تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

بشارة "في نفي المنفى": هل يمكن الانتصار على إسرائيل؟

2018-07-30

أنطوان شلحت

 

نواة أخلاقيّة

مضى ما يزيد على عام على صدور كتاب "في نفي المنفى - حوار مع عزمي بشارة"، للكاتب والباحث صقر أبو فخر (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2017)، ونحو ثلاثة أعوام على إجراء الحوار الّذي ضمّه بين طيّاته.

وفي ما يختصّ بهذا الكتاب، سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى ما يأتي:

أوّلًا، أنّ أبرز ما يشي به تمسّك بشارة - مفكّرًا ومثقّفًا ومناضلًا، له مساهمات شديدة الغنى والتنوّع في قراءة الواقع ونقده - بالنواة الأخلاقيّة الرئيسيّة. ولدى الوقوف على سيرة بشارة الشخصيّة والفكريّة، من غير الصعب العثور على جبل من القرائن الدالّة على تمسّكه بهذه النواة. ويشدّد بشارة في الكتاب، من ضمن أمور أخرى، على كون مشكلة الأخلاق من المشكلات الرئيسيّة والملحّة اليوم في المجتمع العربيّ، ويؤكّد أنّ تهميش المعايير الأخلاقيّة في التعامل، وعدم وضوح المنظومة الأخلاقيّة للمجتمع العربيّ مصيبة، بل الكارثة، وأنّه أصبح أكثر قناعة بأنّ أهمّ ما يجب أن نعمل عليه في الفلسفة علم الأخلاق. في الوقت عينه ينبغي - كما يستطرد - أن تكون الأخلاق منفصلة عن التحليل العقلانيّ والنفعيّ للأشياء، ومنفصلة عن الحسابات، وأن يكون ثمّة خير قائم بذاته، وهذه أمور كانت دائمًا مهمّة له، حسب ما يكرّر، وهو يعدّ أنّ العطب الرئيسيّ في الحركات الشموليّة غياب البعد الأخلاقيّ، ورفع الأيديولوجيا، والدين في حالات أخرى، وكذلك الانتماء القوميّ، فوق الأخلاق. أمّا الحسّ الجماليّ المرتبط عادة بالتعبير عن المقدّس، فيتحوّل فيها إلى انفعال جماعيّ بالرموز، والانتماء أشبه بالهستيريا الدينيّة.

ثانيًا، أنّ ثمّة الكثير من المسائل الّتي يمكن قارئَ الكتاب أن يتناولها بالعرض والتحليل، وفق ما تحيل إلى ذلك عناوين فصوله الـ 13، وهي: العروبة وفلسطين واليسار؛ سورية: الجرح الراعف؛ العرب في الداخل والتجربة البرلمانيّة؛ اليسار وأطروحاته؛ النهضة والعلمانيّة والليبراليّة والبعث والناصريّة؛ فلسطين وياسر عرفات والسلام المستحيل؛ حزب الله وسورية والعنف؛ الثورات العربيّة والمسألة العربيّة؛ التشيّع السياسيّ والإسلاميّون الجدد؛ الديمقراطيّة والإسلام السياسيّ؛ الماركسيّة والعلمانيّة وفصل الدين عن العلم؛ تجربة الكنيست والخروج من فلسطين؛ العودة إلى ترشيحا. لكن بالارتباط بنا، لا بدّ من تناول مسألتين ذواتَي صلة، تتعلّقان بواقعنا هنا والآن، هما قضيّة فلسطين ومستقبلها، وقضيّة الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948.

ثالثًا، في أمر المسألة الثانية، فإنّ أكثر ما يسترعي الاهتمام مرحلتان من مراحل سيرة حياة بشارة في أراضي 48:

الأولى: مرحلة النضال الطالبيّ في المدرسة الثانويّة والجامعة؛ إذ شهدت وقائع كثيرة، في مقدّمها ولادة اللجنة القطريّة للطلبة الثانويّين العرب - الّتي تُعَدّ، بحقّ، أوّل تنظيم للفلسطينيّين في أراضي 48 على أساس قوميّ - وانتهت بالسفر لاستكمال الدراسة الأكاديميّة في ألمانيا الشرقيّة السابقة، حيث اصطدم بواقع المعسكر الاشتراكيّ، وبوجود فجوة كبيرة بين النظريّة والواقع، واكتشف كيف تتحوّل النظريّة إلى أداة تبريريّة، أو إلى أيديولوجيا في خدمة السلطة.

