تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

جهاديو ما بعد القاعدة "داعش" من الظهور إلى الأفول: قراءة في كتاب تنظيم الدولة المكنّى "داعش" لعزمي بشارة

2019-12-23

محمّد غاشي

بقدر ما استأثر الصعود العاصف والتمدّد السريع لتنظيم الدولة الإسلامية المكنّى “داعش”، الرأي العام المحلي والدولي وشغل مساحة واسعة في وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها (البصرية، السمعية والمكتوبة)، بعد إعلانه أنّه أصبح دولة لا تتطلّب اعترافا من أحد. أنتج طلباً اجتماعياً ملحّا لفهم هذه الظاهرة، التي أضحت على رأس أولويات مراكز الأبحاث والدراسات(Think Tank) التي تنافست في محاولة فهم التنظيم وخلفياته وبيئته وتاريخ نشوئه.

وضمن هذا الإطار، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة في نوفمبر 2018، كتاب: “تنظيم الدولة المكني داعش: إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة”([1])، في جزأين وأشرف على تحرير جزءه الأول المفكر عزمي بشارة، كما نسق جزءه الثاني.

هندسة الكتاب:

يتألّف الكتاب من 368 صفحة في القطع المتوسّط موزّعة على ستة فصول، كل واحد منها حمل عنوانا دالاً ويشكّل عتبة للولوج إلى رحابة النص. ولا يعني التقسيم في هذه الحالة استقلالية كل فصل عن سابقة أو لاحقه، بل إنّ هناك خيطا رابطا يصل بين مختلف فصول الكتاب، هذا الخيط هو إشكالية الدراسة التي تتّسم بالجريان الفكري، بحيث لا يشعر القارئ أنه يتخلّص من سؤال: كيف نفهم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؟

 أهمية الدراسة:

حين نضع هذا الكتاب في سياق التأليف حول: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف في الأوساط الإعلامية بـ “داعش”، فهو يتميز منذ الوهلة الأولى بإيجابيتين لا جدال فيها، أولا: المراجعة النقدية الفاحصة للأدبيات التي أنتجت حول “داعش”. ثانيا: الاستناد إلى منهج بحثي وتحليلي عابر للتخصّصات للاقتراب من فهم هذه الظاهرة المركبة والمتشعبة التي طفت على سطح واقعنا المأزوم.

تجمل هذا الدراسة مسعى إلى تطوير وإرساء نظرية في “تنظيم الدولة الإسلامية” من خلال حفر عميق في التاريخ الإسلامي، دون تجاهل للتحولات الجيوسياسية الحاصلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يسمح بتقديم فهم وإجابات دقيقة على أسئلة للسلفية الجهادية في ظهوراتها المتعدّدة وتطورها، ثم التصدّي للنموذج الأوحد والسائد حول الظاهرة الذي يتجاهل سياقات التطوّر التاريخي وقانون التراكم في البنيات والأفكار.

يقظة عزمي بشارة، قادته في مقدمة العمل إلى التساؤل عن  الخانة التي يمكن أن تصنّف فيها “داعش”،هل هو حركة سلفية جهادية؟ حركة تمرّد؟ حركة طائفية؟ ردّة فعل على الحداثة؟ أم ظاهرة من ظواهر الحداثة وليست ردّة فعل عليها؟ أم أن زوايا النظر هذه كلها قد تُغني عملية البحث في الموضوع؟. في الإجابة عن هذه الأسئلة التي تدور كلها في فلك سؤال أساس هو: كيف نفهم ظاهرة تنظيم الدّولة الإسلامية “داعش”؟ يحذّر بشارة الباحثين من إغراء الوصفات الجاهزة، ليس لأنّ هذه ليست وظيفة الباحث فحسب، بل أيضا لأنّ الفهم الخاطئ للظاهرة غالبا ما يؤدي إلى فتح الباب لظواهر أكثر سوءً منها، ويضرب المثل هنا بالحرب الأمريكية على الإرهاب في أفغانستان، والتي من جوفها خرجت التيارات الجهادية الراديكالية. على هذا النحو، ألحّ المؤلّف أنّ استئصال داعش يستوجب أولا فهم نشأة هذا التنظيم بموضوعية وحيادية، استناداً إلى مقاربات تتكامل فيها الاختصاصات وتعبرها في آن (التاريخ، تاريخ الأفكار، العلوم السياسية، وعلم الاجتماع، والاقتصاد وغيرها). حتى نفهم السياق الاجتماعي والتاريخي والسياسي لنشأة داعش والأسباب التي كانت تقف وراءه، كي لا نعيد إنتاج ظواهر أسوأ منها. هكذا، فإننا قد نتمكن من هزيمة داعش، لكنه يصعب هزم التيار الخفي الذي نبعت منه داعش دون تفكيكه وفق عبارة لبيتر ويلبي ([2]).

