تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة إذ يقطع شكّ التكاذب بيقين المعرفة

2017-04-02

أنطوان شلحت

لا بُدّ بادئ ذي بدء، ونحن نتناول بعض الجوانب التي يتطرّق إليها كتاب "في نفي المنفى... حوار مع عزمي بشارة" الذي أعدّه الكاتب والصحافي الفلسطيني صقر أبو فخر، وصدر أخيرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والذي بات متوفرا في البلاد ويمكن الحصول على نسخ منه، إلا أن نتفق مع معدّ الكتاب على أمرين:

الأول، أن هذا الكتاب ليس سيرة فكرية، لأن من يريد سيرة فكرية لعزمي بشارة ليس أمامه إلا أن يقرأ كتبه، أو أجزاءً مختارة منها على الأقل؛

الثاني، أن مساهمة بشارة المعرفية تتميّز بتنوعها الغنيّ فضلًا عن كون مضاميرها من دون ضفاف، حيث تبدأ في الحقل الفكري ولا تنتهي في الميدان النضالي، وتمرّ في الثقافة والأدب وتشييد المؤسسات والبنى التحتية وغير ذلك. وفي نطاق هذه المساهمة يشير أبو فخر على وجه الخصوص إلى مأثرة بشارة في فتح بوابة معرفية أمام الباحثين والمثقفين العرب في كل ما يتعلّق بفهم إسرائيل وتكويناتها الاجتماعية والسياسية أكثر اتساعًا مما هو رائج في المنطقة العربية، والذي (الفهم) كان ينطلق إما من تحليل رغبوي أو أيديولوجي، أو من تحليل سياسي مرتكز على معطيات الصراع العربي - الإسرائيلي ومُحدّد بتطوراته وحسب. وهو ينوّه بحق أنه تحت وطأة هذا التحليل أو ذاك غالبًا ما كان يتم الانزلاق إلى تفسيرات تآمرية أو غيبية ساهمت في كثير من الأحيان في تضليل "وعينا عن العدو الذي نصارع"، كما يؤكد، لافتًا إلى أنه في مقابل هذا كله، خاض بشارة في تحليل سوسيولوجي مُعمّق لإسرائيل ومجتمعها فاضحًا أيديولوجيتها الصهيونية انطلاقًا من مواقف المناضل ضدها وضد أيديولوجيتها العنصرية؛ إذ "مثّل بشارة بالنسبة إلينا بوابة معرفية لفهم المجتمع الإسرائيلي كما هو، فلا نُضخّم ولا نتمّنى، ولا نعجب بالعدو إعجاب المنكسرين، بل نسلّح أنفسنا في مقارعته" (من التقديم).

يقطع بشارة في هذا الحوار من أوله إلى آخره الشكّ في ما يصفه بأنه تكاذب حيال العديد من القضايا بيقين المعرفة المُسلحة بالنظرية والتجربة العملية، ويفعل ذلك منهجيًّا من خلال مراجعة الأفكار التي واجهها ولازمته خلال مراحل حياته الخاصة، وحياته العامة السياسية والفكرية، بدءًا بالبيت (في كنف عائلة متوسطة، دافئة ومهتمة بالعلم وبالثقافة، وذات نزوع وطني يساري) وصولًا إلى الزمان الراهن، مرورًا بمراحل الدراسة الثانوية والجامعية في الداخل والخارج، والمسيرة الأكاديمية والحزبية- السياسية. ويكرّر في أكثر من موقع أنه لم يتخلّ عن القيم والمبادئ المحفورة فيه منذ الصغر، وإن نفض عن كاهله كثيرًا من الأفكار التي يجب أن يتخلّى عنها الإنسان حين تبرهن التجربة أنها خاطئة.

ثمة تطرّق في الكتاب إلى محاور متعدّدة كما تحيل إلى ذلك عناوين فصوله: العروبة وفلسطين واليسار؛ سورية: الجرح الراعف؛ العرب في الداخل والتجربة البرلمانية؛ اليسار وأطروحاته؛ النهضة والعلمانية والليبرالية والبعث والناصرية؛ فلسطين وياسر عرفات والسلام المستحيل؛ حزب الله وسورية والعنف؛ الثورات العربية والمسألة العربية؛ التشيع السياسي والإسلاميون الجدد؛ الديمقراطية والإسلام السياسي؛ الماركسية والعلمانية وفصل الدين عن العلم؛ تجربة الكنيست والخروج من فلسطين؛ العودة إلى ترشيحا.