الثانية: مرحلة تأسيس حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، الّذي جاء في حينه (أواسط تسعينات القرن العشرين الفائت) بخطاب سياسيّ وفكريّ جديد، يتعلّق بكينونة الفلسطينيّين في أراضي 48، مشتقّ من التطوّرات الموضوعيّة ومدلولاتها. وبقدر ما شكّل هذا الخطاب سورًا منيعًا لحماية هويّة هؤلاء الفلسطينيّين، من احتمال انهيار لاح في إثر اتّفاق أوسلو (1993)، كان المشروع الأكثر جرأة وتماسكًا في سياق تحدّي المشروع الصهيونيّ ومؤسّسات دولة الاحتلال.

رابعًا، أنّ بشارة كان متميّزًا في السياسة وما تستلزمه من أداء نضاليّ؛ لكونه جاء إليها من طريق الصلة الحقيقيّة، بالثقافة والفكر من جهة، وبالحياة والمجتمع من جهة أخرى، وهو لم يدخل إلى معتركها في سبيل أن يستدرّ من خلالها قامة أطول من قامته الحقيقيّة، بجانب أنّه نأى بنفسه عن أيّة ممارسة شعبيّة، كانت تبهظه ولا تزال.

خامسًا، ضمن سياق الحديث عن اليسار واليسار الجديد، ركّز بشارة على مسألة الفهم المبكِر بأنّ إسرائيل تختلف، في ما يرتبط بهذا الصدد، عن أوروبّا اختلافًا جذريًّا، بصفتها دولة استيطانيّة عسكرتاريّة، وشدّد على أنّ المرء لا يمتلك خيار أن يكون يساريًّا فيها، من دون موقف واضح من الصهيونيّة وقضيّة فلسطين.

تعقيدات خاصّة: مسألة يهوديّة، وأخرى عربيّة

بالانتقال إلى قضيّة فلسطين، الّتي أرى ضرورة التمحور حولها في نطاق هذه الندوة، أبدأ بالاستنتاج الّذي يفيد بأنّ لدى بشارة، كما يتبدّى في الحوار، رصيدًا كبيرًا في مجال شقّ الطريق نحو الإستراتيجيّة الفلسطينيّة، المطلوبة لمواجهة الحال الّتي آلت إليها هذه القضيّة اليوم، ولتجاوزها، وذلك من طريق نهج يقوم على الأركان الآتية: تشخيص الواقع، وهيكلة المصلحة الوطنيّة الفلسطينيّة، وجوهر التفكير السياسيّ المطلوب، وتحديد الأهداف المرحليّة والبعيدة المدى.

وسأتوسّع أكثر في تناول الركن الأوّل.

ينطلق تشخيص بشارة للواقع من فكرة أنّ قضيّة فلسطين ذات تعقيدات خاصّة بها، أشدّها التعقيد الناجم عن تشابكها وتداخلها بمسألتين: المسألة اليهوديّة، والمسألة العربيّة؛ فالمسألة اليهوديّة في العالم، كما يؤكّد، جعلت الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة تبدو كأنّها حركة قوميّة، وإسرائيل كأنّها تعويض عن ظلم آلاف السنين لليهود، علاوة على أنّ العالم الغربيّ الاستعماريّ صدّر مشكلاته إلى منطقتنا، وتحديدًا المسألة اليهوديّة، بدلًا من أن يحلّها في بلاده؛ ولهذا صار موقف الغرب من الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين مختلفًا عن موقف الرأي العامّ العالميّ من الاستعمار في مرحلة ما بعد الاستعمار، فيما يرى الفلسطينيّون أنّ الصهيونيّة حركة استعماريّة استيطانيّة، مثل الاستيطان الفرنسيّ في الجزائر. أمّا ما يراه الغرب، فالموضوع مختلف تمامًا؛ لأنّه مثقل بأمرين: الأوّل، الثقافة الدينيّة اليهوديّة الّتي يتلقّاها أيّ طفل في الغرب، جزءًا من الثقافة المسيحيّة، ولا سيّما في الدول البروتستانتيّة. ولا يستطيع كثيرون أن يرَوا في الحركة الصهيونيّة حركةً استعماريّة، بل عودة إلى "أرض الميعاد"؛ ولهذا السبب، يصبح ثمّة نوع من التورّط العاطفيّ معهم. الثاني، أنّ الحركة الصهيونيّة تَعُدّ نفسها ناطقةً باسم المظلوميّة التاريخيّة لليهود في العالم.

