تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

انشغال عزمي بشارة بـ"المسألة العربية".. ما بعد قشور الراهن العربي

2018-05-20

عز الدين التميمي

 

على طريقته في إنتاج معرفة تراكمية متناسقة، يستخدم المفكر العربي عزمي بشارة مفهومه المعروف "المسألة العربية" في معظم منتجه عن الدين والعلمانية والديمقراطية والحرية، وإن بشكل غير مباشر، ولا نجد مبالغة في القول إن فهم المسألة العربية، باعتبارها مجموعة من العوامل المتداخلة التي تعيق التحول الديمقراطي العربي، عتبة ضرورية، لا يجوز فهم منتج عزمي بشارة بدونها.

يبدأ بشارة في بلورته لمفهوم "المسألة العربية" بمساءلة وجود  قضية إسلامية أو استثنائية إسلامية في موضوع الديمقراطية أو التحول الديمقراطي، ويجادل أن أي مقاربة تقبل بثنائية الدين والديمقراطية مقاربة واقعة في خطأ جسيم. وسيجد المطلع مثلًا على المقدمة النظرية لكتابه المرجعي "المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، الصادر في نسختين من رام الله وبيروت عن مركز مواطن ومركزدراسات الوحدة العربية، أن طرحه لسؤال الديمقراطية والدين، وإن خصصه في الشأن الإسلامي والعربي، هو طرح شامل يقف ضد وضع أي ثقافة مقابل الديمقراطية، وهو بالتالي ينفي كون هناك ثقافة ديمقراطية أو ثقافة غير ديمقراطية، وكذا دين ديمقراطي أو غير ديمقراطي. واعتمد بشارة على هذه المحاججة تحديدًا في التقديم للجزء الأول من كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، الذي صدرت أجزاؤه على مدار السنوات الأخيرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

من هنا، يقترح المفكر العربي نموذجًا بديلًا عن المسألة الإسلامية، من أجل الإجابة على سؤال مركزي شغل جزءًا هامًا من مداخلاته النظرية، أي سؤال "لماذا لم ينجح التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟" ويعتمد هذا النموذج  على ما يسميه المسألة العربية. ولا بد قبل تبيان أسس هذا المفهوم، التوضيح أن بشارة لا يرى في الديمقراطية خلاصًا، بمنطق التصورات اللاهوتية ثم الحداثية عن التاريخ، ولا نتيجة نهائية للتطور التاريخي، ولكن باعتباره الخيار المطروح الأفضل من الاستبداد بالتأكيد، والذي لا يكفي نقده نظريًا وعمليًا، من أجل تجنب ويلاته. وفي الوقت نفسه، فإنه كما يوضح في غير مرة، لا يرى أن الديمقراطية هي نتيجة "طبيعية" يجب الوصول إليها أو من الحتمي الوصول إليها، كما افترضت هذه المقولات الخلاصية مرة أخرى، ولكن باعتبارها تجربة تاريخية، حدثت في سياق ما، ونتيجة لتفاعل ظروف محددة.

لا ترتبط المسألة العربية طبعًا بتعارض الثقافة بمعنى العادات والقيم والركائز الدينية والاجتماعية مع الديمقراطية أو التحول الديمقراطي، ومن قرأ كتب صاحب "في الثورة والقابلية للثورة"، يعرف أنه بعيد عن هذا المنطق، لكن هذا المسألة تكونت تاريخيًا نتيجة تفاعل ظروف عدة، بنيوية وسياسية واجتماعية، لعل أبرزها تشكل الدولة العربية الوطنية في ظروف خاصة، كان الاستعمار وشكل "تفكيكه" مركزيًا فيها.

