تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

نوعان من المراحل الانتقالية وما من نظرية

2014-03-30

محاضرة في افتتاح المؤتمر السنوي الثالث للعلوم الاجتماعية

د. عزمي بشارة

يَصعبُ الحديثُ عن نظريّةٍ تاريخيّة خاصّةٍ بالمراحلِ الانتقاليّة عمومًا، بل يستحيلُ برأيي؛ فما يُقال عَن المراحلِ الانتقاليةِ عمومًا يُمكنُ قوْلُه عَن مراحلَ "غير انتقالية"، إذَا صحَّ التعبير. المسألةُ فقطْ أنَّنا قُمْنا بتحديدِها كمرحلةٍ انتقاليةٍ من منظورِ التحقيبِ التاريخي الذي يتّفِقُ عليه المؤرِّخون في كلِّ مدرسةٍ فكريّة. وهذا شيءٌ يَعرفُه المؤرِّخون جيّدًا؛ فالتحقيبُ هو عملٌ انتِقائيٌّ مِن صُنْعِهم، ولا يطابِقُ بالضرورة مرحلةً تاريخيةً "مُكتملةً" لها " بدايةٌ ونهاية"[1].

وهذا غيرُ الوعْيِ بالانتقالية في الحاضر؛ كأَنْ أَفتتحَ كلامي اليومَ مثلًا بالقول: إنَّنا في الوطن العربي نعيشُ مرحلةً انتقاليةً بعد فترةِ جمودٍ بدَتْ فيها الأنظمةُ العربيةُ على ما استقرَّتْ عليه منذُ نهايةِ الستينيّاتِ وبدايةِ السبعينيّاتِ، وإنَّ الثورةَ التونسيةَ افتَتحتْ هذه المرحلةَ الانتقاليّةَ دون أنْ تقصِدَ ذلك، وإنَّ هذه التوتُّراتِ، والاقتحاماتِ، والارتداداتِ، والثورةَ والثورةَ المضادّةَ هي مِنْ سِماتِها. في هذه الحالةِ تشتغلُ بُؤرةُ المتكلِّمِ، ويُضْفِي المتكلِّمُ معنًى على عدمِ الاستقرار، وانعدامِ اليقينِ وكأنَّها ظواهرُ عابرةٌ في الطريقِ إلى تحقيقِ غايةٍ بما يَشِي بنوعٍ من تاريخانيةٍ غائيّةٍ عامّةٍ تُحدِّدُ اشتغالَ منظورِ المتكلّم. والمَعنى هذا مشتَقٌّ مِنْ تصوُّرٍ مُفادُه أنَّ المرحلةَ الحاضرةَ ليست قائمةً بذاتِها؛ فالمتكلِّمُ يتَصوّرُها ويتصوّرُ زمانَه كجسرٍ معلَّقٍ يقودُ إلى ضفّةٍ أخرى مَعلومةٍ له ولِمَنْ يفكِّرُ مثلَه، ومجهولةٍ لآخَرين. ففي لحظةٍ ما تَغيبُ ملامحُ مرحلةٍ قبْل اتِّضاحِ ملامحِ المرحلةِ الحافِلةِ بالاحتِمالات. وهنا يكونُ الفرقُ بيْن متكلِّمٍ وآخرَ ليس فرقًا في التحليلِ والتشخيصِ فحَسْب، بل هو فرْقٌ في الإيمانِ بالغاية أيضًا؛ فثمَّةَ مَنْ يفقِدون الثِّقةَ، وآخرون فاعلون يستنطِقون التاريخَ بالوُعود. والمرحلةُ أَشبهُ ما تكونُ بحَلْبَةِ صِراعٍ بين قوَى الماضي وقوَى التغييرِ والتجديد.

الانتقال بوصفه نتاجًا للتحقيب

الانتقاليةُ بوصفِها سمةً للظواهر تبدو "موضوعيةً"، وتميّزها عمّا هو ليس انتقاليًّا، هي تلك المترتِّبةُ على تصوّرٍ عضوي بيولوجي للظواهرِ الاجتماعية؛ فنحنُ مثلًا نقولُ إنَّ المراهقةَ مرحلةٌ انتقاليةٌ لأنَّها تتوسّطُ بين مرحلةٍ أُولى ومرحلةٍ أخيرة مِنْ حياةِ الإنسان، وفيها بعضٌ مِن الطفولةِ وبعضٌ من البُلوغ، وفيها بعضٌ مِن الصراعِ بينَهما، وبعضٌ مِن القلقِ وعدمِ اليقينِ، وبعضٌ مِنْ نَفْيِ الذاتِ وتأكيدِها في الوقتِ ذاتِه. ويترتَّبُ على تصوّراتِ النُّشوءِ والازْدهارِ والأُفولِ في الكائناتِ العضويةِ، وتشبيهِ الحِقبِ التاريخيةِ بها، مراحلُ انتقاليةٌ تَنْقُلُ الكائنَ العضويَّ مِنْ مرحلةٍ إلى أخرى.

وفي حالةِ الكائنِ العضوي الواعي يُصبحُ السؤالُ عن الانتقالِ من مرحلةٍ إلى أُخرى مِنْ دونِ أنْ يفقدَ الكائنُ هُويّتَه، والتي تَبدو كالثابتِ في المتحوِّلِ، ليبقى هوَ هو، أو هوَ ذاته عبْرَ التغييرِ والتبديل. وهذا ما تُشتقُّ منه دلالاتُ مفرداتِ هويّةٍ وذَاتٍ. وهذا ما يَنْقُلُه العقلُ الجمعيُّ القائمُ على هُويّةٍ راهنةٍ إلى عمليةِ فهْمِ التاريخِ كتاريخِ هذه الهُويّةِ التي تتخيَّلُ وكأنَّها ثابتةٌ عبْرَ التاريخِ، وكأنَّها الـ "أنا" الواعيةُ لذاتِها في التحوُّلاتِ منْ مرحلةٍ إلى أخرى.

وإذَا نحَّيْنا جانبًا هذه المقارباتِ العضويةَ، أو البيولوجيةَ، نبْقَى مع التاريخِ كصيرورةِ تبدُّلٍ وتغيُّرٍ، لا تُختزَلُ أيُّ مرحلةٍ فيه على الانتقالِ فقط. فبِما أنَّه لا توجدُ بدايةٌ ونهايةٌ كمَا أَشرنا في فاتحةِ هذا الحديثِ، وبُزوغٌ وأُفولٌ، تُصبحُ كلُّ مرحلةٍ انتقالًا إلى ما بعدَها أيضًا. ويبقَى كلُّ انتقالٍ مَنُوطًا بالتَّحقيب، أَيْ بوضْعِ الحدودِ بين المراحلِ، ووَسْمِ كلِّ مرحلةٍ محدَّدَةٍ بصفاتٍ تميِّزُها وتبرِّرُ هذه الحدودَ؛ ليصبحَ السؤالُ: انتقالٌ مِنْ ماذا إلى ماذا؟

والتحقيبُ بهذا المعنى لا يَضعُ حدودًا زمنيّةً تعسُّفيةً فاصلةً، بلْ يَضعُ حدودًا بينَ ظواهرَ يُفترضُ أنَّ لها سماتٍ أساسيةً مشترَكةً تُميِّزُها عَنْ غيرِها. وبهذا فهو نموذجٌ في تفسيرِ التاريخ، قد يستقِرُّ على نموذج (براديغم). ويُستعانُ في تحديدِ هذه السِّماتِ التي تميِّزُ حِقْبةً بتواريخَ معيَّنةٍ، يُشارُ عادةً إلى رمزيّتِها مثْلَ سقوطِ روما كبدايةٍ للعصرِ الوسيط، وعامِ "فتحِ القسطنطينية"، و"اكتشافِ أميركا"، أو معاهدةِ وستفاليا، أو مرحلةِ غاليليو - نيوتن، أو عامِ الثورةِ الفرنسية، أو صعودِ عائلةِ الميجي لحكمِ جزُرِ اليابان، أو بَدءِ مرحلةِ التنظيماتِ العثمانية، أو الحربِ الأهلية في أميركا، أو حربِ القرم، أو الحربِ العالميةِ الأُولى كبدايةٍ لِمَا يُسمَّى بالمرحلةِ المعاصرةِ في تمييزِها عَن الحداثةِ عمومًا... وغيرِها.