وسأتركز ضمن هذه القراءة في محاور تخصّ التجربة في الداخل.

 

نفي عزمي بشارة لمنفاه
في فلسطين، مارس عزمي بشارة رفضه ونقده، وفتح أبوابًا معرفية لمن أراد مقاربة الوضع الإسرائيلي وفهمه من خارج النظريات الرائجة، وهو إذ فعل ذلك، فلقناعة نضالية وسياسية بأنه لا بديل من خلق آليات عمل تؤطر النضال الفلسطيني.


مراجعة وتأطير: وقائع جوهرية من

الماضي لفهم تحديّـات الحاضر

لعلّ أكثر ما يطغى على الحوار مع بشارة بشأن تجربة الفلسطينيين في الداخل هو عنصر المراجعة لصق غاية التأطير. والاستنتاج الأبرز الذي يمكن للقارئ استخلاصه من هاتين العمليتين المُركبتين أنه بقدر ما إنهما تُضمران نية إحداث قطيعة مع أفكار برهنت التجربة أنها خاطئة في سياقنا المخصوص هنا، بقدر ما تؤديان إلى وصل الوقائع المرتبطة بتلك النيّة مع القيم والمبادئ التي كانت أضلاع بشارة مطوية عليها منذ نعومة أظفاره.

وبهدف النمذجة على ما أقصد، سأكتفي بإيراد مثلين:

الأول، ما جاء على لسان بشارة بخصوص مدلول إقامة "اللجنة القطرية للطلاب العرب في المدارس الثانوية" في البلاد عام 1973- 1974، إذ يؤكد أنه ليس المهم أنه انتُخب رئيسًا لهذه اللجنة منذ البداية، نظرًا لدوره الرئيسيّ في المبادرة إلى تأسيسها، بل إن هذه اللجنة شكلت نوعًا من البدايات المُهمّة جدًا في النضال السياسي لعرب الداخل وتنظيمه على أساس قومي، لكونها تنظيمًا يخترق الجُغرافيا والاتجاهات السياسية ويرتكز على برنامج خاص للطلاب العرب. ويضيف: "إنها التجربة الأولى التي أتاحت أن ينتظم عرب على أرض 1948، وعرب وحدهم، في إطار خاص على أساس قضايا خاصة بهم وللدفاع عن أنفسهم. ويمكن الادعاء أن هذه هي النواة الأولى لتنظيم العرب على أساس قومي في مناطق 1948 كلها (ولهذا سميت اللجنة القطرية)"؛

الثاني، تأكيده ضمن سياق الحديث عن اليسار واليسار الجديد على مسألة الفهم المُبكر أن إسرائيل تختلف، في ما يرتبط بهذا الصدد، عن أوروبا اختلافًا جذريًا، بصفتها دولة استيطانية عسكرتارية، وتشديده على أنه لا يملك المرء خيار أن يكون يساريًا فيها من دون موقف واضح من الصهيونية وقضية فلسطين.

تأسيسًا على هذا بالوسع اعتبار فترة تأسيس اللجنة القطرية للطلبة الثانويين مرحلة أول هجس بالمشروع الفكري- السياسي الذي ترك بشارة بصمته فيه، وكان بمنزلة نقلة نوعية في كفاح الفلسطينيين في الداخل؛ المشروع الذي حمله حزب التجمع الوطني الديمقراطي وما يزال يحمله.

وبالاستناد إلى ما قاله بشارة لأبو فخر قام هذا المشروع على عدة أركان.