وفي اقتراح حل لهذه المعيقات، يظل بشارة متسقًا مع طرحه ونزعته العروبية، فهو يرى العائق عربيًا، وإن اختلفت تجسيداته في كل دولة قطرية، ويرى كذلك الحل عربيًا، فيجادل أن الدول القطرية العربية لم تستطع تقديم نموذج بديل للأمة عن الأمة العربية، وكذا فإنها لم تقدم نموذجًا للمواطنة، لأن الدولة الوطنية العربية كانت بتعريفها، ناتجًا للتشكيلات الاستعمارية المباشرة، في بلاد الشام تحديدًا، أو عن التشكل الأول المشوه في مناطق عربية أخرى، وغالبًا ما كان الدفاع عن هذه التشكيلات متقاطعًا مع الدفاع عن بقاء الأنظمة والعائلات الحاكمة.

لم تكن هذه الدول بالتالي سوى "قشرة" تخفي خلفها فشل إنتاج الأمة، وتخبئ هويات قبل وطنية مثل الطائفة والعشيرة وسواهما.  ولعل اشتعال بعض الخلافات الطائفية في بلدان تهددت فيها "الدولة القشرة" بعد الربيع العربي، أشارت إلى صحة ادعاء بشارة الذي سبق كل ذلك. في نفس السياق، يطرح بشارة موضوع الهويات غير الوطنية، على غرار القبيلة، ويبين المآزق التي تضعها أمام بناء الأمة القائمة على المواطنة المتساوية، والتي تمهد للتحول الديمقراطي.

كما بين في كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة"، أن القبيلة حولت الانتخابات في كثير من الدول العربية إلى نوع من المشهدية غير الديمقراطية، إذ لم يكن التنافس بين الأحزاب والمرشحين على التمثيل الأفضل لمصلحة الأمة، ولكن على التمثيل الأفضل لمصلحة القبيلة، وصارت الوعود وعودًا بتحسين أوضاع القبيلة أو الجهة بدلًا من أن تكون وعودًا بتحسين أوضاع الأمة.

ليست العروبة شرطًا من أجل تحقيق الديمقراطية، يؤكد عزمي بشارة، وهو العارف بحكم موقفه المناصر للثورات العربية، والمناهض للدكتاتوريات، أن تأجيل التحول الديمقراطي إلى ما بعد تحقيق أي هدف كلي، هو المنطق الذي لم تنفك الأنظمة عن استخدامه، من أجل تسخيف قضايا الديمقراطية والحريات واستبعادها. في تجنب ذلك، فإنه يرى أن طرح مفهوم جديد للعروية، مختلف عن الصورة التي اقترحتها الأنظمة القومية العربية، وهي الصورة التي كانت أقرب إلى الفاشية، هو ما يحول هذا الأمل إلى المطلب الأكثر واقعية من الواقع المشوه نفسه، بدلًا من أن يكون حلمًا رومانسيًا تتذرع به الأنظمة من أجل تمرير القمع والسيطرة. 

يساجل بشارة في معظم كتبه المذكورة، إضافة إلى كتبه عن المجتمع المدني والثورات العربية، أن الدولة الوطنية التي تقوم على مشاريع المواطنة والأمة، هي مكمل للعروبة بهذا المعنى، لا كما هو متوقع من تناقض بين هويتين شاملة وجزئية، والسبب في ذلك، أن العروية تشكل فرصة وحيدة لتحقيق رافعة للأمة والمواطنة، الذين تحتاجهما الدولة الوطنية العربية، إذا أرادت أن تتجاوز مخلفات وعوالق الاستقلال الأول، بعد أن فشلت في إيجاد أي رافعة أخرى.

ليس العائق إذن عائقًا دينيًا، لكن الحل أيضا لا يتعلق بالدين. تتجسد هنا وفي هذه المقولة مجادلة بشارة حول التحول الديمقراطي العربي. إنه مسألة عربية، بما يعني أن الموانع والحلول والطرائق تتعلق بالعروبة، لكن بالمعنى الذي لا يتناقض بالضرورة مع الدول القطرية. ويتضمن هذا الطرح عدة نقاط أساسية.