ويؤكّد بشارة أنّ هذين الأمرين أهمّ عناصر تشابك المسألة اليهوديّة بقضيّة فلسطين، وجرّاء ذلك يصبح من الصعب التعامل مع المسألة اليهوديّة بصفتها مسألة استعمار يجب أن ينسحب من بلادنا إلى دولته الأمّ؛ ففي هذه الحال، لا توجد دولة أمّ لليهود، ولذلك استسهل العالم، تحديدًا العالم الغربيّ، رؤية قضيّة فلسطين على أنّها بدأت عام 1967، وأنّ احتلال الضفّة وغزّة استعمار، والدولة الأمّ إسرائيل. أمّا بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ، فإنّ فلسطين كلّها مستعمرة، لكن في مثل هذه الحال، لا توجد دولة أمّ ينسحب إليها المستعمرون، وهذا في حدّ ذاته موضوع معقّد يحتاج إلى تفكير من نوع آخر، يعتمد في جوهره على حلّ ديمقراطيّ.

أمّا العقدة الثانية الّتي تتشابك مع قضيّة فلسطين، فهي المسألة العربيّة، وكان بشارة مفكّرًا رائدًا في شأنها، وتوسّع فيها ضمن كتابه "في المسألة العربيّة"، الّذي يتطرّق إلى عدم حلّ مسألة حقّ تقرير المصير للأمّة العربيّة، وعدم تجسُّد القوميّة العربيّة في أمّة - دولة، ثمّ تجسُّد هذه الإشكاليّة في عدم شرعيّة الدولة الوطنيّة، وظهور إيديولوجيّات لها طابع فوق دولتيّ، مثل الوحدة الإسلاميّة والوحدة العربيّة وغيرهما، تنفي الشرعيّة عن الدولة الوطنيّة أو القُطْريّة كما ساد وصفها، وهي إيديولوجيّات تنزع إلى التعامل مع قضيّة فلسطين رمزًا إلى البعد الوحدويّ، أعربيًّا كان هذا البعد أم إسلاميًّا، وكان هذا الشأن يتضمّن بعدًا "أداتيًّا" في التعامل مع قضيّة فلسطين، بينما لجأت أجهزة الدول الوطنيّة أو القُطْريّة إلى اختراع هويّات لها، تضرب جذورها في رحم التاريخ الأوّل للإنسان. والأمر الآخر في قراءته، التفتّت العربيّ الّذي عوّق تأسيس دول ديمقراطيّة تبادر إلى شكل من أشكال الاتّحاد بينها، كالحالة الأوروبّيّة مثلًا، بل إنّ التشظّي العربيّ أطلق خلافات حادّة وتنافسًا صراعيًّا، ولا سيّما بين الدول الأقرب إلى بعضها من الناحية الإيديولوجيّة. وفي هذه الصراعات العربيّة - العربيّة، كانت قضيّة فلسطين موضوعًا رئيسيًّا على مائدة النقاش، لا تلبث أن تستخدم أداة سياسيّة، وهذا أثّر كثيرًا في حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ، وفي وحدتها الداخليّة وبرامجها السياسيّة، وأثّر في الصراع العربيّ - الإسرائيليّ أيضًا. وتلت هذين العاملين سلسلة طويلة من الأسباب والأوضاع الّتي تجعل إسرائيل وتحالفاتها العالميّة متفوّقة على الأنظمة العربيّة ومنظّمة التحرير، بما في ذلك عمليّة بناء الدولة.

