تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

د.عزمي بشارة في عمق القراءة.. ووهمها وسطحيتها "الرسمية"!

2010-04-10

بقلم: ناصر السهلي
 

في العمق تحدث د. عزمي بشارة مساء الاثنين 5 ابريل 2010 مع محاوره علي الظفيري.. وفي ذات العمق أوجز الرسالة الواضحة لمفكر عربي خبر عن قرب بلحمه وعظمه وعقله توجهات الحركة الصهيونية وعلاقات الانتهازية المتبادلة مع الولايات المتحدة الأميركية..

وهم وسطحية.. والقدرة على قول "لا"

صحيح بأنه في أقل من ساعة لا يمكن الغوص في عمق التفاصيل، لكن مجرد تحريك هذه البركة الراكدة من مياه الوهم والمراهنة، وعرض بعض من الفكر الأعمق من بعض ممارسات ثرثرة إعلامية عربية، يمكن لها أن تطلق، عند من يريد، البحث عن حقيقة عمق وتشابك المصالح بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية (مؤسسات وجماعات بمختلف مشاربها).. ويمكن لها أيضا أن تساهم في اكتشاف حالة الوهم والقراءة السطحية لتلك العلاقات والركون لنتائجها بمبادرات تسير في الاتجاه الآخر الدال على نمطية قراءة معينة عند تكتل ثقافي واجتماعي وسياسي عربي راهن دوما على الولايات المتحدة..

من المؤسف حقا الاستهانة بظواهر عمق التحالف الأميركي- الصهيوني، والاستكانة بالتالي على بروز خلاف ما نابع بالأساس من تلك النمطية التي يتعاطى من خلالها النظام الرسمي العربي ونخبه الممسكة بمفاصل القرار في علاقاته البينية مع الشعوب من جهة وبعضها من جهة ثانية..

حتى قبل أن تُحسم مسألة ترشح أوباما للبيت الأبيض عن الحزب الديمقراطي ساد وهم كبير عند بعض النخب العربية، حتى أن هذا الوهم وصل للشارع فأصبح البعض يُطلق على أوباما "أبو حسين"، بتغيير ما قد يحمل رجل البيت الأبيض الجديد ( بناءا على اللون والعرق والخلفية الثقافية للرجل)..

حين صمت جورج بوش الابن طيلة فترة حملته الانتخابية حول المنطقة العربية، وتحديدا إسرائيل، سرى ذات الوهم بأن إسرائيل ترتجف من "بوش وإدارته"..

القراءة السطحية تعزز الوهم والركون إلى متغيرات الخطاب السياسي والمراهنة على "اختلاف ما" بين إدارة أميركية وأخرى، حتى أنه يمكن للمتابع أن يلحظ من المحاولات العربية البائسة لنسج علاقات شخصية مع عدد من الزعماء الغربيين دون اعتبار لدور المصالح الإستراتيجية والمؤسسات التي تحكم وتتحكم بالقرارات (ربما يكون جاك شيراك المثل الأوضح في هذا الاتجاه.. والأبعد منه طوني بلير وجورج بوش).. تلك الذهنية لم تكن في يوم من الأيام  قادرة على قراءة عميقة لإمكانياتها الذاتية والاعتماد عليها لتكوين أي نوع من التأثير على مؤسسات صناعة القرار الغربي..

البعض يسلم بأنه لا يمكن القيام بذلك إلا بتحويل السياسة العربية إلى نوع من الفولكلور السياسي.. والبعض الآخر يتصرف بدونية بحثا عن الرضا والإرضاء لتبقى ملفات معينة محفوظة في الأرشيف..

ليس خفيا أن بعض النخب السياسية والثقافية راهنت على خطاب المحافظين الجدد بشأن "تعزيز ونشر الديمقراطية".. فانشغلت بالتبشير لما "تحمله قيم الحرية الأميركية لمنطقتنا".. لكن حين صُنف العالم العربي بين "معتدل ومتطرف" وجدنا تلك النخب توغل في التحالف والخطاب حسب مؤشر البوصلة الأميركية..

أثار الدكتور عزمي بشارة مسألة مهمة جدا حول تصنيف الولايات المتحدة (من خلال عمق قراءة العلاقة بين الولايات المتحدة والحركة الصهيونية) للكثير من الدول والمنظمات في المنطقة العربية بـ"التطرف والإرهاب".. أهمية  الانتباه إلى هذه النقطة تنبع من تعميق حالة الفرز والشرخ في العالم العربي.. فقط لو أخذنا الحالة الفلسطينية كمثل للدلالة على خطورة الأمر نجد بأن وزارة الخارجية الأميركية وفي موقعها الرسمي تضع عددا من الفصائل الفلسطينية بما فيها تلك المنضوية في م ت ف في قائمة "المنظمات الإرهابية".. الأمر يعني شيئا مهما فيمن يحدد العلاقات الداخلية الفلسطينية- الفلسطينية.. ويمكن القياس بذلك على مجمل العلاقات العربية البينية..