مهما تكن هذه الأركان قد تكفي في هذا المقام الإشارة إلى اثنين منها:

الأول:  فكرة "دولة المواطنين"، أو "الدولة لجميع مواطنيها"، والتي قال إنه نظّر لها باعتبارها دمقرطة للخطاب الوطني. فهي تصوغ الخطاب الوطني خطابًا ديمقراطيًا معاديًا للصهيونية، وتأخذ قضايا المواطنين المعيشية في الاعتبار. وفعلًا كانت هذه الأفكار- كما يؤكد- جديدة تمامًا، وأهميتها أنها لا تغفل واقع المواطنين وحياتهم اليومية، ولا تتنازل عن الموقف النضالي ضد الصهيونية. وهذا مهم جدًا في صوغ خطاب جديد؛ فتركيز القوى السياسية على جانب واحد من قضية الفلسطينيين في أراضي 1948 كان يعني بالضرورة إما التحول إلى الأسرلة في حالة التركيز على المواطنة وحدها، أو إلى تيار متطرف هامشي، إذا أهملناها سرعان ما يتلاشى ويترك الفلسطينيين مجددًا إلى عملية أسرلة.

الثاني: التشديد على هوية العرب في الداخل، والذي تحدّد منطلقه في أنه لا يجوز أن تكون الحركات الوطنية مجرد تشعباتٍ صغيرة للحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج. وهو يقول بهذا الخصوص: بدأنا نستخدم بكثافة مصطلح "سكان البلاد الأصليين". وكان هذا الاستخدام جديدًا على الخريطتين السياسية والفكرية. واستخدام هذه المصطلحات، كالمواطنة والسكان الأصليين وحقوق السكان الأصليين أو الأصلانيين، كان مركز قوتنا، لا انجذابنا إلى القاهرة أو إلى دمشق أو موسكو، أو اندماجنا في الأسرلة المشوهة؛ أي إننا رغبنا في تأسيس الهوية القومية من داخل المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني. ويجب أن نلاحظ أن هذه الفترة كانت دقيقة جدًا، فالأوضاع العامة في المنطقة العربية، ولا سيما بعد أوسلو ومعاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية وإمكانية إبرام دول أخرى اتفاقات سلام مع إسرائيل كانت تنبئ أننا سنتعرض لنكبة جديدة، أو أن فصولًا أخرى من مرحلة ما بعد نكبة 1948 ستبدأ من جديد، وسيسدل الستار على عرب الداخل وسيتحوّلون إلى فئة هامشية متأسرلة كما شهدنا ذلك في بداية تسعينيات القرن العشرين الفائت. 

لم يكن هذا المشروع مُوجّهًا إلى إسرائيل فحسب وإنما أيضًا -إن لم يكن أساسًا- إلى الفلسطينيين في الداخل. والآن بعد مرور أكثر من عقدين على تأسيس هذا المشروع، يحقّ لبشارة أن يؤطر أهميته بأنها لا تقتصر على إنشاء حزب نضالي في مواجهة الصهيونية، إنما في قدرته خلال هذه الفترة على أن يُغيّر قواعد النقاش داخل مجتمعنا العربي هنا. فلقد أصبحت أفكار الحقوق الجماعية المشتقة من الحقوق الفردية، هي الهوية العربية الفلسطينية، وصار للسكان الأصلانيين مطالب ومصطلحات يستخدمها الشباب العربي غير التجمعيين في المواجهات مع بعض السياسيين العرب في الداخل؛ أي إن تأثير التجمع لا يقاس بعدد أعضائه أو عدد نوابه، إنما في قدرته على إنجاز انقلاب حقيقي في طريقة التفكير في شأن حقوق العرب والدفاع عنها والترويج لها، وأن يصبح الخطاب التجمعي عماد الجدل والنقاش السياسي، لا خطابًا هامشيًا.

موضوعيًا، نشأت الحاجة إلى المشروع السالف من احتمال أن تنهار الهوية الفلسطينية للعرب في إسرائيل بعد اتفاق أوسلو. وإن العودة إلى ما يقدمه بشارة من تحليل لدوافع تلك الحاجة الموضوعية وضرورتها في الآن نفسه، سواء ضمن كتاب "في نفي المنفى" أو في دراساته العديدة، من شأنها أن تؤطر أيضًا مسألتين ذواتي صلة بالوقت الراهن:

الأولى، مسألة العلاقة بين الحقوق القومية (الجماعية) والمدنية (الفردية) في واقع الفلسطينيين في إسرائيل؛ الثانية، مسألة التعاون مع قوى سياسية يهودية. 

