تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. الرحلة الأصعب إلى الأمل

2014-03-06

عن محاضرة د. عزمي بشارة في جامعة قطر تحت عنوان "الإشكاليات الجديدة للمثقف العربي: التحديات والرهانات"

فوزي باكير

جمهور متعطش من جيل الشباب، احتشد لسماع عزمي بشارة في قاعة "ابن خلدون" بجامعة قطر الاثنين الماضي. مراجعة شاملة ودقيقة لمفهوم المثقف وأنماطه وعلاقة المثقف العربي بالثورات وإرث عقود من الاستبداد. المنهجية العلمية تمتزج في محاضرات المفكر العربي ولقاءاته العامة مع مراسه الطويل في الشأن العام وقدرته على السجال؛ وهو ما يجعل من محاضرة فكرية له رحلة شاقة في الأمل. وبلغة واقعية مشدودة عَبَر مجموعة من المنحنيات العسيرة لمحنة المثقف العربي في راهن الانتفاضات والثورات.. والثورات المضادة.

المحاضرةٍ التي جاءت تحت عنوان "الإشكاليات الجديدة للمثقف العربي: التحديات والرهانات"، فصلت في أكثر هذه الإشكاليات التباسا؛ً أي علاقته بالأنظمة، وعلاقته الأصعب بالجمهور وقدرة المثقف على نقد كلّ منهما من مُنطلقاتٍ أخلاقية ومعرفية. "يُخرِجُ الشعبُ في الثورة أفضلَ ما فيه، وقد يُخرِجُ أسوأ ما فيه أيضاً"..

وإن أشار عزمي بشارة إلى ندرة نموذج المثقف الثوري في الراهن العربي، فإن افتقاده أكبر للمثقف التقليدي أو المحافظ المنتمي لفئة المثقفين الإصلاحيّين الذين يدعون إلى الإصلاح بشكلٍ تدريجي، رافضين إسقاط الأنظمة، مُتمسكين بها خوفاً من أن تقوم الثورة بإحداث فوضى وجرائم؛ ولكن لديهم في الوقت نفسه قابلية لانتقاد النظام بهدف إصلاح ذاتِه "في إطار تراكم التقاليد والخبرات المتجسّدة عموماً في حكمة الدولة" بتعبير هيغل. وأتى بنموذجين تاريخيين على هذا النوع، هما الفرنسي ألكسيس دي توكفيل والبريطاني إدموند بيرك، مبيّناً أنّ الأخير، الذي انتقد الثورة الفرنسية، لا يزال مرجعاً مهمّاً إلى الآن في أطروحاته التي قدمها حول "عبقرية التقاليد والقيم".

ويشدّد بشارة في هذا السياق على تمييز هذا النوع من المثقفين التقليديين أو المحافظين، عن "مثقفي الأجهزة الأمنية" الذين "لا يصحّ أن يُسمّوا مثقفين أصلاً" بل هم "شبيحة" و"أنصاف مُخبرين" لا أكثر. وبالطبع لا ينطبق عليهم مفهوم "مثقف الدولة"، الذي لو كان حقّاً موجوداً، "لتوفّر لدينا خصومٌ حقيقيّون".

أما فيما يخص المثقف الثوري، فيرى بشارة أنه "لعب دوراً نقديّاً مهمّاً في مواجهة الأنظمة قبل الثورات، لكنّه صُدِمَ بالثورة فانكفأ". ويؤكّد أنّ المثقفين الثوريين انكفأوا فعلاً ولكن هذا لا يلغي أن فئة منهم مهدت وواكبت الثورات العربية: "الاعتقاد بأن المثقفين لم يؤثروا في الثورات خاطئ. دورهم في الثورات شيء وتأثيرهم عليها شيء آخر. البذور التي زرعها المثقفون موجودة ووصلت عبر وسائط متعددة".

الثورة فاجأت المثقف العربي وهذا اللامتوقع أربكه وجعل يعود إلى حيزه المتخصص "تبين له أن الواقع أعقد من تصوره عن الشعب". يتساءل بشارة: "كيف لهم أن يتوقّعوها وهي بحد ذاتها فعل عفوي؟" ويتابع: "هل كان على الشعب أن يُخبر المثقف أو يستشيره قبل أن يقوم بثورته؟"، فالشعب، بالنسبة لبشارة، لا يُفصَّل على مزاج المثقّف وقياساته، "فمن ينحاز إلى لشعب، ينحاز إليه كما هو، وليس وفق الصورة الذهنية المثالية المُكوَّنة مُسبقاً عنه".

ويجدُ صاحب "سورية: درب الآلام نحو الحرية" أن المثقف الثوري بطبعه "يتّخذ مسافةً نقديّةً لا من النّظام فحسب، بل من الثورة نفسها أيضاً، بوصفه يملك الجرأة الكافية لنقد الجمهور، ولو أنّ ذلك أصعب عليه معنوياً من نقد النظام الحاكم"، مُشيراً إلى أهمية دوره التنظيري في الثورة، رغم أنّ "الغارق بالتفاصيل، سيضيق ذرعاً بالتنظير"، لكن في العمل الثوري "ثمّة أساسيّات يجب الالتفات إليها بشكلٍ رئيس، وتجنُّب الوقوع في الهوامش".

