها.

ما بعد ذلك يتطرق الكتاب إلى الأركان التي تكونت من خلالها العقيدة الأمنية الإسرائيلية. أولًا كما سبق وتطرقنا، أن الحرب ليست خيارًا للإسرائيليين، بقدر إدراكهم أنهم معرضون دائمًا للحرب، وعليهم أن يكونوا مستعدين لها. ثانيًا وإضافة إلى ذلك، تفوق العرب، أي الحاضنة العربية للقضية الفلسطينية، ديمغرافيًا وجغرافيًا واقتصاديًا، ما يجعل إسرائيل بحاجة دائمًا إلى التعويض عن هذا النقص بالتنمية العسكرية والأمنية. وهذا يفسره مفهوم "الأمة بالزيّ العسكري" أي إن كل فرد إسرائيليّ بالغ معرَّض للخدمة في الجيش، وفوق ذلك للمشاركة في الحروب، نتيجة نظام التصنيف الذي تتبعه المؤسسة العسكرية (جيش مهني دائم، جيش إلزامي نظامي، جيش احتياط يشكل جميع المواطنين). فيتعامل المواطن الإسرائيلي مع قضية الأمن بشكل يومي. "ويعيش هاجس الاعتبارات الأمنية باستمرار" (ص99).

والركن الثالث - حسب بشارة- هو إن إسرائيل أدركت أنه لم يعد بإمكانها هزيمة العرب مرة واحدة، وفرض شروطها عليهم، وأن الطريقة الوحيدة هي تحقيق انتصارات متتالية، حتى يتخلص العرب من قناعتهم بإمكانية تحقيق أي إنجاز من خلال العنف. والركن الرابع والأخير، هو ضرورة التحالف مع دولة عظمى واحدة على الأقل، وهذا مرتبط بفهم القائمين على المشروع الصهيوني أن وجودهم في المنطقة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصالح الدول الاستعمارية القديمة الجديدة، وكان هذا واضحًا في نهج هرتسل من البدء.

وحسب الكتاب، لم تبق نظرية "اللا خيار" أو أن الحرب هي الخيار الحتمي والوحيد لإسرائيل، مقنعة وثابتة في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، خاصة بعد فتح مجال لإقامة عمليات تسوية مع العرب، من منتصف السبعينيات. فيما بعد تم نقد حرب إسرائيل في لبنان عام 1982 باعتبارها حربًا إرادية، واختيارية، أي أنها خرجت عن منطق "اللا خيار" المذكور. وكانت مرحلة رابين هي المرحلة التي صارت فيها محاججة بوجود خيار آخر غير الحرب، لكن مرحلة شارون كانت مرحلة "النزعة الأمنية التي تحاول بشكل مهني وبنجاح نسبي إعادة الاعتبار إلى مفهوم "اللا خيار" كخيار مهيمن" (ص170). إضافة إلى ذلك فللنزعة الأمنية أدوار داخلية، مرتبطة بتطوير البنية الداخلية للمجتمع، لا بتوحيده كما هو رائج في الأدبيات العربية، أن الحرب حاجة لتوحيد المجتمع الإسرائيلي.

الباب الثالث

يتطرق الكتاب في هذا الباب (يحوي فصول: 1- الاقتصاد والعولمة والسياسة، 2- بعض جوانب جدلية العولمة إسرائيليًّا)، إلى علاقة إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي مع العولمة. وعلاقة بنية الاقتصاد والتغيرات التي طرأت عليه بالنظرية الأمنية وبالديمقراطية وتناقضها. وهو في سبيل ذلك يهدف إلى تسليط الضوء على آليات تشكل النخب الجديدة في المجتمع الإسرائيلي، معززًا بذلك مقولته عن العلاقة بين النزعة الأمنية والديمقراطية.

إن التناقض بين الانشغال في الأمن والتطور الاقتصادي جليّ في حالة المجتمع الإسرائيلي، كما يوضح بشارة في هذا الباب، إذ أعاق الهوس الأمني وهوس الرغبة بالتطوير العسكري، الوضع الاقتصادي الإسرائيلي، ولولا الدعم الأمريكي في فترات كثيرة لكان الاقتصاد الإسرائيلي مهددًا بالانهيار. لكن ظروفًا كثيرة غيرت هذه الوضعية، مع بدء عملية التسوية في المنطقة وسقوط الاتحاد السوفييتي وظروف أخرى، صارت المصاريف الأمنية أقل، وصار هناك اهتمام بالصناعات المدنية، ما أدى إلى تقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد. وتمكن الإضافة هنا على الظروف التي قدمها الكتاب، أن بداية جديدة لاستثمار في الصناعات العسكرية كانت في إسرائيل في هذه الفترة، بعد أن ترك انهيار الاتحاد السوفييتي فراغًا كبيرًا للدولة الصغرى والصاعدة المستوردة للسلاح، مثل الهند والصين وغيرها، وبعد انتقال جزء من الخبرات العسكرية السوفيتية إلى إسرائيل. 

