تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

من قمعِ الثورة الوطنية إلى صراع المحاور الخارجية

2014-10-18

( موجز كلمة الدكتور عزمي بشارة في افتتاح مؤتمر المركز العربي للأبحاث: "من ثورات الشعوب إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي: المنطقة العربية بين صعود ’تنظيم الدولة‘ والانخراط الأميركي المتجدّد"، 18-19 أكتوبر في الدوحة.)


أعلنت الثورات العربية كحدث تاريخي حضور الشعوب العربية. فعبرها تحول الشعب من لفظ وشعار ورمز واستعارة إلى جماعات فاعلة عينية من الأفراد يصنعون شعبًا بفعلهم السياسي. لقد صدم دخول الناس الفضاء العمومي عديدا ممن كانوا يتزينون بالشعب لفظا أو شعارا، فوقفوا ضده حين تحول إلى كائن عيني حقيقي فاعل في السياسة.

يهمنا هنا أن حركة الشعب هذه من أجل الحرية والكرامة ضد الظلم، ولا سيما قمع المواطن كإنسان بواسطة أذرع الأمن الموجهة ضده وليس لحمايته، والفساد كرمز لمعيقات العدالة الاجتماعية والتنمية، هي صرح وطني أصيل. وقد شكّلت نقيضا لظاهرتين شغلتا المنطقة العربية. وهما: أولا، التدخل العسكري الأجنبي الانتقائي والذي غالبا ما موّه مصالحه الاستراتيجية والسياسية بشعارات الديمقراطية وبناء الأمة؛ وثانيا، الإرهاب، ولا سيما الذي تلصق به صفة الإسلام، ويتخذها بدوره لقباً. فالأخير لاذ بالصمت مدة عام وأكثر، وكأن حركة الجماهير السلمية للتغيير السياسي والاجتماعي السلمي أدهشته هو أيضا. ففي حينه سحرت الثورات العربية بسلميتها وعفويتها وألوانها العالم أجمع رغم التضحيات والشهداء.

جاءت الثورات العربية من دون تصور حزبي سياسي لطبيعة المرحلة القادمة، كما أنها لم تُستغل لإمساك طليعة سياسية منظمة بمفاصل الحكم لتكسر النظام القديم وتفرض غيره، كما في حالتي الثورة البلشفية والثورة الإيرانية، اللتين استبدلتا نظاما سلطويا بآخر شمولي؛ ولا هي (أي الثورات العربية) نجحت في تحقيق هدفها بإقامة نظام ديمقراطي. فقد ذهبت للانتخابات مباشرة،  وربما أبكر مما ينبغي، وذلك في ظل هيمنة جهاز الدولة القديم، وفي ظل صراع بين قوى دينية وعلمانية في غياب حياة حزبية ديمقراطية.

يصعب حصر الأسباب التي أفشلت الرهان على أرقى وأنبل حراك سياسي عربي في القرن الأخير، وأقصد هذه الموجة من التغيير الثوري السلمي والتي اجتاحت الوطن العربي منذ العام 2011، والتي حملت أمل الأجيال. ومن الواضح أن جهاز الدولة العسكري والبيروقراطي مدعوما برجال الإعمال (الذين تحولوا بالمال إلى رجال الإعلام) انقلب عليها في مصر مستخدما العنف المفرط، ومستغلّا الارتباك الشعبي من سلوك القوى التي شاركت في ثورة 25 يناير والأحزاب التي حيدت شباب الثورة بصراعاتها، ومستفيدا من عدم قدرتها على المشاركة في صياغة مستقبل البلاد، والتوافق على مبادئ دستورية، وعجزها عن تداول السلطة بالانتخاب. لقد استغل جهاز الاستبداد خوف الناس من الفوضى لكي يضرب مشروع التحول الديمقراطي.

كان وعد الديمقراطية الذي حملته الثورات فرصة الدولة العربية الوحيدة للتحرر من حالة السلطان والرعية والتحول إلى دولة فعلا كتعبير عن شعب وحكومة شرعية. كانت هذه فرصة الكيانات السياسية العربية أن تصبح دولاً.

ويجب أن يعترف النظام المصري بفضل النظامين السوري، والليبي من قبله، بتغيير المسار بواسطة تجرّئهما على استخدام كمٍ غير مسبوق من العنف في مواجهة الشعب، هو أشبه بذلك المستخدم ضد عدو في حرب وحشية يجري فيها تجاوز قواعد وضوابط الحروب وقوانينها، ولا سيما تلك المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية، حتى لو كان الثمن التضحية بالدولة والمجتمع على مذبح السلطة. كانت هذه نقطة تحول مبكرة ساهمت بشكل فعلي في تخويف فئات واسعة من الجمهور الواسع، خارج سورية وليبيا، من الثورات وثمنها، مع أن المسؤول عن رفع التكلفة هو الأنظمة. فاستعدادها للقتل وانعدام الروادع لديها كحالة استعمار داخلي هي من أسباب الثورة عليه.