في الفصل الأول “ملاحظات بيبليوغرافية”، المعركة كلها تدور حول نقد الأدبيات، وحسبنا في هذا المقام أنّ بشارة قدّم أول عملية سبر شاملة ودقيقة، ترسم الحدود الفاصلة بين الغثّ والسمين في الأدبيات الكثيرة التي أنتجت حول التنظيم، منذ لحظة ولادته إلى حدود اليوم.

وفي هذا المقام، نعني أساساً الكتب والدراسات التي شكّل التنظيم موضوعا ومحورا لها، دون احتساب التقارير الاستخباراتية والمعطيات الخبرية / الصحفية التي يمكن تصنيفها في خانة الفكر اليومي. هكذا، فمن خلال قراءة فاحصة وحفر عميق في البنية المعرفية لهذا الإنتاج، فإن النتيجة الأساسية التي خلص إليها بشارة هي: أنّ جلّ ما كتب حول الظاهرة “تجاري” بامتياز يلبي طلب السوق الثقافية، وليس للكثير منها قيمة علمية أو معرفية تذكر. بالإضافة إلى هيمنة الموقف الإيديولوجي المرتبط بمصلحة اجتماعية / سياسية محدّدة مع الاختزالية والرؤية الأحادية في كثير من الحالات، حيث يقدّم تنظيم “داعش” للقارئ باعتباره نموذجًا لحركة دينية متطرّفة متولّدة بشكلٍ طبيعي من النصوص الدينية الجاهزة، تلك التي تحضّ على العنف وتدعو إلى استهداف الآخر.

بيد أنّ نقد عزمي بشارة، ليس نقدا ناقما أو حاقدا، بل هو نقد موضوعي إذ لم يفوتّ الفرصة للإشارة إلى مجموعة من الدراسات الأكاديمية في الغرب، التي تكتسي قيمة معرفية وتشكّل إضافة نوعية في حقل فهم تنظيم الدولة المسمى “داعش”.

ويتتبّع الفصل الثاني “من المجاهدين الى الجهاديين ومن الجهاد إلى الجهادية”،تطوّر مفهوم الجهاد كأحد أكثر المفاهيم الدينيّة التي لم يهدأ حولها الجدل ولا يزال،نظراً لما يُمثله من مركزيّة في فكر جماعات الإسلام السياسي، ولما يُثيره من جدل حول الإسلام والمسلمين في الخارج خاصة مع تنامي وتيرة الأعمال الإرهابية أو ما يكنّى بـ”الجهاد المُعولم” في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية.

يكون التأصيل للجهاد بالعودة إلى منابعه الأساسية التي انطلق منها، ونقصد بذلك النص النواة (القرآن)، وحسابيّاً ذكرت كلمة “الجهاد” ومشتقاتها في القرآن 41 مرَّة، 10 منها فقط تتعلّق بالقتال (دفع الصائل المعتدي)، وما عدا ذلك، فإن التسليم بالعقيدة الإسلامية يتطلب جهادا ضد الأنانية والأهواء والنزعات الفردية وتحمل الشدائد،وهو ما يفيد أنّ الجهاد في الحضارة الإسلامية هو فرض كفاية وليس فرض عين.في مقابل ذلك، عمد الإسلام الحركي والجهادي إلى الخلط بين النّصوص الدّينية ونقلوا مفهوم الحكم من القضاء إلى السّياسة والسّلطة،وهو ما ترتّب عنه انتقال من التّعبد إلى التّسيد الذي ينطوي على ممارسة أقصى درجات العنف لفرض تصوّراته وإخضاع الآخرين له، في حين أنّ شأن الاعتقاد الدّيني كله دائر على الرّحمة([3]).