ويُفترَضُ أنَّ الحِقَبَ التاريخيةَ ذاتَ السِّماتِ العامّةِ المميّزة مثلَ الرأسمالية، والمجتمعِ الصناعي، والإقطاعِ، ونمطِ الإنتاجِ الآسيوي، والمرحلةِ الليبراليةِ، والحضارةِ الهيلينيةِ، وعصرِ النهضة، والعصرِ الوسيط، وعصرِ الملَكيةِ المطْلَقة... وغيرِها، ليستْ مراحلَ انتقاليةً ما عدَا في بداياتِها ونهاياتِها. ويُفترَضُ أنَّها تشكِّلُ ظواهرَ قائمةً بذاتِها لها سِماتٌ مخصوصةٌ (سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية)؛ بحيث تعيدُ إنتاجَ نفسِها بقوانينِها الداخليةِ، وتعيدُ إنتاجَ السِّماتِ التي تميِّزُها حتّى تَطبعَ هذه السّماتُ المرحلةَ بطابعِها، وهذا ما يميِّزُها عن المراحلِ الانتقالية.

وغالبًا ما يدورٌ نقاشٌ حوْلَ دقّةِ التحقيبِ؛ فيبرزُ مؤرِّخٌ لديه معطياتٌ جديدةٌ يُثْبتُ أنَّ هذه التعميماتِ ليس لها أساسٌ حقيقي، وأنَّها تستنِدُ إلى سرديَّة، أو أنَّها ليست سماتٍ تميِّزُ المرحلةَ كلَّها، فضْلًا عَنْ تأكيدِ المؤرِّخِ الجديدِ هذا على ضرورةِ تحديدِ حدودِها المكانيَّةِ أو المجالِيَّة. فماذا تعْنِي هذه المراحلُ خارجَ أوروبا، أَوْ خارجَ حَوضِ المتوسِّط؟ وما معْنَى مصطلَحِ عصرِ النهضة خارجَ إيطاليا؟ وما معنَى عَصْر النهضة خارجَ ثورةِ الفنونِ التشكيلية ونُشوءِ الفكرِ المتعلِّقِ بمنطقِ الدولة؟ ولا يلبَثُ أنْ يقولَ قائلٌ إنَّ النهضةَ الأوروبيّةَ ليست مرحلةً قائمةً بذاتِها، بل هي مرحلةُ انتقالٍ نَحْوَ الحداثةِ في أوروبا، وهكذا.

في هذه الحالةِ تُحدَّدُ المراحلُ الانتقاليةُ كمراحلَ لا تضبِطُها قوانينُ إعادةِ إنتاجِ الذاتِ، بل إنتاجِ الآخر؛ إذْ ليس لها منطقٌ داخلي، ومنطقُها مستمَدٌّ مِنْ أُفولِ ما انطلقَتْ منه، وبُزوغِ ما يَلِيها وتَقودُ إليه. وهي لذلك غالبًا ما تكونُ عاصفةً، تتَّسِمُ بالسُّيولةِ وعدمِ الاستقرار، وانعدامِ اليقينِ، ومعه الشعورُ بالأمنِ والثقةِ بما هو قائمٌ؛ لأنَّ ما كان يَتلاشى، وما سوفَ يكونُ لم يتَّضِحْ بَعْدُ. وغالبًا ما تَبحثُ العلومُ الاجتماعيةُ في أثرِ انْهيارِ  المؤسّساتِ والمسلّماتِ والأعرافِ، وتَغيُّرِ أنماطِ الوعي... والقلاقلِ الأهلية، وانهيارِ ممالكَ وقيامِ ممالكَ أخرى في السلوكِ الإنساني.

إنَّها مرحلةُ الأزماتِ الكبرى. فكُلُّ الانتقالاتِ أزَماتٌ. وهي مرحلةٌ تَتَّسمُ في التواريخِ كافّةً بِبروزِ حركةِ أفكارٍ جديدةٍ وانْطلاقِها.

إنَّ تحديدَ ما يُعَدُّ مرحلةَ انتقالٍ بين الحِقبِ التاريخيّةِ، هو نتاجُ تحديدِ الحقبِ ذاتِها. وهذا بحدِّ ذاتِه أمرٌ مطروحٌ للنِّقاشِ؛ لأنَّ المرحلةَ التي يُكتَبُ فيها التاريخُ غالبًا ما تَعُدُّ ما سبقَها مرحلةً انتقاليّةً إليها. خُذْ مثلًا اعتبارَ ألفِ عامٍ من تاريخِ أوروبا عصرًا وسيطًا له بعضُ المميِّزاتِ الخاصّةِ به. ومِنْ وجهةِ نظرِ مَنْ عَدَّهُ وسيطًا كان  عصْرَ ظُلماتٍ يَتوسّطُ ما بين كلاسيكيّتيْن: المرحلةُ الهيلينية من جهةٍ والنّهضةُ التي تشكِّلُ كلاسيكيةً متجدِّدةً من جهةٍ أخرى؛ فهو مرحلةٌ انتقاليّةٌ فارغةٌ مِنْ صفاتِ ما سبِقَها وما تَلاها. وهذا الفراغُ ما يجعلُه عصرَ ظلماتٍ، لأنَّها لا تُوصَفُ بِما فيها، بل بِما ليْس فيها مقارنةً مع ما كان قبْلَها، وما جاءَ بعْدَها. لَوْ صحَّ ذلك، تكونُ المرحلةُ الانتقاليّةُ أطولَ بأضعافٍ من المرحلةِ التي تَعُدُّ نفسَها حقبةً قائمةً بذاتِها. وكمَا تَعلمون، غالبًا ما يُقسَّمُ العصرُ الوسيطُ أيضًا إلى عصرٍ وسيطٍ مبكّرٍ وعصرٍ وسيطٍ أوسطَ، وعصرٍ وسيطٍ متأخِّرٍ. والأوّلُ والثّالثُ هما مرحلتان انتقاليّتان بحدِّ ذاتِهما.