في ما يخصّ المسألة الأولى، يكرّر بشارة ما لا يجب أن نملّ من تكراره، وهو أنه برغم أن الحقوق بالنسبة إلينا مشتقة من المواطنة، فهي ليست مشتقةً قطّ من الهجرة والاستيطان كما هي حالة الصهيونية، بل من وجودنا القديم في المكان الذي يدعى فلسطين. كما أننا جزء من قضية فلسطين، وهذه القضية في جوهرها هي الخلاصة المباشرة للاستيطان الصهيوني وتواطؤ بريطانيا معه، وللحرب التي شنتها الحركة الصهيونية على الفلسطينيين منذ ما قبل عام 1948. أما الصهيونية فهي حركة استعمارية إحلالية مارست الاستيلاء على الأرض وطرد السكان بالقوة، وقامت بتوطين اليهود في مكانهم كعملية متدرجة من عمليات بناء "الأمة اليهودية" ودولتها القومية. وفي هذه الحال، لا يجوز بحال من الأحوال أن نرى في الفلسطينيين في إسرائيل مجموعة مهاجرة تتطلع إلى المساواة، وتسعى إلى أن تقبلها الأكثرية. ولا يمكن أن تتحقق المساواة إلا إذا جرى نزع الصفة الكولونيالية عن إسرائيل؛ وهذا يعني أن الصراع القومي والمساواة على أساس قومي هما الأساس، لا المساواة أو الاندماج على أسس أخرى.

ويعيد إلى الأذهان موضوع الاستفادة في ذلك من تجربة السود في الولايات المتحدة الأميركية ونضالهم في سبيل حقوقهم، لكنه في الوقت عينه يؤكد أن المعضلة كانت أن السود في الولايات المتحدة الأميركية ذهبوا في النضال من أجل الحقوق المدنية نحو الاندماج الكامل، وكان احتمال أن يصبح الأسود رئيسًا لأميركا حلمًا، وأن يصبح رئيس الأركان الأميركي أسود حلمًا أيضًا. وكل ما كان يرغب فيه السود هو المساواة، وأن يُقبلوا كمواطنين أميركيين، وأن يُقبلوا في الجيش الأميركي مقاتلين وضباطًا... إلخ. وبعضهم بدأ يزرع في التاريخ الأميركي بأثر تراجعي أبطالًا سودًا، ورعاة بقر من أصول أفريقية. وتطورت خلال نضال الحقوق المدنية في أميركا مطالب رمزية كثيرة في التاريخ الأميركي نفسه، وعولجت بإدخال تمثيلٍ ملائم للسود في التاريخ الأميركي وفي الإنتاج الثقافي، بما في ذلك السينما والإعلانات ومجمل الثقافة الجماهيرية. "أما نحن، فلم نر الأمر من هذا المنظار"، على ما يؤكّد.

كذلك يفنّـد بشارة مزاعم أخرى تندرج ضمن هذه المسألة، أهمها الزعم أن "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، منوّهًا بهذا الخصوص أن كل ما امتلكته الوكالة اليهودية قبل عام 1948 هو نسبة ضئيلة جدًا من أرض فلسطين بلغت نحو 5.7 في المئة، معظمها أرض مشاع ملكّهم الإنكليز إياها، ولم يشتروها ولم يبعها لهم أحد، وأن الحركة الصهيونية سطت على فلسطين بالقوة المسلحة في عام 1948، وقامت إسرائيل كدولة بمصادرة الأرض الباقية وهذا هو أساس القضية. وأيضًا الزعم أن القضية الفلسطينية بدأت في عام 1967 وليس قبل ذلك التاريخ، وهذا يعني عدم الاكتراث بما حدث في عام 1948، ويصبح حق العودة للاجئين الفلسطينيين غير ذي شأن.