وبتحريرها من أي كوابح تحولت أجهزة الدولة الأمنية إلى عصابات. وبما أن نظام الاستبداد مستندٌ أصلا إلى قواعد اجتماعية قبلية أو طائفية متحالفة مع مصالح طبقية مختلفة انقسم المجتمع، واضطر الشعب إلى الدفاع عن نفسه. وبما أنه لم يراكم تجربة حركات سياسية عسكرية تخوض الكفاح المسلح، نشأ خطر تحوّل مبادراته المحلية للدفاع عن الذات الى فوضى ميليشياوية يصعب توحيدها في جيش تحرير وطني. بدأ هذا كله في سورية وليبيا. وهنا أيضا فتح المجال من جديد لخطري التدخلات الأجنبية والإرهاب اللذين عادا يشغلان شعوب المنطقة ودولها.

لم تغب المحاور الدولية تماما بالأصل، فقد لعبت إيران وروسيا دوراً في تشجيع النظام السوري على الصمود في وجه المطالب الشعبية واستخدام العنف بشكل لم يجرؤ زين العابدين بن علي، وحسني مبارك (ولا حتى شاه إيران في حينه) على مجرد التفكير فيه. وقد تدخلت قوى غربية وخليجية مباشرة في ليبيا على شكل حظر جوي وضربات جوية ضد قوات القذافي. ولم يتبع ذلك تدخلٌ بريٌ. أما في سورية فاقتصر الدعم على تسليح غير منتظم للمعارضة من قبل بعض دول الخليج، ودعم إنساني غربي ظل متواضعاً وعاجزاً عن التعامل مع حجم الكارثة التي قاد إليها تحول النظام السوري إلى شن حرب تدمير واسع وتهجير وإبادة. وكان الخوف الغربي على استقرار الحدود مع إسرائيل، والخوف من الإرهاب "الإسلامي" الطابع من عوامل امتناع الغرب عن دعم الثورة السورية. في حين حظي النظام السوري بدعم غير محدود من روسيا وإيران، وشمل الدعم تدخلا ميليشياويا عسكريا مباشراً ذا طابع طائفي سافر من العراق ولبنان. ولم يرغب الغرب في دخول صدامٍ مع هذا المحور بدون أن يضمن النتائج وشكل النظام القائم في سورية. فذهبت إيران بعيدا في استغلال التعددية الطائفية العربية للنفود السياسي والأمني، وفي تنظيم الميليشيات الطائفية المسلحة وفرضها على الدول العربية الضعيفة.

بقي الطابع الشعبي للثورة السورية قائما، ولكنها أصبحت ثورة مسلحة، فبسبب طبيعة النظام الاستثنائية لناحية القمع والفساد وعدم القابلية للإصلاح ظلت الثورة وجهة آلاف الشباب الذي انتقل من المظاهرات السلمية إلى أشكال أخرى من المشاركة. ولكن بسبب الطابع غير المنظم وغير الخاضع لبنى وطنية سياسية عسكرية، وانتشار تبني الخطاب الإسلامي الشعبوي من قبل المجموعات المسلحة نشأت سهولة طمس الفرق بينها وبين القوى الإسلامية، التي كانت فاعلة على الساحة بين العراق وسورية بعد الاحتلال عام 2003، ثم في ظل النظام العراقي الجديد الذي اتخذ طابعا طائفيا وتحالف مع إيران والولايات المتحدة في الوقت ذاته.

لم تجمع الثورة السورية صلة بالقوى المسلحة التي نشأت في ظل الاحتلال الأميركي، وعلى خلفية الصراع الطائفي لاحقا. وقد كانت، هي والثورات العربية الأخرى، نقيضا لها ولمزاجها واستراتيجيتها. وليس هذا طرحا نظريا عن فوارق لا ترى بالعين المجردة. فقد وقعت اشتباكات حقيقية دامية طوال عام ونيف بين التنظيم الذي يدعى "دولة العراق والشام" وفصائل المقاومة السورية. ولم تسلم منه جبهة النصرة المحسوبة على القاعدة. وخلال ذلك العام تصرف النظام السوري وحلفاؤه بتساهل براغماتي كامل تجاه حركة التنظيم من العراق إلى سورية وتمدّده في سورية ذاتها، ما دام تمدده على حساب القوى المعارضة، وفي المناطق التي تسيطر عليها حصراً. وهو ما أثار اشتباه الشعب السوري وقواه السياسية أن التنظيم مدعوم من إيران.

لم تستمع أميركا الى نداءات استغاثة الشعب من قصف النظام ومقتل مئات آلاف المدنيين، ولا إلى الاستغاثة من ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. والحقيقة أنه مهما قيل عن معاناة بعض مدن العراق والجزيرة السورية من ممارسات التنظيم  فإنها لا تقارن لا من حيث الحجم ولا القسوة بما قام به النظام السوري وميليشياته. ولكن معاناة الشعوب من ممارسات النظام السوري والعراقي ومن إرهاب تنظيم الدولة نفسه تقزّمت أمام فيديو إعدام أميركيين وبريطاني. فبعدها بدأت الولايات المتحدة تطلب من الجميع، بما في ذلك الشعب السوري والعراقي، التجنّد معها لمحاربة التنظيم. قبل ذلك لم تحرك الولايات المتحدة ساكنا فضلا عن أن تحارب هي إلى جانب الشعبين السوري والعراقي.