وتَعُدُّ نُسخٌ خلاصيةٌ من الأيديولوجيةِ الماركسية المجتمعاتِ الطبقيّةَ برمّتِها مرحلةً انتقاليّةً من المشاعيّةِ البدائيّةِ إلى الشيوعيّةِ المتطوِّرةِ، مثلَما أنَّ الحياةَ الدنيا جسرٌ من الولادةِ حتى العالَمِ الآخر، أو دربٌ من الآلامِ نحوَ الخلاصِ في المسيحيةِ الأولى، أو نحوَ التحرّرَ من الدنيا في الصوفيّاتِ عمومًا، ونحوَ مملكةِ المسيحِ على الأرضِ في الحركاتِ الخلاصيَّةِ في العصورِ الوسْطى المتأخِّرة. وهذه تاريخانيّةٌ ميتافيزيقيةٌ صِرْفةٌ مُقَوْلَبَةٌ في مذهبيةٍ تاريخانيةٍ تدَّعِي على المستوى المعرفي أنَّها ماديةٌ. وقد تَعاملَ أوغست كومت في تحقيبِ تاريخِ الفكرِ مع الميتافيزيقا والتفكير الفلسفي كمرحلةٍ انتقاليّةٍ من الثيولوجيا واللاهوت إلى التفكيرِ الوضعي العلميّ.

لاحِظْ هنا أنَّ في النظرياتِ الخلاصيةِ التي تَدفعُ التاريخَ نحوَ غايةٍ، ثمَّةَ لاهوتٌ للتاريخِ يُقسِّمُه إلى مراحلَ ثلاثٍ دائمًا تُحاكي التاريخَ المقدَّسَ: الوسطى هي مرحلةُ الانتقالِ إلى الخَلاص، مثلَما قَسَّمت الأخويّةُ الـ "يواكيمية" في نهايةِ العصرِ الوسيطِ التاريخَ كلَّه كمرحلةِ الأبِ منذُ عهدِ آدمَ ونوحٍ وإبراهيمَ، ومرحلةِ الابنِ التي تلَتْ قدومَ المسيحِ، وُصولًا إلى مرحلةِ الروحِ القُدس، وهي  مرحلةُ الخلاَصِ في مملكةِ الرُّوح.

عَرفَ تاريخُ الفلسفةِ نقاشاتٍ حولَ التطوُّرِ، ولا سيَّما تلك النقاشاتُ ذاتُ العلاقةِ بالتغيُّرِ التدريجي الذي تُسمِّيه بعضُ الفلسفاتِ خطأً برأْيِنا بالتَّراكمِ الكمِّي، وعلاقتها بالطفرةِ أو القفزةِ التي تُسمَّى خطأً تغيّرًا نوعيًّا. فما يبدو مِنْ منظورِ علمٍ معيَّنٍ تغيّرًا كمّيًّا يُحسَبُ رقميًّا، هو مِن منظورِ علمٍ آخرَ تَغيّرٌ في السِّماتِ والصفاتِ. وثمَّةَ نقاشٌ في نظرياتِ التطوّرِ، هل التطوّرُ هو تغييرٌ من البسيطِ إلى المركَّبِ؟ وهلْ هو تغييرٌ للأفضلِ كمَا يُؤْمنُ أصحابُ فكرةِ التقدُّم؟ ولكن هذا نقاشٌ آخرُ تمامًاـ ولا علاقةَ له بموضوعِنا؛ فنحنُ لا نَبحثُ في مفهومِ التطوُّر.

ثمّةَ صعوبةٌ وحتّى اسْتحالةٌ في وضْعِ نظريّةٍ في المراحلِ الانتقاليّةِ التاريخيّةِ تتجاوزُ "القوانينَ" التي تضعُها الفلسفاتُ التاريخيانيّةُ صاحبةُ الاجتهادِ في وَضْعِ قوانينَ تُوجِّهُ عمليّةَ التحوّلِ التاريخي، بحيثُ تَقودُ إلى مرحلةٍ أخيرةٍ، أو غاية، هي مرحلةُ سيادةِ العدلِ والمساواةِ، أَوْ مرحلةُ سيادةِ العقلِ، أو مرحلةُ الرُّوحِ، مرحلةُ لقاءِ الإنسانِ معَ جوهرِه المتمثِّلِ بالحرِّية. وحتّى هذه النظرياتُ في فَهْمِ حركةِ التاريخِ الموجّهةِ إلى غاية، إنَّما تَقترحُ عليْنا تفسيرًا للانتقالِ من حقبةٍ إلى أخرى كانتقالٍ ناجمٍ عن تحوّلاتٍ اقتصاديّةٍ، أو سياسيّةٍ، أو دينيّةٍ تَراها هي جوهريّةً في صُنْعِ الانتقال. ولكنّها لا تستطيعُ أنْ تضعَ نظريّةً عن طبيعةِ المراحلِ الانتقاليّةِ بحدِّ ذاتِها بِغَضِّ النظرِ عمّا سبقَها وما يَلِيها. فنظريةُ الصراعِ بين قوى الإنتاجِ وعلاقاتِ الإنتاج، أَيْ علاقاتِ المِلكيةِ السائدة، تَقترحُ علينا نموذجًا تفسيريًّا عن محرِّكٍ داخليٍّ يَنقلُ التاريخَ مِن نمطِ إنتاجٍ إلى نمطِ إنتاجٍ آخرَ، ولكنّه لا يحدِّدُ طبيعةَ المراحلِ الانتقاليةِ سوى في أنَّها تَقعُ في نهايةِ نمطِ إنتاجٍ وبدايةِ آخرَ، وتحتفِظُ بدايةً بـ "البنى الفوقية" السياسيةِ والحقوقيةِ وأنماطِ الوعيِ، وأنَّ هذه تتغيّرُ لاحقًا حين يَكتملُ نمطُ الإنتاجِ، ويُنتجُ "بناه الفوقيةَ" الملائمةَ له. وتُخالِفُها نظرياتٌ أخرى في ذلك تَرى التغييرَ السياسيَّ سابقًا على الاقتصادي، أَوْ ترَى في تغيُّرِ أنماطِ الوعيِ محرِّكًا أهمَّ للانتقالِ من مرحلةٍ إلى أخرى.

وقد تَبيّنَ لنا أنَّ نظرياتِ التطوّرِ هذه كلَّها مأخوذةٌ من دراسةِ نشوءِ الرأسماليةِ أو المجتمعِ الحديثِ ممَّا سبِقَه ، وأنَّها أُسقِطَتْ على التاريخِ بأكملِه.

ما دُرِسَ فعلًا هو الانتقالُ إلى مرحلةِ الإنتاجِ الرأسماليةِ، أو من المجتمعِ التقليدي إلى المجتمعِ الحديث، أو مِن المجتمعِ الـ "فيودالي" إلى المجتمعِ البرجوازي، ومن الاقتصادِ الزراعي إلى الاقتصادِ الصناعي. وهذا ما تَخَصّصتْ به غالبيةُ الدراساتِ التاريخيةِ حولَ مراحلِ الانتقال. ونحتاجُ هنا إلى تخصُّصاتٍ أضيَقَ؛ مثلَ أنْ نَدْرسَ ما يَعُدُّه مؤرِّخٌ ما مرحلةً انتقاليّةً بين الإقطاعِ والرأسماليّةِ لأنَّه يقومُ بتحقيبٍ كهذا للتاريخ؛ فيقومُ بدراسةِ مناطقِ التخومِ الزمانيّةِ بين مرحلةٍ وأخرى في بلدانٍ مرَّتْ بهذه التحوّلاتِ، دارِسًا طبيعتَها كمَا فعلَ ماركس في مرحلةِ الانتقالِ مِن الإقطاعِ إلى الرأسماليّة، حينَ درَسَ خرابَ العلاقاتِ الزراعيةِ في بريطانيا، وتأثيرَ تقسيمِ العملِ والثورةِ الصناعية في نشوءِ العملِ المأجور. وكذلك ﭭيبر ودوركهايم في دِراستِهما لمراحلِ الانتقالِ من المجتمعاتِ التقليديةِ إلى المجتمعاتِ الحديثة. هنا بحثَت الموضوعَ علومٌ أكثرُ تخصُّصًا مثلَ السوسيولوجيا والاقتصادِ والأنثروبولوجيا والدراساتِ الثقافيّةِ بتداخُلِها المطلوبِ لمحاولةِ الإلمامِ بطبيعةِ مرحلةٍ ما.