ويمايز المفكر العربي بين أنواع المثقفين وغيرهم من الفئات النخبوية، ووظيفة كل منهم في إطار مهمّاته وقدراته وما يقدّمه من فعلٍ معرفيٍّ تجاه نفسِه وتجاه دوائره الاجتماعية. ففرّق بشكلٍ أساسي بين المثقف والخبير، إذ أن الأخير هو شخص متعلّم أو متخصّص يستخدم اختصاصه "بشكلٍ أداتي في الخدمة الشأن العام، وليس بصفته صاحب رأي، فلا يُساهم نقدياً في تحديد غايات المؤسسة عبر سياساتها، إنما هو فقط يشارك في تنفيذها". بيد أن المثقف هو من يتّخذ موقفاً عمومياً نابعاً من منظومةٍ أخلاقية وقيميّة ينتمي إليها، متجاوزاً تخصصه ومنتقلاً من الذاتي إلى العمومي.

ويرى صاحب "طروحات في النهضة المعاقة" أنّ المثقّف ليس بالضرورة يساريّاً أو علمانياً كما يعتقد بعضهم، فبالنسبة إليه، لا يمكن أن يرى في محمد عبده (1849-1905) "إلّا مثقّفاً أجاد اختصاصه الفقهي وتجاوزه نحو قضية عامة"، انطلاقاً من تكريسه لعمقه المعرفي في الفقه من أجل الدعوة إلى النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ليُعد واحداً من رموز التجديد في البُنية المعرفية الإسلامية وإعادة إنتاجها بما يتّسق وواقعه المُعاش. فوعيه تجاه هذه المسألة التجديدية، جعلت منه ناقداً لواقعٍ ما، فعمل على محاولة تغييره عبر مساره النهضوي.

وخلال استعراضه لتنوّع المصطلحات وما يندرج تحتها من فئات اجتماعية معرفية، توقف بشارة عند مصطلح "المثقّف العضوي" حيث يرى أنه من "يأتي بقيمٍ بديلةٍ نقدية، بحيث تُمكِّنُه من حَمْل الوعي السائد واختراقه، لكي يستطيع أن يهيمن ثقافيّاً في وجه النظام، مُتّخذاً موقفاً قِيميّاً". ونفى أن يكون هذا المصطلح هو ما فهمه بعض اليساريين وغيرهم من علمانيين وإسلاميين من مُنطلقٍ عصبي، فأن تكون مثقّفاً عضوياً لا يعني أن تكون متعصّباً فـ"في ديارنا نشأ "مثقفون" ظنوا أن العضوية هي التعصب لفكرة. في حين لا يوجد أبعد عن المثقف والثقافة من التعصب، لأنه نقيضها وعدوّها".

وفي هذا السياق، نفهم خطورة المسألة التي أشار إليها بشارة ألا وهي "طائفية الأقليّات"، التي ترى في العلمانية وقفا مصلحيا للحفاظ على تمايزها الطائفي كأقلية بين الأغلبية، بمعنى أن هناك طوائف تدّعي العلمانية لتقاطُع مصالحها مع الثورة أو مع النظام، وهذه المصالح قد تُعزّز من تحقيق وجود هذه الجماعة بوصفِها طائفة، لا كجزء من نسيج اجتماعي مُتكامل.

كما ولفت صاحب "في الثورة والقابلية للثورة" إلى نوع من المعارضة تحترف الإقامة في منطقة مُلتبسة على هامش الأنظمة في "معارضتها": "المعارضة التي ترضى بـ"دور المُعارضة"، ليست إلا جزءاً من النظام وتعمل في أُطرِه ولا يمكن أن تتجاوزه".

ويخلُص بشارة بعد الاستعراض التفصيلي لـ"المصطلح" (Term) و"المفهوم" (Concept)، بأنّه ليتحقق "المفهوم" لا بدّ من تجربة "المصطلح" على ظاهرة عينية ملموسة. ومن هذا المنطلق استطاع أن يربط كلّ مفهومٍ أورده بالثورة، ومدى فاعليته فيها وتأثيره، مؤكّداً أن الثورات العربية لم تكن إلا نتاجاً "لبذورٍ زرعها المثقفون النقديون وظلّت قائمةً في مجتمعاتهم" وأن الثورات العربية هي من أعاد الاعتبار للثورة على مستوى العالم كمفهوم وحتى كمفردة كادت تصبح مداراً للتندر في أدبيات الليبرالية والرأسمالية وهي "تستردّ الآن اعتبارها بفضل الثورات العربية".

بعد ما سبق وكثير غيره مما قاله عزمي بشارة، لا بد أن ينصرف المرء وهو يعتصم بجملة مفصلية في تجاوز آلام منطقة مثخنة بجراح التحرر: "ما يجري الآن هو شيء نستطيع، بدون أي مبالغة وبكل تواضع، أن نسميه مرحلة تاريخية فاصلة، لا تقل عن أهمية الثورة الفرنسية بالنسبة لأوروبا".

المصدر: عرب48