ومن هنا فإن التجند العالمي هذا يثير نقاشاً في بلادنا. فلا شك أنه تنظيم خطير يشكل نقيضا للمدنية والعمران وحقوق الإنسان كما توصلت إليها الحضارة الحديثة. وثمة قناعة منتشرة أن  محاربته مصلحة عربية إسلامية شاملة. ولكن التركيز عليه فقط في سياق عمل ميليشيات طائفية في العراق، وحرب إبادة يشنها النظام السوري على شعبه، والمقتلة الجارية على كل بقعة من الأرض السورية هو ما يثير من جديد تساؤلات وحيرة المجتمعات العربية، بل وأسئلة وجودية متعلقة بوجودها كمجتمعات وكدول.

سبق أن حاربت تحالفات دولية تنظيم القاعدة في أفغانستان، وفي ظل تلك الحرب نشأ تنظيم طالبان باكستان، كما انتقل تنظيم القاعدة للعمل في مناطق التخوم في اليمن وعلى حدود دول الصحراء في شمال أفريقيا وفي الصومال والعراق. ونشأ ذلك النوع من التنظيمات التي تجمع ما بين جهادية القاعدة الأممية ومحاولة طالبان تأسيس دولة. ومن هذا المزيج تحدرت حالة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق والشام. فهو يستعين بالمقاتلين الأجانب خارج أي كيان وطني، ويستغل الفراغ الذي خلفته الدولة الوطنية في أزمة تعاملها مع فئات واسعة من شعبها (المحافظات العربية السنية في العراق، وثورة الشعب السوري) لفرض هيمنة على السكان تسميها هي دولة إسلامية. ويستغل هذا التنظيم النقمة على طائفية الأنظمة المتحالفة مع إيران ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل أيضا لتحول النقمة الطائفية الى ما يشبه الأنظمة المتحالفة مع إيران ليس فقط للتعبئة ضد الشيعة، بل أيضا لتحويل النقمة الطائفية الى ما يشبه الحروب الدينية.

بين التدخل الدولي من جهة والإرهاب من جهة أخرى، تُغيّب في المتاهة هذه حركة الشعوب العربية وقضاياها وتطلعاتها من جديد. والقضية هنا عميقة للغاية، فقائمة المطالب الشعبية العربية المعنونة بالحرية والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية، بإصلاح الأنظمة أو تغييرها، تتضمن ما يعتبره العرب حلولاً للبيئة السياسية الاجتماعية التي أنتجت الطائفية السياسية والإرهاب، وأيضا التبعية والتدخل الأجنبي.  وهذا بالضبط ما يجري تهميشه في هذه المرحلة لصالح انقسامات أخرى.

وتبدو المداولات الجديدة لأول وهلة جيو-استراتيجية تحل محل النقاشات الداخلية حول العدالة والحرية والتنمية وتقزمها. فمصالح الدول وحساباتها في الربح والخسارة تتكلم الآن. من ناحية يجري الحديث عن دول أخرى وأدوارها ومصالحها: إيران تركيا، والولايات المتحدة وروسيا، ويُشهَر الصمتُ عن الدول العربية وسيادتها واستقلالها؛ ومن ناحية أخرى تهمش الدولة داخليا بوصل التحالفات الدولية مباشرة مع قضايا مثل الأقليات الدينية والإثنية كأنها قضايا قائمة بذاتها خارج حل قضايا الشعوب بمجملها في إطار العدالة والديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية وغيرها، ما يقود إلى حلها خارج مفهوم الدولة وإطارها.

وسبق أن مرّ العراق بمثل ذلك حين تعامل الاحتلال مع الطوائف والأقليات الإثنية خارج مفهوم الدولة، وخارج الحلول الشاملة للشعب العراقي ككل. ونتائج ذلك ماثلة أمامنا. ولكن الدول الغربية المهتمة أساسا بأثر ما يبثه تنظيم الدولة على رأيها العام والانتخابات القادمة، ثم بمصالحها الاستراتيجية، وأخيرا بمصائر دول وشعوب المنطقة، لا تبدو قادرة على تغيير هذا النهج. ولا على طرح استراتيجية تحالفية مع الشعوب للتخلص من داعش ونظام الاستبداد. ولهذا يبدو ما يجري في كوباني اليوم منقطعا تماما عما جرى في حمص ودرعا وحلب وغيرها.

كانت الثورة الشعبية (أو الإصلاح الديمقراطي) فرصة الدولة العربية الوحيدة، وقمعها بالخيار العسكري الأمني قلب الدولة إلى ساحة مواجهة بين محاور دولية.

جريدة المدن الالكترونية