بناء على ذلك ليس مبالغة أن يصوغ بشارة الاستنتاج الذي يفيد أن خطاب هذا المشروع كان بمثابة فيصل بين مرحلتين في ما يرتبط باشتباك الفلسطينيين في الداخل مع المشروع الصهيوني، عبر العبارات التالية: "لعقود خلت كانت المؤسسات الصهيونية تضع قواعد الاشتباك مع عرب الداخل، وعلى عرب الداخل أن يتعاطوا مع هذه القواعد ومع الخطاب الذي تفرضه هذه المؤسسات. وبالفعل كان عرب الداخل وقادتهم السياسيون يتعاطون مع هذا كله بردات فعل بعضها نضالية وبعضها استجدائية أو انكسارية. أما خطاب التجمع فصيغ كي يكون هو المبادر: لديكم قواعد اشتباك ولدينا قواعد اشتباك مختلفة ورؤية مختلفة. وعليكم الآن أن تتعاطوا مع قواعد اشتباكنا المبنية على حقوق وأسس نظرية متينة لا يمكن تفكيكها، فضلًا عن تجاهلها. لذلك كان علينا أن نمعن التفكير لنؤسس خطابًا متسقًا متماسكًا".

ولدى الانتقال إلى المسألة الثانية، يجدر بنا أن نتوقف عند استعادة بشارة فترة تأسيس مبادرة "ميثاق المساواة" في بداية تسعينيات القرن الفائت، حيث يشير إلى أن هذه المبادرة كانت في حينه (عام 1992) محاولة لجمع أناس مؤمنين بالمبادئ نفسها، يهودًا أَكانوا أم عربًا. وكان فيها عدد لا بأس به من الشبان اليهود واليساريين المعادين للصهيونية، ممّن يؤمنون بما يؤمن به، كدولة المواطنين، ونزع الصفة الصهيونية عن إسرائيل، والسير بالنضال في هذا الاتجاه. غير أن "الميثاق" لم يصمد غير قرابة عام وانتهى الأمر. وكان الاستنتاج من تجربة "ميثاق المساواة" أن في الإمكان أن نشكّل مع المتفقين معنا من اليسار اليهودي حلقات حوار ونقاش، وأن نسعى إلى تعميق التجربة المشتركة. لكن، عندما نتجه إلى النضال والعمل النضالي السياسي، فالواقع مختلف تمامًا. فنحن نتعامل مع جماهير عربية، ولدينا أولوية هي تنظيم العرب كشعب، لأننا كنا نخشى (وهذا ما كان عليهم أن يفهموه) من أن الهوية الفلسطينية للعرب في إسرائيل قد تنهار بعد اتفاق أوسلو إذا لم تكن لدينا حركة وطنية للعرب الفلسطينيين في الداخل. وكانت أولويتنا السياسية هي البدء فورًا في هذه المسألة. أما إمكانات التعاون فستُبحث لاحقًا، لأن هذه هي القضية الرئيسة في المرحلة الأولى.

ويفتح بشارة النار على من أرادوا تحويل عرب الداخل إلى قوة احتياط في دعم القوى الديمقراطية الإسرائيلية، معتبرين الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين مجرّد أصوات انتخابية لترجيح هذه القوى الديمقراطية.

يمكن الاستطراد أكثر فأكثر في إيراد النماذج التي لا تكمن فائدتها في صحة التأطير والتأصيل فقط، بل أيضًا في رسم التحديّـات التي ما تزال ماثلة، لكن مثل هذا الأمر لا يُغني عن قراءة نص الحوار الأصلي توخيًّا للاستفادة القصوى.

في كل مرة أقرأ نتاجًا لعزمي بشارة تلفتني أكثر شيء أداة التعبير التي يمتلكها لإكساب القارئ المعرفة والمتعة. وهو ما ينسحب على كتاب "في نفي المنفى".

وأجيز لنفسي أن أكرّر أنه لدى قراءة نصّ بشارة تتوالد حالة ينضفر فيها الوعي بالعالم مع الجوهر المرغوب للعلاقة بالمجتمع، علاقة تتمثل آيتها في أنك منبثق من هذا المجتمع لا في أنك مجرّد مُضاف إليه. وبذا يتم اختزال الطريق، في مسار مخاطبة الوعي، بين ما هو قائم بالتكاذب ويوشك أن يصبح قارًّا، وبين الدلالات المضادة التي تستثير العقل والذهن والحواس. 

موقع عرب 48