الأهم أن التحول الحاد في طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي لحقه تحول اجتماعي، إذ سقطت النخب التقليدية التي كانت تستند في نفوذها على الصناعات والنفقات العسكرية، وساهم ذلك بتشكل مجتمع مدني متعارض نسبيًّا مع السياسات الحكومية والنخب القديمة. وكان جلب العمالة الخارجية حاملًا لتغير ليس أقل أيضًا، خاصة عندما يتم مقارنته مع النخبة الصهيونية الأولى التي كان فيها نموذج "اليهودي الجيد" هو نموذج الفلاح، المتقشف. وكان نموذج العمل المثالي مرتبطًا بنموذج العمل العبري (أي فصل العمال اليهود عن غيرهم) والرغبة الدائمة في تهويد الأرض.. إلخ. أما مع هذه التغيرات، صار هناك بمنطق الاقتصاد السياسي صراع بين الأفكار والمنفعة والمؤسسة، صراع أسس لتغيرات اجتماعية حادة.

إضافة إلى ذلك، فقد أدى هذا التطور إلى تعزيز الفجوة بين الفئات الاقتصادية (التي تتقاطع أحيانا مع فئات إثنية ودينية) وصار المجتمع الإسرائيلي، المجتمع الثاني بعد الولايات المتحدة من حيث عدم المساواة الاقتصادية.

بعد ذلك، يتطرق الكتاب إلى تأثير هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية على مقولة الكتاب الأساسية المتعلقة بيهودية الدولة، والديمقراطية اليهودية. إذ يحاجج الكتاب أن العولمة ساهمت بتعزيز هذه اليهودية، وتعزيز مفهوم الأمة بالمنطق المذكور في الباب الأول، الذي لا يستند إلى مواطنة، ولكن يستند إلى صفة دينية. هنا يتم عولمة الهوية اليهودية، بمنطق يجعل إسرائيل في مركز هذه الهوية، فيتخلق تعامل جديد مع إسرائيل، من خلال امتلاكها صفة جديدة كمركز للهوية اليهودية المعلومة في العالم.

البابان الرابع والخامس

في البابين الرابع (مكون من فصول: 1- المنتصر والمهزوم في الانتخابات الإسرائيلية، 2- انتصار الوسط ونهاية حقبة الاستقطاب، 3- تجزئة الهوية الجماعية، 4- إشكال العلمانية والدين في انتخابات العقد الأخير، 5- اليمين واليسار بعد انتخاب باراك) والخامس (فصوله: 1- باراك، 2- سقوط باراك، 3- شارون، 4- صورة السياسي)، يعرض الكاتب صورة عامة عن خريطة الأحزاب، وانقساماتها وأنواعها. والتغيرات التي طرأت عليها وعلى وصولها إلى السلطة، بدءًا من عام 1977 (كان هناك حزب واحد مسيطر قبل ذلك) حيث انقسم بعدها المجتمع الإسرائيلي إلى يمين ويسار، وبينهما أحزاب صغيرة ومتوسطة. ويبدو في هذا الجزء رصدٌ لتأثير هذه التغيرات على مسار الديمقراطية في إسرائيل. وهي تغيرات مرتبطة بالعناصر المذكورة مسبقًا، مثل التغير في التعامل مع نظرية الأمن أو مع الاقتصاد، والتوجهات نحو عملية السلام. ويقدم الكتاب من خلال هذا التتبع رصدًا لنتائج الانتخابات في إسرائيل، ويقرأ مضامينها، ممهدًا لدراسة مقولته فيما بعد بالنسبة لحقبتي باراك وشارون.

في فترة حزب العمل، الحزب الواحد، كانت النخبة أكثر وضوحًا، وتداخلت هذه النخبة مع أجهزة الدولة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. ولم يكن الحديث عن مجتمع مدني إسرائيلي ممكنًا في هذه الفترة، خاصة أن الحركة الصهيونية رأت في الدولة ومؤسساتها وجيشها والشعب عنصرًا واحدًا. وحيث كان النشاط السياسي لا يهدف إلى الوصول إلى السلطة حسب وصف الكتاب المباشر، ولكن إلى هدف بناء الأمة. وقد استوردت الدولة في إسرائيل هذا النموذج من النموذج الشيوعي في أوروبا الشرقية، بطرق مختلفة، وعلى ما يبدو فقد كان  هذا هو الأفق الوحيد لبناء أمة، ونظام اقتصادي وسياسي يهودي.