يرى عزمي بشارة أنّه من الضروري الحفاظ على مسافة فاصلة في التمييز بين مفهوم “الجهاد”و”المجاهدين” المتأصّلة في تاريخ الإسلام،وبين مفهوم “الجهاديين” و”الجهادية”، كابتكار حديث وأدلجة للجهاد من طرف تنظيمات السلفية الجهادية وتيارات الإسلام السياسي. مشيرا إلى أن لفظة الجهاد جرى توظيفها في القرن الماضي من قبل حركات التحرر الوطنية، التي سعت منح القتال ضد المستعمر بعد دينيا، فسمي المناضلين مجاهدين، بينما الجهادية بدأت بالظهور في كتابات سيد قطب ولاحقا عند عبد السلام فرج وعبد الله عزام.وفي خضم هذا الحديث عن تطوّر المفاهيم الدينيّة وانتقالها من حقبة إلى حقبة، ناقش الكاتب أيضا أصناف التديّن، مميّزا فيها بين تدين: شعبي، حركي ومؤسّسي.

ويناقش الكتاب في فصله الثالث: “تنظيم الدولة سيرورة التمايز عن القاعدة”، السجال الحاصل داخل تنظيمات السلفية الجهادية حول الشرعية والأحق بتمثيل الجماعة الإسلامية. بالاستناد إلى الرسائل التي تم تبادلها بين التنظيمين الجهاديين في سياق ما عرف في الأوساط البحثية بـ “حرب الرسائل”، متعرضا لها بالقراءة والتحليل والنقد.

حرب الرسائل هذه تناسلت مباشرة مع إعلان التنظيم أنه أصبح دولة، كما تؤرّخ لبداية تفكّك علاقة المشترك التي ستختفي تاركة مكانها لمركّب جديد، هو: مركب التمايز والاستقلال، الذي انتهى بالافتراق والتراشق بين قادة التنظيمين الجهاديين داعش والقاعدة. على كثرة الرسائل وتنوعها نورد نموذج رسالة أبي محمد العدناني في ردّه على رسالة أيمن الظواهري، التي تنفي أي تبعية للقاعدة من قبل تنظيم الدولة مؤكّدا عن استقلالية داعش، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد بل جدّد الدعوة لكل فصائل السلفية الجهادية لمبايعة التنظيم.

والحالة هذه، يتبيّن أن تنظيمات السلفية الجهادية لا تختلف عن غيرها من التنظيمات في صراعها على النفوذ والزعامات، وأنه لا وجود لقاعدة قانونية أو فقهية شرعية ملزمة تضبط العلاقات بين التنظيمات الجهادية، وإنما هي الأخرى تحكمها علاقات تعاون وصراع وفوضى بحسب الظرفية.

فيا لفصل الرابع“لا تبقى إذا لم تتمدّد”، يتتبّع المؤلف الظروف التاريخية والتغيرات الاجتماعية التي أدّت إلى نشأة تنظيم الدولة وسمحت له بالتمدّد. هكذا، ومن خلال استدعاء التاريخ والاستعانة بأدوات التحليل السوسيولوجي. ذهب بشارة إلى أنّه يصعب أو يستحيل فهم داعش من دون فهم نشأة الدولة الوطنية الحديثة في المشرق العربي، وإخفاقها في إنجاز المهام الموكولة إليها وفي طليعتها بناء دولة المواطنة والمؤسسات لتي تسهر على تمثيل الجميع كمواطنين على حد سواء، مستنتجا أنّ الطائفية الحديثة هي نتاج “علمنة مشوهة” في المجتمعات التي لم تتبلور فيها الدولة-الأمة ([4]). فلا سبيل للتفكير في المواطنة والتعددية والديمقراطية والعلمانية وغيرها إلا في اقترانها بوجود الدولة، وفي غيابها أو ضعفها تفتح الأبواب للفوضى. ثمة علاقة تلازم ماهوي بين المجتمع المدني والدولة الحديثة كما كشف بلقزيز “لا يكون مجتمع مدني بالمعنى الدقيق، إلا متى كانت دولة حديثة” ([5]).