وضيفَ إلى هذا التشابك، تحويل قضيّة فلسطين إلى صراع ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ عام 1967 فقط؛ الأمر الّذي تسبّب بتهميش أصل القضيّة، أي قضيّة اللاجئين والعودة، وفي هذا الشأن يقول بشارة: "كان رأيي دائمًا أنّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هي حركة لاجئين في الأساس، وأنّ هذه هي بنية منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وهذه هي بنية الفصائل المسلّحة، لكن عندما انتهى المفعول النضاليّ لهذه الفصائل، بفقدان جبهات التماس مع إسرائيل جبهة بعد جبهة، الأردنيّة في البداية ثمّ اللبنانيّة وإسكات الجبهة السوريّة، انتقل مركز الثقل إلى المناطق المحتلّة، وتجسّد ذلك في الانتفاضة الأولى، واستُغلّت هذه الانتفاضة للاعتراف بمنظّمة التحرير، الّتي نقلت مركز الثقل السياسيّ إلى الأراضي المحتلّة بعد اتّفاق أوسلو في عام 1993. ومنذ أن اختارت منظّمة التحرير طريق المفاوضات؛ أي استخدام الطاقة النضاليّة والوزن النوعيّ للفلسطينيّين في المفاوضات مع العدوّ الإسرائيليّ، حُمّلت الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة عبء القضيّة الفلسطينيّة، علمًا أنّها تكاد لا تتحمّل عبء تحرير ذاتها من الاحتلال. وبعد أن أصبحت المسألة القوميّة صراعًا فلسطينيًّا - إسرائيليًّا وليس صراعًا عربيًّا - إسرائيليًّا، صار ميزان القوى يتحكّم بالنتائج، وهو أمر بدهيّ، ومن الواضح تمامًا إلى أين يميل ميزان القوى بين الفلسطينيّين وإسرائيل؛ لذلك نحن نعيش اليوم مرحلة موت المفاوضات، وطريق المفاوضات بات في سبات شديد، وواضح أنّ إسرائيل معنيّة بالمفاوضات، لكنّها ليست معنيّة بوصول هذا الطريق إلى نهايته. هي تريد مفاوضات من أجل المفاوضات، وليس من أجل حلّ عادل. الهدف هو الانفصال عن الفلسطينيّين، في كيان فلسطينيّ منقوص السيادة على جزء من الضفّة الغربيّة. والهمّ الرئيس لديها هو التخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيّين، المحصورين في أصغر رقعة ممكنة من الأرض".

عودة تنفي حقّ العودة

ويشير بشارة إلى أنّه يَعُدّ اتّفاق أوسلو، من الناحية السياسيّة الواقعيّة، خطيئة وليس خطأ فحسب. أمّا في حالة اتّفاقيّتي مصر والأردنّ للسلام المنفرد مع إسرائيل؛ فالأمر يفسّر نفسه: اتّفاق سلام منفرد، أي من دون حلّ القضيّة الفلسطينيّة، بمعنى أنّه تخلٍّ عن الصراع العربيّ – الإسرائيليّ، من غير حلّ القضيّة الّتي تُعَدّ جوهر هذا الصراع، في المقابل، لم يحصل الفلسطينيّون على شيء لقاء "السلام المنفرد مع إسرائيل"، وكلّ ما حصلوا عليه الاعتراف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، لا الاعتراف بدولة؛ وهذا الإنجاز الرئيس في اتّفاق أوسلو، وهو ليس إنجازًا فعلًا؛ ففي النهاية، ضُحِّي بالمنظّمة على مذبح السلطة الفلسطينيّة، غير أنّ الاتّفاق أدّى إلى عودة جهاز منظّمة التحرير الفلسطينيّة، الّتي كان مُحرَّمًا عليها العودة إلى أيّ جزء من أراضي فلسطين، بيد أنّها عودة القلّة المشروطة بعدم عودة الكثيرين، عودة جزء من جهاز منظّمة التحرير من دون اللاجئين، ما يعني أنّها عودة تنفي، في العمق، حقّ العودة.