 أولًا، اختار بشارة على ما يبدو أن ينأى بطرحه عن ثنائيات الاستشراق التقليدية، فالرد على مقولات الاستشراق لا يجب أن يكون بالضرورة في عكسها، وثانيًا فإنه يساجل مجموعة من القراءات التي فهمت الديمقراطية باعتبارها قضية ثقافية كاملة، بمعزل عن الظروف البنيوية التي أنشأتها، والتي أحالت الأمر في النهاية إلى تفوق مستبطن في الحضىارة الغربية. وأخيرًا فإن هذا الطرح يقف على بعد كافٍ من الآمال العربية بالتحديث، التي آلت في آخر ما آلت، إلى الاعتقاد بأن الحداثة والديمقراطية، مسألتان ثقافيتان، تكفي فيهما الإجابة على سؤال "كيف نصل إلى الحداثة وإلى الديمقراطية" من أجل الوصول إليهما.

على النقيضمن ذلك كله، لا يقف بشارة في صف المستشرقين ولا في صف من انشغلوا بمناكفتهم، ولا يقف في صف الدكتاتوريات التي روجت لاستثنائية عربية ضد الديمقراطية بالمطلق، ولا في صف منظري النهضة العربية، الذين استسهلوا التغيير وأحالوه إلى قشور ثقافية.

 يقع طرح بشارة بين كل ذلك بفرادة ساطعة، فهو يدرك أن التغيير ممكن، لكن ثمة ظروف تقف أمامه، يسميها المسألة العربية، وفي نفس الوقت، وهذا هو الأهم، ينظر بشارة إلى أن الاستثناء هو الديمقراطية، وليس غيابها. وهذا لا يعني طبعًا التفوق الحضاري للشعوب التي تطورت الديمقراطية عندها، ولكنه يعني أن تطور الديمقراطية حدث في سياقات خاصة ومحلية، وبالتالي فإنه رغم كونه من المطالبين الرياديين بالتحول الديمقراطي العربي، لا يعتقد أن هذا التحول مسار كوني وحتمي، خاصة أنه من ناقدي التصورات الكبرى عن مسار العالم والتاريخ، وبالتالي فإنه لا يجد أن عدم توفر هذه الظروف يمثل استثنائية عربية، لكن وجودها  في لحظة ما وفي سياق ما في التاريخ الأوروبي كان استثناء.

في ظل كل ذلك، لا يستغل بشارة كما يفعل كثير من مناصري الاستبداد، نقد الادعاء بكونية الديمقراطية، من أجل الوقوف ضدها، أو من أجل التوقف عن المطالبة بها. وقد أوضح في أكثر من موضع، أن الوقوف ضد الديمقراطية بحجة أوروبيتها أو غربيتها، كان حجة الثورة المضادة. يوازن بشارة بين ذلك كله، ويقف مع النقد، لكنه ينبه دائمًا، ويحذر من تحوله إلى بروباغاندا لمناهضي التغيير.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية

يمكن قراءة معظم منتج عزمي بشارة في سياق تبيان المسألة العربية كما أسلف، ففي كتبه عن الثورات العربية، يوضح تحديات التحول الديمقراطي العربي من خلال ركائز هذه المسألة، وقد بين ذلك في استعراضه لمسار القضية المصرية، وكذا في كتابه عن الثورة التونسية، وفي محاولة تأطير الثورة السورية، ويمكن القول إنه ركز بشكل واضح على عامل مهم في المسألة العربية برمتها، في كتابه عن الجيش والسياسة، الذي صدر العام المنصرم، إذ استند فيه على نماذج عربية عدة أهمها دول الربيع العربي.

سيبدو بوضوح للمطلع على أعمال عزمي بشارة، أن المفكر المنشغل بقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي والحرية، لا يقدم في شغله عن المسألة العربية مجرد توطئة للإجابة على سؤال محدد، أو لفهم قضية بعينها، وإنما يمهد لبناء نظرية عربية، غير موجودة ربما، لا تستند حصرًا إلى التنظير الأوروبي التقليدي للديمقراطية، أو إلى النقد الأوروبي أيضًا لها، فتضيع بينهما، وإنما محاولة عربية خالصة للتفاعل مع هذه المفاهيم والظواهر.