ما العلاقة بين أزمة الدولة الوطنية ونشأة داعش؟إجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بنوع من الثقة، أنّ تشوهات الدولة الوطنية وعدم مقدرتها على احتواء التعددية الهوياتية والطائفية في المشرق العربي، قد ساهم بشكل فعّال في تقويض وهدم مفهوم “العيش المشترك”، فالمجتمع الطائفي ليس شيئا آخر غير المجتمع العصبوي الذي يضعف الجماعة الوطنية ولا يقوّيها، “فالطائفية هدامة ولا يمكن أن تكون بنّاءة” وفق عبارة بليغة لناصف نصّار([6]).وقد بدا هذا الوهن جليّا خاصة مع تراجع الأحزاب اليسارية / القومية بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967، حيث وجدت الأنظمة الحاكمة في المشرق العربي الفرصة المناسبة فعملت على تأزيم المأزّم وتقسيم المقسّم بتوظيفها للولاءات الطائفية والمحاصصة بعقلية الغنيمة والاغتنام في صراعها على السلطة.وفي ظل هذا الوضع السلطوي نجح داعش في أن يقدّم نفسه بمثابة “حامي السّنة” من الاضطهاد الشيعي، مستغلاً الصراعات الطائفية القائمة في المنطقة بين السنة والشيعة، وعمل على إدامتها وتسخيرها لصالحه.

هل الدولة فكرة عراقية؟ سؤال دقيق ووجيز، يساعدنا فالح عبد الجبار في كتابه “داعش: التقدم إلى الماضي”([7]) للإجابة عنه. ففي هذا العمل يدافع عبد الجبارعن أطروحة أنّ “الدولة الآن” مثل مشتقها “الخلافة الآن” هي فكرة عراقية ولدت وترعرعت في الوسط التكنوقراطي العراقي: العسكري ألاستخباراتي والمدني.يتفق معه بشارة في هذه النقطة، بيد أنّه لا يشاطره الرأي في تقديره المتعلّق بكون أبا مصعب الزرقاوي كان عقبة أمام إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام، وله من التقديرات ما يدفعه على ذلك،أولها تأسيس الزرقاوي لمجالس شورى الجهاد.ثانيها اختلافه مع أسامة بن لادن ودعوته إلى إقامة كيان إسلامي في كل موقع، وهو ما يعدّ حسب المؤلف تمهيدا لإعلان الدولة وليس عقبة أو كابحا في وجهها.

يعدّ الفصل الخامس “عن الحياة في ظل داعش”، بحثاً في إدارة تنظيم الدولة لشؤون الحياة المختلفة في المناطق التي بسط عليها نفوذه. على هذا النحو، أثبت التنظيم رغم صرامته فعالية في “إدارة التوحش”والقائمة أساسا على توفير الخدمات الأساسية ومرتبات الجند، خاصة بعد سيطرته على مناطق غنية بالنفط وصوامع الحبوب في شرق سوريا واستمرار التمدد في بعض مدن العراق، مما نتج عنه زيادة قوة التنظيم المالية والبشرية، إذ تقدّر المصادر أنّ ما يمكن تسميته الناتج المحلي لـ “داعش” قد بلغ ستة مليارات دولار في السنة، كأغنى “تنظيم إرهابي” في التاريخ.