وأغلبُ هذه العلومِ نشأَ على كلِّ حالٍ منْ خلالِ التصدِّي لدراسةِ آثارِ التحوُّلِ إلى المجتمعِ البرجوازي، أَو الرأسماليةِ، أو الحداثة. ومِنْ هنا نَشأَتْ نظرياتٌ مثلَ الاغترابِ الذي يميِّزُ الانتقالَ من العملِ الحِرفي المهني إلى العملِ المَأْجور، وما يُسمِّيه دوركهايم أيضًا في كتابِه عن ظاهرةِ الانتحارِ بالـ "أنومي"anomie normlessness الناجمةِ عَن انهيارِ أعرافِ مجتمعٍ معيَّنٍ وتقاليدِه، قبلَ نُشوءِ أعرافِ مجتمعٍ آخرَ وتقاليدِه؛ أَي انْهيارِ المرجعياتِ، والتشوّهاتِ الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ الناجمةِ عَنْ فِقدانِ الوِجهةِ وفِقدانِ المعنى، والظواهرِ الناجمةِ عن عمليّةِ نزْعِ السِّحْرِ عن العالَمِ والفَردنةِ ونشوءِ البيروقراطيّةِ وتأثيرِها في المجتمعاتِ التقليديّةِ عند ماكس ﭭيبر. ثَمّةَ خِبرةٌ كبيرةٌ في تفسيرِ ظواهرَ اجتماعيّةٍ محدَّدةٍ بكونِها نتاجَ عمليّةِ انتقالٍ من حالةٍ إلى أخرى. وقد تكونُ الحالاتُ التي تصلُ المرحلةُ الانتقاليةُ بينَها مثلَ جِسْرٍ (على حدِّ تعبيرِ إيمانويل كانت في نقدِ ملكة الحكم)، نظامًا اقتصاديًّا معيَّنًا أو بنيةً اجتماعيّةً، أو ثقافةً معيَّنةً بِغضِّ النظرِ عن النظرياتِ التي تَدْرسُ العلاقةَ بين هذه العناصرِ.

لقدْ نشأَ علمُ الاجتماعِ مع الهزّاتِ الاجتماعيةِ في مرحلةِ التصنيعِ والتحديث. ففسَّرَها ﭭيبر كعمليةِ عَقْلنةٍ تَقودُ إلى قَفَصِ البيروقراطيةِ الحديديِّ، بينَما شدَّد جورج زيمل على مجهوليّةِ الإنسانِ وغُربتِه مع تَفكُّكِ الجماعةِ الأهليّةِ في الحياةِ المدنيّة. أمَّا دوركهايم، فدرسَ تآكلَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ وعُزلةَ الأفرادِ، وظواهرَ فِقْدانِ التوازنِ مع عدمِ القدرةِ على التكيُّفِ على فِقدانِ العُرْف.

واشْتُقَّ مِن كلِّ هذه النظرياتِ فَهْمُ الأصوليةِ والقوميةِ كبحثٍ عن هُويّةٍ جديدةٍ وجماعةٍ مُتخيَّلةٍ بدلَ الجماعاتِ التي تَفكَّكت.

وقد استُنسِخَ الكثيرُ من العلومِ الاجتماعية التي نَشأتْ لدراسةِ هذه المرحلةِ إلى عملية دراسةِ الانتقال مِنْ مجتمعٍ تقليدي إلى مجتمعٍ مستعمَرٍ في الشرق، ومن بلدانٍ مستعمَرةٍ إلى دولٍ مستقِلَّة. وجميعُها حالاتٌ انتقاليّةٌ تُدرَّسُ من زاويةِ نظرِ تحديدِ النظريّةِ الاجتماعيّةِ أو السياسيّةِ أو الاقتصاديّةِ أو التاريخيّةِ لـِ "ما قبل" و"ما بعد"، وغالبًا ما تكونُ تفرّعاتٍ عَن نظريةِ التحديث.

2.

لا يوجدُ انتقالٌ مجرَّدٌ، أو انتقالٌ بذاتِه من دونِ تحديدٍ لانتقالِ ماذا، ومِن أين، وإلى أين. هذا ما يحدِّدُ طبيعةَ مرحلةِ الانتقالِ وطبيعةَ المنهجِ الذي يلزمُ في دراستِها كمتغيِّرٍ مؤثِّرٍ له نتائجُ اجتماعيّةٌ أو سياسيّةٌ أو ثقافيّةٌ أو غيرُها، وعلاقةَ هذا المنهجِ بالتبئيرِ[2] أو المنظورِ الذي يتمَوْضعُ فيه مَن يحدِّدُ المراحلَ الانتقاليةَ.

لِنأخُذْ مثلًا آخرَ لتقريبِ الموضوعِ إلى الأذهان: إذَا كنتُ اقتصاديًّا، وفي ذهني تصوُّرٌ عن اقتصادٍ متطوِّرٍ أو صناعي أو مستقلّ، فقَدْ أَنظرُ إلى الحِقبةِ العربيّةِ التي نَعيشُها منذُ الاستقلالِ وحتى اليوم كمرحلةٍ انتقاليّةٍ ممتدَّةٍ من الاستعمارِ نحْوَ الاستقلالِ الاقتصادي الذي لَمْ يَتحقَّقْ حتّى الآن. مِن المنظورِ الاقتصادي قدْ يكونُ كلُّ ما نعيشُه الآنَ تشوُّهاتِ مرحلةٍ انتقاليّةٍ وإخفاقاتِها في تحقيقِ النموِّ والاستقلالِ الاقتصادي النِّسبي. ويُمكنُ لسوسيولوجيٍّ مُعتدٍّ بِتملُّكِ أدواتِ أَحدِ تشعُّباتِ نظريّةِ التحديثِ، أَنْ يَتعاملَ مع المجتمعاتِ العربيّةِ اليومَ كمرحلةٍ انتقاليّةٍ مِن المجتمعِ التقليدي إلى المجتمعِ الحديثِ في ظروفٍ محدَّدةٍ هي ظروفُ التحديثِ القَسريّ مِن قبلِ الاستعمار، ثمّ مِن قبلِ الدّولةِ السلطويّةِ التسلّطية. وإذا كنتَ من أنصارِ نظرياتِ الثقافةِ في تفسيرِ المجتمعاتِ، فقَدْ تُقاربُ المرحلةَ كمرحلةٍ انتقاليةٍ مِنْ ثقافةٍ يُهَيمنُ عليها الدّينُ والميثولوجيا إلى ثقافةٍ يُهَيمنُ فيها الاختصاصُ العلمي على مجالٍ بعدَ آخرَ، معَ كلِّ التشوُّهاتِ الناجمةِ عَن هذا الانتِقال.