وينطلق تشخيص بشارة من تحليل أمر آخر في سياق تطوّر حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ، هو المقاومة، منبّهًا إلى تحوّل خطر في المصطلحات له مضامين ومدلولات عمليّة، ويعكس تغييرًا جوهريًّا في إستراتيجيّات التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، فيقول: انتقلنا بالمصطلحات من العمل الفدائيّ المسلّح إلى الكفاح المسلّح والتحرير، ثمّ إلى شعار المقاومة. والمقاومة في مفهومَيها الاصطلاحيّ والعمليّ لا تمثّل إستراتيجيّة مبادرة، بل إنّها دفاع عن النفس في نهاية المطاف. المقاومة في الضفّة الغربيّة مقاومة المحتلّ، لكنّها في غزّة ردع لإسرائيل كي لا تقوم بالاعتداء على القطاع وسكّانه. هذا هدف المقاومة، وما عاد التحرير هو الهدف. وفي يوم من الأيّام، كان الكفاح المسلّح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين. وعلى المنوال نفسه، تبدّلت المقاومة اللبنانيّة، فبعد أن كانت تتطلّع إلى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيليّ، ثمّ تحرير فلسطين، أصبحت بعد عام 2006 جزءًا من الإستراتيجيّة الدفاعيّة للبنان، وقوّة ردع في وجه العدوّ الإسرائيليّ كي لا يقوم بأيّ عدوان؛ أي أصبحت حالة دفاعيّة فحسب؛ أي تحوّلت من إستراتيجيّة التحرير إلى صيغتها المذهبيّة الشيعيّة. إنّ هذا التحوّل في ذاته يعني أنّ القوى المقاوِمة، أو قوى الردع بمعنًى آخر، عرضة دائمًا في عملها ومبادراتها لمقتضيات التوازن الإقليميّ في المنطقة. الأخطر من ذلك، أنّ إسرائيل ودولًا أخرى في المنطقة تعي هذا الأمر، وتتعامل إلى حدّ كبير مع هذه القوى في ضوء هذا الفهم.

وبهذا المعنى، كما يؤكّد، فإنّنا نناقض أنفسنا عندما نتحدّث عن تحرير، وعن اعتبار المقاومة مجرّد أداة دفاع عن النفس ضدّ الاعتداءات الإسرائيليّة في الوقت نفسه. وفي الوقت الحاليّ باتت القضيّة الفلسطينيّة أمام مفترق طرق؛ فالمقاومة المسلّحة أصبحت مجرّد إستراتيجيّة دفاع، ولا سيّما في قطاع غزّة الّذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005. والمقاومة في الضفّة الغربيّة خاضعة لشروط أمنيّة صعبة جدًّا، تتلخّص بتنسيق أمنيّ بين أجهزة السلطة الفلسطينيّة والأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، والمقاومات العربيّة سكتت مع سكوت الجبهات العربيّة. وخلص إلى أنّ هذه هي الحال اليوم، وهي ليست مفعمة بالأمل.

مهمّة رئيسيّة أمام الفكر السياسيّ الفلسطينيّ

بانتقالنا إلى الركن الثاني، نلاحظ أنّ بشارة صاغ المهمّة الرئيسيّة الماثلة الآن أمام التفكير السياسيّ الفلسطينيّ، وهي كيفيّة طرح قضيّة فلسطين كلّها في وجه إسرائيل والعالم كافّة، مشيرًا إلى أنّ التجديد الفكريّ الّذي يُطرح في هذه الحالة، المواطنة والمساواة لجميع الفلسطينيّين في دولة واحدة، ومؤكّدًا في الوقت عينه أنّ المجتمع الفلسطينيّ نفسه منقسم جدًّا، والمنظّمات السياسيّة الرئيسيّة مثل فتح وحماس، ترفض هذا الطرح، وتريد سلطة، وتريد حكمًا، وتريد أن يكون لها كيان معترف به عربيًّا وعالميًّا.

وربّما يجدر التنبيه هنا، إلى ما قاله بشأن علاقته بحركة حماس في هذه المرحلة، وكونها جاءت في سياق موقفه من العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، وقبل ذلك في إطار رفضه القاطع الحصار الدوليّ الّذي فُرض على نتائج انتخابات 2006، ثمّ محاولة أجهزة أمنيّة الانقلاب على نتائج الانتخابات، والانقلاب المضادّ الّذي قامت به حركة حماس. ولفت إلى أنّ الطرفين - حماس وفتح - ارتكبا ممارسات خاطئة، وحاولت حماس لاحقًا أن تفرض نمط حياة معيّنًا على غزّة، وهذا مرفوض، لكنّ الحصار والعدوان الإسرائيليّ بقيا بالنسبة إليه الموضوع الرئيسيّ؛ ولهذا وقف مع غزّة بقوّة ضدّ الحصار، ثمّ في جولات الحروب المتكرّرة عليها منذ 2008 - 2009، وكانت مبدئيّة الموقف هنا هي الأساس، ولا سيّما بوجود خصوم لحماس يأملون أن تقوم إسرائيل بتصفيتها. وعلاوة على هذا، أثار الموقف المصريّ الرسميّ في أثناء العدوان على غزّة وبعده نفورًا شديدًا لديه، وكذلك تعامُل السلطة الفلسطينيّة مع الأمر كأنّه صراع بين طرفين أجنبيّين.