وبدأ المجتمع الإسرائيلي بالتغير وبدأت معسكرات جديدة بالتخلق بعد حرب عام 1967، نتيجة أسباب كثيرة، مثل الوصول إلى تحالف مع الدول العظمى، والولايات المتحدة تحديدًا. والبدء التدريجي لوصول حزب الليكود إلى السلطة، وصاحب ذلك بالضرورة تغير في الرؤى نحو عمليات التسوية والسلام.

بينما ساهم تعثر حزب الليكود نتيجة الفساد وغيره، بصعود حزب العمل، وبداية مرحلة رابين التي ساهمت بدورها بفتح جديد لآفاق التسويات السياسية. وصاحب هذا التحول نمو اقتصادي ونشوء حقول جديدة تميز بها الاقتصاد الإسرائيلي إلى الآن. وإضافة إلى ذلك صار التعامل مع الأقلية الفلسطينية تعاملًا مختلفًا، وصار هناك محاولات أسرلة لليهود وللعرب، وعلى أية حال، يرى الكاتب أن أسرلة المجتمع الإسرائيلي في عهد رابين لم تقلل من يهوديته. وبقي بالضرورة مجتمعًا صهيونيًا. ويرى أن بنية الدولة لم تتغير بعد وصول اليسار، إذ سلك الحزبان السلوك نفسه أثناء تواجدهما في السلطة، ولم يكن الاختلاف إلا أثناء وجودهما خارجها. وكذلك كانت الحال مع نجاح باراك ونتنياهو. باستثناء تغيرات فرضتها الحاجة إلى توحيد المجتمع بعد مقتل رابين، مثل نشوء آراء "وسطية" واتفاق فيما بعد بخصوص التسوية.

بعد ما أحدثه مقتل رابين، عادت تجربة انتخاب رئيس الوزراء بشكل مباشر لتحدث شروخًا جديدة، وصار هناك صراع بين التعبير عن الموقف السياسي من خلال الانتخاب، وبين التعبير عن الهويات الإثنية وغيرها، التي ينتمي إليها المنتخبون. وباءت بالفشل محاولة إلغاء الأحزاب الصغيرة من خلال هذا النمط من الانتخابات، إذ صارت عملية تشكيل الحكومة أعقد، وبحاجة إلى تحالفات معقدة عززت دور الأحزاب الصغيرة.

لكن حتى مع هذا الانقسام، حسب بشارة، فإن كون الإسرائيلي - خاصة من أبناء الفئات المهمشة-  مجبرًا على التنازل عن هويته من أجل الانتماء الأجدى سياسيًّا واقتصاديًّا للفئة المهيمنة، لم يكن يشعره بالاغتراب في علاقته مع الدولة، فالانتماء إلى الدولة أساسه الانتماء إلى دولة اليهود. ويتم التأكيد على هذه الهوية اليهودية من خلال رسم الحدود مع الآخر- العربي ونفيه. وتحول العداء مع العربي بالنسبة لليهود الشرقيين إلى مطالبة بحصتهم من الدولة أمام النخبة الأشكنازية! وكل هذا كان على تناقض مع تطور الديمقراطية الإسرائيلية.

بالمجمل كانت الحال بالنسبة للعلمانية أكثر وضوحًا أيضًا مع هيمنة اليمين، الذي اعترف بوضوح - بدافع مغازلة اليهود الأرثدوكس على ما يبدو- أن إمكانية فصل الدين عن الدولة مستحيلة في إسرائيل.

في حالة شارون، الرجل العسكري، يؤكد الكتاب أن عودته كانت دليلًا على فاعلية نظرية الأمن في الحياة الاجتماعية والسياسية الإسرائيلية، وعلى طبيعة الدولة الاستعمارية أولًا، وعلى بنتيها المتناقضة مع العلمانية - حتى بدون أحزاب دينية متطرفة- ومع الديمقراطية أيضًا.

ما يمكن قوله أخيرًا، إن هذا الكتاب يقدّم وثيقة مهمة جدًا سواء للباحثين أو الطلبة في هذا المجال، أو للراغبين بالاطلاع على مسار تطور النظام السياسي في إسرائيل، توازيًا مع تقديمه مقولة فلسفية مكثفة، معتمدة على مؤشرات إجرائية. وإضافة إلى ذلك يتميز الكتاب باستخدام منهج بينيّ، فيه تحليل تاريخي وسوسيولوجي واقتصادي وأمني، تحتاجه أي دراسة لمجتمع مركب ومتنوع مثل المجتمع الإسرائيلي.

الترا صوت