ولأهمية هذه الوقفة على كثافتها، سنحاول أن نطالع سريعا صورة الحياة في ظل داعش، من خلال ثلاث زوايا:أولها الحياة الاقتصادية، والملفت للانتباه في هذا الصدد أنّ مصادر دخل التنظيم تعدّدت (الغنيمة، الاستيلاء على حقول النفط والغاز، تهريب الآثار، جمع الزكاة، وفرض الجباية). وعليه يمكن القول أنّ “اقتصاد الغزو” بالتعبير الخلدوني أو “اقتصاد الحرب” عند المؤرخ جورج ديبي، قد شكّل حجر الزاوية في عملية الإنتاج، ما يعني أن حالة الغزو والتمدد أو الجهاد يجب أن تستمر، وفي حالة عدم استمرارها تنضب مصادر حياة التنظيم.

ثانيها الحياة الاجتماعية، إذ يتبيّن أنّ التنظيم قد انشغل بتفاصيل حياة الناس اليومية ومظهرهم الخارجي وجعلها من أولوياته، وذلك لإثبات وجود نظام حكم إسلامي لم يجد له ما يميزه سوى التحريم والتكفير وإقامة الحدود وفرض المظاهر قهرا على الناس، مع أن الأمر لا يتعلق لا بفتح الأندلس ولا القسطنطينية بل ببلدات إسلامية. وفسّر بشارة مطلب لجوء التنظيم إلى فرض القيود على حياة الناس ليس مردّه ليس فرض الطاعة على الناس فحسب، وإنما أيضا حمل رسائل مفادها أن تنظيمات السلفية الجهادية الأخرى وعلى رأسها القاعدة لا تقيم دولة ولا تؤسس لخلافة، ولا تحكّم شرعًا، ولا تبني مجتمعًا مسلمًا، وبناءً على ذلك فهو الأحق بالشرعية الجهادية.

ثالثها الحياة الثقافية، سعى التنظيم إلى إحداث ثورة ثقافية بهدف صناعة “المسلم الجديد”، والتي بدأها من قطاع التعليم بتغيير مناهجه واستبدال مواده كي تتلاءم مع ممارساته. هكذا ارتكزت عملية التدريس بالأساس على تلقين العلوم الشرعية،والتي كان تتمّ عبر انتقاء الشواهد الدينية واختزالها وتوظيفها خارج سياقها التاريخي والاجتماعي بغية تبرير وحشية التنظيم.

على الرغم من إحكام التنظيم سيطرته على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما بيّنا، غير أنّ الملاحظ هو أنه لم ينتج أي مظهر من مظاهر قيام الدّولة وتجدّدها ولم يمارس أي وظيفة من وظائفها ما عدا جباية الضرائب وإقامة الحدود والإخضاع بوسائل قهرية.وعليه، ما إن حصل الإجماع الدولي على محاربته، حتى توقف مسلسل التمدّد وبدأ الانحسار والأفول، بفعل عدم مقدرته على إنتاج نفسه اقتصاديا داخل حدود، أي من دون تمدد وغنائم. ثمّ إنّ القهر والإخضاع الممارس لم يولّد أي ولاء للتنظيم، بل على العكس من ذلك كان هناك نزوع شعبي رافض له. وفي هذا الصدد مثّلت حرب الجدران إحدى أبرز الصور الناصعة للمقاومة الشعبية ضد التنظيم، حيث كانت تظهر على الجدران شعارات مثل “فانية وتتقلّص” …وهو ما يدحض أيضا فكرة “البيئة السنية الحاضنة” لوجود التنظيم وتمدّده الجغرافي.

في الفصل السادس والأخير “منظرون” سعى بشارة تقديم معالجة جديدة للنظري في ظاهرة السلفية الجهادية الجديدة، وإذا كانت الأخيرة قد تأثرت بداية بالأفكار الإخوانية ، فإنه نتج عن تطوّر الجهادية تراجع أفكار الإخوان المسلمين وتهميشها– ما عدا سيد قطب – لصالح كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته، خاصة علماء الوهابية وفي طليعتها “الرسائل النجدية” التي خطّها محمد بن عبد الوهاب، ولا أدلّ على ذلك الاقتباسات الكثيرة منه.