وفي مرحلةٍ ما سادَ في بلادِنا فهْمٌ تبسيطي للقوميّةِ والوِحدةِ نظرَ إلى مرحلةِ الدولةِ الوطنيةِ بِرُمّتِها كمرحلةٍ انتقاليةٍ نحوَ الوِحدةِ العربية. وقد استغلَّتْ أنظمةٌ عربيةٌ هذا الخطابَ لترسيخِ استبدادِها بحُجَّةِ أنَّ موضوعَ طبيعةِ نظامِ الحُكمِ، ليسَ موضوعًا مهمًّا، فهو وسيلةٌ لا غَيْر لغايةٍ أعظمَ. وكانت النتيجةُ أنَّنا غيَّبْنا الدولةَ (وحتّى نظريةَ الدولةِ  في العلومِ الاجتماعية) ونظامَ الحكمِ؛ فلا قامَتْ وحدةٌ، ولا حقَّقْنا عَلاقةَ الدولةِ والمواطنةِ وظلَّ بناءُ الأمّةِ المواطنيةِ غيرَ مُكتملٍ، وأصبحَ تماسكُ الشعوبِ عرضةً للهزّاتِ والعودةِ إلى انتماءاتِ ما قبلَ الدولةِ بدلَ التقدّمِ نحوَ الوِحدة. وفي سياقٍ آخرَ تمامًا هو ألمانيا الاتحادية (الغربية) التي قامَتْ على أساسِ أنَّ لها هدفًا مُعلَنًا هو استعادةُ وحدةِ ألمانيا، ثبتَ في مقدّمةِ دستورِها من عام 1949 العبارةُ التالية "إنّنا نعيشُ في زمنٍ انتقاليّ...". والمقصودُ الانتقالُ إلى وحدةٍ ألمانيّة. ولكنَّ هذا الهدفَ لَمْ يُعطِّلْ بِناءَ الدولة؟

جرَى في الدولةِ العربيةِ إطالةُ أمَدِ مرحلةِ الانتقالِ إلى تأسيسِ الدولةِ وبناءِ المؤسّساتِ بطريقةٍ مصطنَعَةٍ ومقصودةٍ، فلحِقَ بالأمّةِ ضررٌ كبير.

ونحن نعيشُ حالةً أخرى معاكِسةً يجري فيها تقصيرُ المرحلةِ الانتقاليةِ نحوَ الديمقراطيةِ وتفويتُ فرصةِ تحقيقِ الإجماعِ على مبادئِ الديمقراطيةِ بصورةٍ مُصطَنعة.

نحن هنا لا نَتحدّثُ عن الانتقالِ بحدِّ ذاتِه، ولا عن نظرياتِ الانتقالِ بذاتِها، والتي سبقَ أن أكّدْتُ أنَّها مستحيلةٌ، بل نتناولُ الانتقالَ إلى الديمقراطيّةِ تحديدًا. وهذا أمرٌ مختلِفٌ تمامًا عمَّا سبقَ. في حالتِنا لا توجدُ مرحلةٌ ديمقراطيّةٌ تَكتبُ تاريخَ ما سبِقَها كمرحلةٍ انتقاليّةٍ إليها، إلّا إذَا اعتقدْنا أنَّها حالةٌ كوْنيّةٌ، وأنَّها مرحلةُ خلاصِ الإنسانيةِ تشملُنا كَما تشملُ غيرَنا، وأنَّها بدأَتْ فقطْ في أماكنَ أخرى، وقَدْ آنَ الأوانُ أنْ تصِلَ إليْنا. وهذا طبعًا كلامُ خُرافة.

لا يُشبِهُ هذا مرحلةَ الانتقالِ إلى الرأسمالية، والتي بحَثَ ماركس في شروطِها التاريخيةِ، بل يُشْبِه تَطلُّعَه للانتقالِ إلى الشيوعية. هنا لم يتحدَّثْ ماركس عن قوانينِ الانتقالِ (وحين تناولَها كأنّها قوانينُ موضوعيةٌ أخطأَ في تقييماتِه) بلْ حاولَ أنْ يجدِّدَ في فكرةِ الأدواتِ؛ فطرَحَ فكرةَ دكتاتوريّةِ البروليتاريا كمرحلةٍ انتقاليّةٍ نحوَ الشيوعية. وكما ورَدَ في نقْدِ برنامجِ غوتا من عامِ 1875 "بين المرحلةِ الرأسماليةِ والمرحلةِ الشيوعيةِ تقَعُ مرحلةُ التحوُّلِ الثوريّ مِن الواحدةِ إلى الأخرى، يُلائمُ ذلك انتقالٌ سياسي لا يمكنُ أنْ تَكونَ دولتُه سوى الدكتاتوريةِ الثوريةِ للبروليتاريا"[3].وهو التنظيرُ الذي بَنَى عليه لينين برنامجَ دكتاتوريةِ البروليتاريا التي تَكمُنُ مهمّتُها في تحطيمِ الدولةِ القديمةِ وتحديثِ الاقتصادِ؛ لأنَّ الانتقالَ من الرأسماليةِ مباشرةً إلى الاشتراكيةِ أمرٌ غيرُ ممكنٍ.

النوعُ الثاني من مراحلِ الانتقالِ  ليس ناجمًا عن التحقيبِ، أو عن مقاربةٍ معيَّنةٍ للتاريخ، بل هو الناتجُ مِن تحديدِ الفاعلين التاريخيّينَ لهدفٍ يريدونَ الوصولَ إليه، وعليهم أَنْ يصمِّموا  واقعَهم/حاضرَهم لكَي يصلُحَ أَنْ يكونَ جسرًا إليه.

نحن نعيشُ في مرحلةِ ثوراتٍ وقلاقِلَ سياسيةٍ ضدَّ الأنظمةِ التي ظهرَ وكأنّهَا استقرَّتْ منذُ أربعينَ عامًا تقريبًا، ولدينا فاعلون حدَّدوا الديمقراطيّةَ كهدفٍ، وعليهم أنْ يحدِّدوا ما هي طبيعةُ المرحلةِ الانتقاليّةِ نحوَ الديمقراطيّةِ. لا توجَدُ هنا قراءةٌ في قوانينَ موضوعيةٍ تَقودُ إلى الديمقراطيةِ كحتميةٍ تاريخيةٍ، بَلْ في الخطواتِ الصحيحةِ التي ينبغي اتِّخاذُها للوصولِ إلى هذا الهدفِ انْطلاقًا مِنْ وضْعٍ قائم. ولدينا أكاديميون نَأْملُ أنَّهم يتناقشون فيما بينَهم، ويُناقشونَ الفاعلينَ التاريخيِّين في هذا الموضوعِ مِنْ منطلقِ قراءةِ تجاربَ أخرى جرَتْ في العالَمِ في أوضاعٍ متبايِنة، وتَعمَّمتْ منها بعضُ الاستقراءاتِ حولَ المساومةِ وصُنْعِ القرارِ في سلوكِ النُّخبةِ السياسيةِ وتفضيلِها تقاسُم السلطةِ وتبادُلها على خسارتِها كاملة، أو على الفَوْضى والحربِ الأهليّةِ وفقدانِ البلدِ كُلِّه، أو على الجمودِ الاقتصادي الناجمِ، وهكذا.