هل يمكن الانتصار على إسرائيل؟

أخيرًا، وفي ما يخصّ الركن الثالث، سأقصر الحديث على جوابه عن سؤال فحواه: هل يمكن الانتصار على إسرائيل؟ وفيه يؤكّد أنّ من الممكن تحقيق إنجازات عسكريّة هنا وهناك، تقوم على الرهان على القدرة التنظيميّة، والمثابرة، ووضوح الهدف، ومحدوديّة قدرة إسرائيل على تحمّل الخسائر. وتسهم القوّة العسكريّة - على الأقلّ في حدّها الردعيّ - في منع إسرائيل من تحقيق هيمنة مطلقة وفعل ما تريد، أمّا إذا كان القصد الهزيمة العسكريّة الساحقة؛ بمعنى إنهاء وجود إسرائيل عبر معركة عسكريّة أو حرب، فيعتقد أنّ الأوان فات على ذلك في المرحلة التاريخيّة الّتي نعيشها على الأقلّ، والسبب وضع الأنظمة العربيّة وما أصبحت عليه حال الدول العربيّة، الّتي أصبح وجودها هو المُهَدَّد، ووضع إسرائيل من جهة أخرى، الّتي استغلّت الوقت لبناء قدرتها الاقتصاديّة والعسكريّة، ولا سيّما التسلّح النوويّ. وإذا كان السؤال عن الانتصار على إسرائيل انطلاقًا من مقاربات أخرى لمسألة الصراع معها، وما يترتّب عليها من معانٍ أخرى للانتصار، فالوقت ما فات عليه حتمًا، لكنّ هذه مسألة تحتاج إلى إستراتيجيّات مختلفة، وتتطلّب الإستراتيجيّات وجود رغبة حقيقيّة في الانتصار على إسرائيل، وتحجيم دورها في المنطقة، وحلّ القضيّة الفلسطينيّة حلًّا عادلًا، وإلغاء طابع إسرائيل الصهيونيّ مثلًا. وقال إنّه يمكنه طرح أفكار كثيرة في هذا الشأن، لكنّ شرط تنفيذها وجود مشروع حضاريّ سياسيّ عربيّ، تتغيّر من خلاله طبيعة الأنظمة العربيّة والقدرات العربيّة الاقتصاديّة والثقافيّة أيضًا، أو ما يمكن تسميته عناصر القوّة العربيّة. ونبّه إلى أنّ فكرة وجود دول عربيّة ديمقراطيّة متطوّرة، وحدها كافية كي تُهْزَم إسرائيل على المستوى العالميّ، وكي تُفقدها تميّزها المزعوم في المنطقة؛ لأنّ الديمقراطيّة تعني تملّك الشعب الحرّ ذاتَه من أجل أن يكون لذاته، وكي يسيطر على مصيره، علاوة على الطاقات الإنسانيّة العربيّة الّتي تفجّرها حالة من هذا النوع، وهذا مثال واحد، ويمكن إيراد أمثلة أخرى.

ويظلّ المهمّ في رأيه، أنّ الأمر يتطلّب إستراتيجيّة جديدة، والانتصار على التردّد، والتغلّب على الخوف من طرح الأفكار الجديدة.

ويمكن طبعًا أن نمضي على هذا المنوال بعيدًا؛ فثمّة الكثير من الأفكار الجديدة الأخرى، الّتي تستحقّ الاستجلاء في ثنايا الحوار مع بشارة، وجميعها لا تكسبنا المعرفة وتسلّحنا بها فحسب، بل توفّر متعة فهم التحدّيات، واكتشاف السبل الّتي ينبغي علينا سلوكها، كي نواجهها بما يلزم من أدوات التفكير والنضال. ولعلّ الأمر المتاح في سياق ندوة كهذه، بسط زبدة تلك الأفكار، وإنْ بنظرة طائر.

* نصّ مداخلة ضمن ندوة عن كتاب "في نفي المنفى - حوار مع عزمي بشارة"، عُقدت في "المها - مقهى ثقافيّ"، الناصرة، يوم 18/07/2018.

 

المصدر: موقع فسحة