آذن هذا الانتقال، أيضا، بتحوّل كبير في مضمون الفكر السلفي الجهادي، والحالة هذه تبنى منظرو تنظيم “داعش” النسخة المتشدّدة من السلفية الجهادية، التي استندت بشكل كبير على مبدأ الولاء والبراء، وثنائية “الحاكمية” و “الجاهلية”، التي تتوجه ضد الحاكم والمجتمع معاً، والتي شكلت مصدراً ومرجعية للتأصيل الإقصائي وتهوين القتل وكذا التفنن السّادي في العنف والتبرير له([8]).

على سبيل الختام، يمكن القول أنّنا أمام تنظيم هجين لم ينشأ في رحم تطور طبيعي للسياسة والاجتماع في البلدان العربية الإسلامية، بل أتت به رياح ثقل تأخرنا التاريخي وانحباس التطور فيه، خاصة مع إخفاق الدولة الوطنية الحديثة التي نضبت مصادر شرعيتها. وقياسا على قاعدة أن الحضارات تحمل في طياتها أسباب زوالها التي جاء بها المؤرخ أرنولد توينبي، نرى أنّ قادة التنظيم الذين رفعوا شعار “باقية وتتمدّد”، وهم بذلك لا يفعلون سوى التأكيد على أنه “لا يبقى إذا لم يتمدّد”. هكذا، ما إن توقف الامتداد الجغرافي للتنظيم حتى بدأ أفوله واندثاره. “فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.

وبين طوبى البدايات وضبابية النهايات، نتساءل: هل انتهى التنظيم بعد أن يكون قد أنهى المهمة الموكولة إليه بنجاح؟ أي اختطاف الإسلام وتشويهه فضلاً عن القتل المعنوي للشخصية العربية الإسلامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بيبليوغرافيا

_ P. Welby, Why ISIS Is Destroying Iraq’s Ancient Heritage, Newsweek, 2015.

_الخطيب معتز، العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة، القاهرة، دار المشرق، 2017

_ أومليل علي، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، بيروت، دار التنوير، 1985.

_ بشارة عزمي، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،

_ بشارة عزمي، تنظيم الدولة الإسلامية المكنّى “داعش”: الجزء الأول إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نوفمبر 2018.

_ بلقزيز عبد الإله، من النهضة إلى الحداثة،بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط. 2،2011.

_ فالح عبد الجبار، دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي “داعش” والمجتمع المحلي في العراق، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،  2017.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش 

[1]_ عزمي بشارة، تنظيم الدولة الإسلامية المكنّى “داعش”: الجزء الأول إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نوفمبر 2018.

[2] _P. Welby, Why ISIS Is Destroying Iraq’s Ancient Heritage, Newsweek, 2015.

[3]_معتز الخطيب، العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة، القاهرة، دار المشرق، 2017، صص: 277-278.

[4] _ عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018، ص 270.

[5]_ عبد الإله بلقزيز، من النهضة إلى الحداثة،بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط. 2،2011، ص 178.

[6]نفسه، صص 110-111.

[7]_ عبد الجبار فالح، دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي “داعش” والمجتمع المحلي في العراق، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،  2017.

[8]_ سبق لعلي أومليل أن أشار إلى كون “الحاكمية” تعد منعطفا حادا في الوعي الإسلامي، وعي لا يرى العالم من حوله إلا “جاهليا” يجوز في حقه التكفير ولا يرى المسلمين مسلمين أو هم أقل مرتبة، ولا يرى الدولة القائمة إلا طاغوتاً يعتدي على حق الله في التشريع ويجوز الاقتصاص منه. للإطلاع أكثر، أنظر: علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، بيروت، دار التنوير، 1985.

المصدر: مركز أفكار للدراسات والأبحاث