وهذا تَحَدٍّ كبيرٌ جدًّا؛ فلديْنا مجتمعاتٌ عربيّةٌ متنوِّعةٌ تَتشابَه وتختلفُ، وتَتفاوتُ في درجاتِ التشابهِ والاختلافِ أيضًا. ولدينا تَجاربُ ديمقراطيّةٌ مِن مجتمعاتٍ مختلفةٍ في مناطقَ أخرى في العالَمِ تَتفاوَتُ مراحلُها الانتقاليّةُ هي ذاتُها: لدينا حالاتٌ مثلَ تركيا، وإندونيسيا، والأرجنتين، وتشيلي. ولديْنا حالاتٌ مِن سياقاتٍ أوروبيةٍ متأخِّرةٍ زمنيًّا مثلَ إسبانيا، والبرتغال، وربّما بولندا (ولا سِيَّما إذا أخذْنا في الحسبان دوْرَ الكنيسةِ في التحوُّلِ الديمقراطي لأغراضِ المقارَنة). فهلْ درَسْنا تِلك التجاربَ للاستفادة؟ وهلْ قُمْنا بواجبِنا كباحثينَ وأكاديميِّين، أَمْ انشغلَ بعضُنا في نقاشاتٍ أيديولوجيةٍ غالبًا ما تكونُ في حقيقتِها العميقةِ صراعَ هُويّاتٍ جَرَتْ أَدلجتُه؟ وهَلْ نَجحَ بعضُنا في جَرِّ أغلبِنا إلى هذا النِّقاش؟

عَمَّ نتحدَّثُ هنا؟ نحن لا نتحدّثُ عن مرحلةٍ انتقاليّةٍ بيْن نظامَيْنِ أو بيْنَ حِقبتَيْنِ تاريخيّتَيْن، بل عَنْ مرحلةٍ انتقاليّةٍ مِنْ وَضْعٍ قائمٍ نتَّفقُ في تشخيصِه أو نختلِفُ، إلى وضعٍ مَرْجُوٍّ أوْ مَأْمولٍ، يُفترَضُ أنَّ مؤيِّديه على الأقلِّ متّفقون على تعريفِه، أو قادرون على التحاورِ حولَه بعقلانيّة. فلا معنَى لعبارةِ مرحلةِ الانتقالِ إلى الديمقراطيةِ إلّا بوجودِ فاعلِينَ متَّفِقينَ على هَدفِ بناءِ الديمقراطية، وفِعْلٍ تاريخي ثوري وإصلاحي يَقودُ إليها. ونحن نُحدِّدُ سِماتِ مرحلةِ الانتقالِ إليها؛ لكَيْ نُرَشِّدَ السلوكَ السياسيَّ للفاعلينَ التاريخيِّين.

وثَمّةَ قطاعاتٌ ليستْ لديها مصلحةٌ بضرورةِ الانتقالِ إلى الديمقراطيّة؛ أَيْ غيرُ مقتنِعةٍ بالديمقراطيّةِ ذاتِها. وتحديدُ هذه القطاعاتِ مهمٌّ جدًّا. ولكنَّها لا تهمُّنا كثيرًا في السِّياقِ الحالي؛ لأنَّها غيْرُ مَعنيّةٍ إطلاقًا بكلِّ مسألةِ الانتقالِ، وترَى أنّها فوضى ناجمةٌ عن إضعافِ السلطةِ وهيْبتِها، وعن المَسِّ بالتراتبيّةِ السُّلطويةِ القائمة.

ويَختلفُ المَعْنِيّون بالانتقالِ الديمقراطي في تشخيصِ المرحلةِ الراهنةِ التي منها يجري الانتقالُ ودورِ القوى الاجتماعيةِ فيه ووزْنِ الجيشِ والقوى الأمنِيّةِ ودرجةِ تسييسِها، وبنيةِ المجتمعِ وخطرِ تفكُّكِه إذَا انتقلَ إلى التعدّديةِ السياسيةِ قبْلَ اكتمالِ عمليّةِ بناءِ الأمّةِ والانْدماج، وحجْمِ الطبقةِ الوسطى، ومستوياتِ التحصيلِ العلمي وأَثرِها في الثقافةِ الديمقراطية. وثمَّةَ عواملُ رئيسةٌ خَبِرْناها مباشرةً، وتتعلَّقُ بالبنيةِ الاجتماعيّةِ للنّظام السياسي ودورِ أجهزةِ الأمنِ وحجْمِها وتَداخُلِها في المجالاتِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ الأخرى ودَوْرِ القوى الاجتماعيّةِ التقليديّةِ، وتَماسُكِ المجتمعِ على مستوى الهُويّةِ، وغيْرِ ذلك من الأمورِ المتعلِّقةِ بتشخيصِ الوضعِ الذي نَنطلِقُ منه.

فإذَا قامَ المجتمعُ السياسي في دولةٍ من الدولِ على تقسيماتٍ مجتمعيةٍ إثنيّةٍ أوْ طائفيةٍ، وأنواعٍ من احتكارِ جماعاتِ هُويّةٍ محدَّدةٍ السّلطةَ، أو مُحاصصتِها في أفضلِ الحالات بين ممثِّلِي هُويّاتٍ إثنيّةٍ أو طائفيّةٍ أو جهويّةٍ أو عشائريّةٍ، فإنَّ اهتزازَ مركزِ ضبْطِ التوزيعِ والمُحاصصةِ الذي يُوزِّعُ الامتيازاتِ، وهو ذاتُه المركزُ الذي يَحتكرُ العنفَ، والذي يمارِسُ القمْعَ والرّدْعَ، سوف يؤدِّي إلى اهتزازِ الهيئةِ الاجتماعيّةِ بكاملِها.

ومِنْ هنا، فإنَّ طريقَ الانتقالِ الأفضلَ إلى الديمقراطيةِ في مثلِ هذه الدولِ هو الإصلاحُ التدريجي؛ فالثورةُ تحمِلُ في ثَناياها مَخاطرَ تَحوّلِ مفهومِ حُكْمِ الأكثريّةِ إلى حُكْمِ الطائفةِ الكبرى أو الإثنيةِ المَحرومةِ، أو الأكثريةِ المظلومةِ... ما يُهدِّدُها هي ذاتُها بالانقسامِ والتشظِّي، لأنّه إذَا أصبحَت الهُويّةُ هي المعيارُ للحقوقِ السياسيةِ وليس المواطنة، لا تبقَى جماعةٌ واحدةٌ غيرَ مهدَّدةٍ بالانقِسام؛ فالمَنظومةُ نفسُها تولِّدُ باستمرارٍ متحدِّثين باسمِ هُويّاتٍ مظلومةٍ داخلَ الجماعةِ وخارجَها، فسياساتُ الهُويّةِ تفقِّسُ هُويّات.

ولكِنْ، ما العملُ حينَ يرفضُ نظامٌ الإصلاحَ التدريجيَّ، بأيِّ شكلٍ، ويمْنَعُ أيَّ هامشٍ أو متنَفَّسٍ للمطالبةِ به؟ ما العملُ حين تَثورُ الجماهيرُ ولا تَستشيرُ أحدًا، كَما جَرى عمَليًّا في البلدانِ العربية عامَ 2010 -2011؟ وما العملُ حين لا يمكِنُ للقوى الديمقراطية انتزاعُ زِمامِ المبادرة؟ هل نبقَى في هذه الحالةِ في إطارِ التحوُّلِ الديمقراطي؟ لقد خبِرْنا حالاتٍ كهذه في المشرقِ العربي، وسوف نجرِّبُ غيرَها للأسف، إذَا لَمْ تُغيِّر النخبُ الحاكمةُ قناعاتِها بشأْنِ ضروراتِ الإصلاحِ الجذريِّ الموجَّهِ لتجاوزِ الاستبدادِ نحْوَ الديمقراطية. وحتّى التغييرُ بالإصلاحِ يحمِلُ مجازفاتِ الهزَّاتِ الاجتماعية. ودُوَلُ الاتحادِ السوفييتي السابقِ تَشهدُ على ذلك. لكنَّ الشعوبَ لا تَقبَلُ بوضعيةِ الرهينةِ الدائمةِ للاستبدادِ المُطْلَقِ خوْفًا مِن المجازفةِ القائمةِ في الإصلاحِ والثورة.

ومِنْ ناحيةٍ أخرى، قد يَنْشأُ خِلافٌ أيضًا على تعريفِ الديمقراطيّة. وهو ليس خلافًا مُخترَعًا، بل يقومُ على ثقافاتٍ ومصالحَ مختلفةٍ. إنّه نِقاشٌ يَستعيدُ مراحلَ تَطوُّرِ الديمقراطيةِ تاريخيًّا بدلَ الأخذِ بآخرِ تَجلِّياتِها كديمقراطيةٍ ليبرالية لا يُمكنُها أنْ تُعمِّرَ في الدولِ الناميةِ مِن دونِ سياساتٍ تنمويةٍ تَتضمَّنُ عدالةً اجتماعيةً.

وثَمّةَ مَن يعتقدُ أنَّ الديمقراطيةَ هي تبادلُ السلطةِ بالانتخاباتِ، وأنّها حُكمُ ممثِّلي الأغلبيّةِ فقَط. وإذَا كان الأمرُ كذلك، فما المرحلةُ الانتقاليّةُ بالنّسبةِ إليه سوى الاستعدادِ لإجراءِ الانتخابات. ولكِنْ، مَن يَدفعُ بهذا الاتِّجاهِ يجدُ نفسَه يُطيلُ المرحلةَ الانتقاليّةَ فقط، ويُعطِّلَ الانتقالَ إلى الديمقراطية؛ فالمجتمعُ غيرُ المتّفِقِ على مبادئِ الديمقراطيةِ تقودُه الانتخاباتُ إلى المواجهةِ والصّراعِ وأزمةِ الشرعيّةِ الدائمةِ، بدلًا مِن أَنْ تَقودَه إلى تعدُّديّة.

هذهِ كلُّها أمورٌ متعلِّقةٌ بالاتّفاقِ على طبيعةِ الديمقراطيةِ، ينبغِي أَنْ تُحَلَّ قبلَ الحديثِ عن طبيعةِ المرحلةِ الانتقاليةِ إليها.

والديمقراطيّةُ المقصودةُ هي التي يمكنُ تحديدُ سماتِها العامّةِ باستقراءِ التجاربِ الديمقراطيّةِ القائمةِ في العالَمِ وتطوُّرِها التاريخي، وبما أَصبحَ يُعّدُّ مبادئَ مشترَكةً للديمقراطيّةِ؛ مثلَ تداولِ الحُكمِ دوريًّا بطريقةٍ سلميّةٍ وبعمليّةٍ انتخابيةٍ دوريّةٍ سواءً كانتْ برلمانيةً أوْ رئاسيّةً أوْ كليْهما، والفصلِ بينَ السّلُطاتِ، واستقلالِ القضاءِ، ومَجموعِ الحرّياتِ اللازمِ وجودُها لكَيْ تكونَ مثلُ هذه العمليةِ ذاتَ معنى؛ وأهمُّها حريّةُ التعبيرِ عن الرأيِ، وحريّةُ الاتّحاد، وحريّةُ الاجتماعِ، ومجموعُ القوانينِ والضماناتِ التي تَمنَعُ تعسُّفَ الدّولة، ومعنَى أنّ المواطنةَ المتساويةَ هي العلاقةُ بين الفردِ والدولة ومضمونُ هذه المواطَنة. إذَا اتّفقْنا على هذا التعريفِ، يُمكنُ حَلُّ قضيّةٍ أساسيّةٍ أولى متعلِّقةٍ بترشيدِ السلوكِ في مراحلِ الانتقال، وهي الخلافُ حولَ مسألةِ الدُّستور. هلْ يَكونُ الاتّفاقُ على مبادئِه قبْلَ الانتخاباتِ أمْ بعدَها؟ ومدَى أهميّةِ العمليّةِ الانتخابيّةِ الحزبيّةِ في مرحلةِ التحوُّلِ الديمقراطي؟

في حالاتِ الانتقالِ التي خبِرْناها عربيًّا، احتَدَم الصِّراعُ بين الأحزابِ قبْلَ الاتّفاقِ على مبادئِ الديمقراطيةِ، وقبْلَ الالتزامِ بالمسؤوليةِ الجماعيّةِ عَنْ إِنجاحِ المرحلةِ الانتقالية. وفي حالةِ انْعدامِ الثِّقةِ بالْتزامِ القوى السياسيةِ بمبادئِ الديمقراطية، وهيَ عمومًا المبادئُ التي أَعلَنَها شبابُ الثوراتِ العربيةِ على شكلِ مَطالبَ، فإِنَّ أَضْمنَ وسيلةٍ لضمانِ تحمُّلِ هذهِ المسؤوليةِ جماعيًّا هيَ الوحدةُ الوطنيةُ في المرحلةِ الانتقاليّة.

إنَّ سِمةَ مرحلةِ الانتقالِ إلى الديمقراطية هيَ تَحيِيدُ القوى الأمنِيَّةِ التي كانتْ أداةَ القمْعِ الرئيسةَ وإحداثُ التغييرِ التدريجيِّ فيها، وتمكينُ المؤسّساتِ الديمقراطيةِ، ولا سِيَّما المنتخبةُ منها، والتغلّبُ على معارضةِ جهازِ الدولةِ البيروقراطي الكبيرِ أَيَّ تغييرٍ. وهذا يتطلَّبُ وحدةَ القوى الديمقراطيةِ حول هذا الهدَفِ والاستظلالَ بشرعيّةِ الثورةِ في مقابلِ فِقدانِ النظامِ القديمِ شرعيّتَه لاتّخاذِ إجراءاتٍ تصِلُ حدَّ تطبيقِ العدالةِ الانتقاليّةِ ضِدَّ ركائزِ النظامِ القديم. ولكِنَّ قوى الثورةِ الشبابيةَ لَمْ تَكُنْ مُنَظَّمةً، فتبَنَّتْ قوى المعارضةِ الحزبيّة شعاراتِ الثورة. وهذه جاءَتْ بعقليةِ المنافسةِ الحزبيّةِ، كأنَّها مازالَتْ تتَنافَسُ على الاستِئثارِ بإدارةِ مجلسِ طلَبةٍ أو نقابةٍ مِهنيّةٍ، مِن النوعِ المُتاحِ على هامشِ أنظمةِ الاستبداد. لَمْ تفْهَم الأحزابُ معنَى المرحلةِ الانتقالية مِن هذا النّوْعِ، أَي النوعِ المتعلِّقِ بتحديدِ الهدَف. و"بفضْلِ" المنافَسةِ المبكِّرةِ بين قوى معارضةٍ أصبحَ الخصْمُ الرئيسُ هو الحزبُ المنافِسُ، وليس النظامَ القديمَ؛ ما شَرْعَنَ التّحالفَ معَ النظامِ القديمِ، أو الصمتَ عليه، أو حتّى الدّفاعَ عنه ضدَّ الحزبِ المنافِسِ، بِما فَتحَ المجالَ أمامَ قيامِ نَوْعٍ من ثوراتٍ مضادّةٍ حقيقية. إنَّ عَدمَ فَهْمَ معنى الحركةِ الانتقاليةِ إلى الديمقراطيةِ ومتطلّباتِها، هو مِن أَهَمِّ عواملِ تَعَثُّرِها.

واتَّخذَ سوءُ فهْمِ المرحلةِ الانتقاليّةِ أحيانًا شكْلَ صراعٍ بينَ علمانِيّ ودينيّ بدلَ أَنْ يتَّخذَ شكْلَ صراعٍ بينَ ديمقراطي وغيرِ ديمقراطي؛ ما قادَ إلى مُنزلَقَيْن: 1. خلْطُ الأوراقِ وطمْسُ الحدودِ بين قوى النّظامِ القديمِ والقوى الجديدةِ، 2. الشّرْخُ العمودي؛ فالصّراعُ الدينيُّ العلمانيُّ لا يَتحوّلُ إلى تعدّديةٍ في ظلِّ وحدةٍ وطنية، لأنَّه أقربُ إلى صراعِ الهُويّاتِ، أو الثقافات. وهذا يُشتِّتُ الصَّيرورةَ نَحْوَ الغايةِ المفكَّرِ فيها من انتقالٍ إلى الديمقراطية إلى صراعٍ يكادُ يكونُ هويّاتيًّا إقصائيًّا حولَ طبيعةِ المجتمع.

وفي حالاتٍ أخرى، نَجحَ النّظامُ القديمُ في إثارةِ العَصبيّاتِ المتضامنةِ معَه والمتضامنةِ ضدَّه، فاتّخذَت الثورةُ شكْلَ احْترابٍ أهلِيّ.

ونحن نتحدَّثُ عَنْ عملياتِ تَحوُّلٍ ثوريّ تَنْقُلُ النظامَ السياسيَّ، وليس المجتمعَ، مِنْ نظامٍ سياسيٍّ استبداديٍّ، إلى نظامٍ سياسيٍّ ديمقراطيّ. ولكنَّ المجتمعَ وثقافتَه لا يتغيَّرانِ بينَ ليلةٍ وضُحاها، ولذلك تجدُ عمليةَ التحوُّلِ الديمقراطي في مواجهةِ أعرافٍ وتقاليدَ وثقافةٍ تَرسَّختْ في عهدِ الاستبداد. ويُخْطئُ مَن يعتقِدُ أنَّ الفسادَ المديدَ يظلُّ مسألةً فوقيّةً، وأنَّه لا يمَسُّ ثقافةَ المجتمعِ بأكملِه.

يُمكنُ دراسةُ هذه التعقيداتِ، ووَضْعُ سياسةٍ لِحلِّ ما أَمكنَ منها، ولتجاوزِ عَثراتٍ كثيرةٍ أخرى، بِما في ذلك المساوَمةُ والحُلولُ الوسطُ المُؤقَّتةُ، أو الحَزْمُ في تطبيقِ العدالةِ الانتقاليةِ إذَا لزِمَ، وتنفيذُ سياساتِ تنميةٍ سريعةٍ، حتّى لَوْ كانتْ مؤلمةً لبعضِ القطاعاتِ إذَا لَزِمَ... ويُمكنُ دراسةُ نوْعِ الحلولِ الوسطِ اللازمةِ مع مسألةِ الهُويَّةِ سواءً كانتْ دينيةً أو ثقافيةً أو جهويّةً، ما دامَ الاندماجُ القسْرِيُّ غيْرَ ممكنٍ من دونِ استخدامِ العنْف. والعُنفُ قد يَقْلِبُ مسارَ التحوُّلِ الديمقراطيّ كلَّه... يُمكنُ التفكيرُ في كلِّ هذه الأمور. ولكنّه ممكنٌ فقطْ في أجواءِ الوحدةِ الوطنيةِ لقوى التغييرِ، على أساسِ الاتّفاقِ على أنَّ هدفَ المرحلةِ الانتقاليّةِ مشترَكٌ، وعلى أنَّ إنجاحَ المرحلةِ الانتقاليةِ وترسيخَ أُسسِ الديمقراطيةِ، مسؤوليةٌ وطنيّةٌ مشترَكةٌ. وهي الأُسسُ التي تُمَكِّنُ من التنافسِ لاحقًا.

3.

لا تَقتصِرُ فائدةُ الاستقراءِ التاريخي على إيجابيّاتِ التجاربِ الأخرى بلْ على قراءةِ سلبيّاتِها التي نُريدُ أَنْ نَتجنّبَها. والفائدةُ مِنْ قراءةِ الثورةِ الفرنسيّةِ والقرنِ الذي تَلاها لا تقتصِرُ على فَهْمِ تطوُّرِ الديمقراطيةِ البرلمانيّةِ الجمهوريّةِ، بل تَكْمُنُ أيضًا في تَجنُّبِ ما أَدَّى إلى أَنْ تَطُولَ المرحلةُ من الثورةِ الفرنسيةِ إلى الجمهوريّةِ الثالثةِ لتصلَ إلى ما يقاربُ المِئةَ عامٍ. أمَّا في تركيا، فاسْتمرَّ عقودًا بينَ انتخاباتٍ وانْقلاباتٍ.

ثَمّةَ تجاربُ أحدثُ أخذَ فيها الانتقالُ مَداهُ المطلوبَ للتوافقِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ على بِناءِ المؤسّساتِ وقَواعدِ الديمقراطيةِ. ولكنَّه لَمْ يَستمِرَّ عُقودًا. ويُمكِنُنا دراستُها. ولكنْ في النهايةِ، يُخْطئُ مَن يبحثُ عَن الطريقِ مِنْ بينِنا؛ فنحنُ لَنْ نَعثُرَ عليه مُمهَّدًا. ويجبُ أَنْ نَشُقَّ طريقَنا بأَنفسِنا.

-------------------------------------

  • [1] لعلّ كمال الصليبي من أبرز من لفت الانتباه إلى ذلك؛ إذ يشير في كتابه "منطلق تاريخ لبنان" الذي ينتهي زمن السرد أو الوقائع فيه بالفتح العثماني لبلاد الشام، إلى أنّه "ليس هناك ما يحتّم اعتبار الفتح العثماني لبلاد الشام حدّا فاصلًا أكثر من غيره في تاريخها"  "فالأحداث التاريخية في أيّ جزء من العالم لا تشكّل بحدّ ذاتها قصّة ذات موضوع واضح ثابت، لها بداية ونهاية". ويمضي الصليبي لتحديد الأهمّ في فكرته على مستوى الإطار النظري بالقول "المؤرخ هو الذي يحدّد لنفسه موضوع القصة في كلّ حال من الأحوال، فينتقي من الأحداث ما يبرز معالم هذه القصة، ويقسمها إلى فصول زمنية بالشكل الذي يراه مناسبًا لتسهيل فهمها". انظر: كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، ط3 (بيروت: دار نوفل، 2012)، ص181.
  • [2]  من بؤرة.
  • [3] Karl Marx, Kritik des Gotha Programms, MEW, vol. 19, p. 28