أن تكون نصف الحركات الفلسطينية على "لائحة الإرهاب"، بمن فيها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جبهة التحرير الفلسطينية، حركة الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، كتائب شهداء الأقصى (التابعة لحركة فتح).. يستدعي التساؤل الذي يطرح نفسه: أية مصالحة وطنية والفيتو الأميركي ولي الذراع قائم بمنع الأمر حتى باعتراف رموز كبيرة من السلطة و"فتح"، آخرها عزام الأحمد من على شاشة قناة " القدس".. ويثير أيضا المغزى من وضع تلك المنظمات وغيرها على تلك اللائحة وهو بالـتأكيد للمصلحة الصهيونية ليس إلا.. السؤال المهم: حين تقوم الولايات المتحدة بتقديم "المعونة" لتدريب قوات الأمن الفلسطينية العاملة في الضفة الغربية، برعاية ما يسمى مدربين ومستشارين غربيين برئاسة كيث دايتون، ألا يفترض فحص العقيدة والثقافة الأمنية التي يخضع لها الشباب الفلسطيني في تلك التدريبات؟ هل تخريج دفعات من الأمن الوطني وهو يُدرس ويُشبع بأن الفصائل الفلسطينية "إرهابية" ينتج عنصر أمن ينتبه للأمن أم يُدخل في الإستراتيجية الأميركية لصناعة عقل فلسطيني يرى أولوية واجباته أن يواجه ما يُدرب على محاربته؟.. الإجابة عند "م ت ف" وفصائلها..

الوهم الذي صنعه العرب في قراءة متغيرات في السياسة الأميركية و"المراهنة" على "الاختلاف بين حليفين قويين" (بتعبير الأميركيين أنفسهم) يستدعي كما طرح الدكتور بشارة مراجعة عربية حقيقية لدورهم المتفرج والمنتظر لمآلات هذه الخلافات..

صناعة الوهم العربي والتحول إلى الفرجة لن يفيد، فقد شرح د. بشارة بالتفصيل آليات الإمساك بصناعة السياسة الخاصة بالعرب في واشنطن وطرق اختيار "الوسطاء" والمبعوثين بشكل لا يدع مجالا للشك بأن القضية برمتها تدور حول حماية المشروع الصهيوني حتى من منزلاقاته..

"الآن تتداول وسائل الإعلام وأروقة السياسة بأن إدارة أوباما (التي تنتظر أجوبة نتنياهو، المستمر بالزحف الاستيطاني في كل مكان) تدرس طرح خطة للتسوية حسبما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست"، الأربعاء (7 أبريل)، أن الرئيس الأميركي باراك أوباما "يدرس بجدية طرح خطة لتسوية الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي استناداً الى الإقتراحات التي طرحها بيل كلينتون في مباحثات كامب ديفيد في العام 2000.. "( موقع عـ48ـرب 8 أبريل)

الخروج من سطحية القراءة..

ويظل السؤال المفتوح عن مؤثرات الموقف العربي وثباته على موقف سياسي لا يقبل السلبية وانتظار القادم، وهي مسألة جوهرية طرحت في "العمق" فبحسب قراءة بشارة فإن الفجوة بين الموقفين الصهيوني والأميركي لا يمكنها أن تتحول إلى سياسات حقيقية بدون تدخل عربي.. ولا يكفي القول بدعم بنصف مليار دولار لإنقاذ أو دعم القدس التي يجري تهويدها لصنع سياسة ضاغطة على المصالح الأميركية.. ولا يكفي تفويض السلطة الفلسطينية (التي ليست مخولة بالأصل التفاوض نيابة عن الفلسطينيين) للدخول بمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة..

ربما يحتاج بعض العرب المراهنين على الفجوة في العلاقات بين البيت الأبيض وتل أبيب إلى وضوح في سياسة الضغط على صناع القرار في واشنطن بموقف لا يقبل الارتجاف والانصياع لطلبات واشنطن.. فالإقلاع عن هدم عدة بيوت في الشيخ جراح وسلوان لا يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي باعتباره انجازا ضخما للعرب.. المسألة تتعدى سحب غلاة المستوطنين من شمال بيرزيت.. القضية لها علاقة ولو بمحاولة عربية لقول "لا" كبيرة للسياسة الأميركية التي تهدف لانتزاع المزيد من التنازلات العربية لمصلحة الصهيونية.. بأيدي العرب أسلحة كثيرة وكبيرة يمكن استعمالها في العلاقة مع واشنطن بالتسلح بموقف الشارع العربي الذي يقرأ السياسة بشكل يفوق قراءة ما تفكر به السياسة الرسمية العربية.. ولم يبتلع هذا الشارع خطاب أوباما في جامعة القاهرة، وهو لم يشتري سمكا في البحر لمجرد القول بأن "إسرائيل مقدمة على تنازلات مؤلمة وعلى العرب القيام بنفس الأمر".. هناك وضوح تام في معنى الحقوق ومن الكذب القول بأن الاحتلال يقدم تنازلا وهو يحتل وينكل ويغير بالضد من كل الشرعية الدولية..

من المؤسف أن تكون هناك شخصيات بوزن الدكتور عزمي بشارة ومعه الكثيرين ممن يقدمون قراءة واضحة غير مرتجفة بينما تستمر بعض أطراف النظام السياسي الرسمي العربي تلقي بالنرد علها تصيب.. وهذه ليست صناعة لسياسات إستراتيجية بل ركون لما يمكن أن ينتج عن توجهات المصالح الأميركية في المنطقة.. والعرب بوجود القراءات الواضحة يحتاجون اليوم أكثر من الأمس لمزيد من الوضوح والثبات فيما هو قادم من واشنطن، فمن غير المفيد إطلاقا انتظار "مبادرات" الآخرين بينما الحد الفاصل بين الحقوق الكاملة والمنقوصة واضحة وضوح الشمس.. وقبل أن تلقى "الكرة" في الملعب العربي (بتوافق على طريقة دينيس روس ومارتن انديك وغيرهم ممن ذكرهم عزمي بشارة) على العرب الرسميين أن يتوقفوا ولو مرة واحدة أمام إمكاناتهم الذاتية ورفع الصوت الخافت بوجه الإدارة الأميركية بلغة يفهمها صناع القرار في واشنطن..

إن ما يُشاع عن رفض نتنياهو لخطة أوباما التي يريد طرحها لا تعني شيئا.. فمن التجارب السابقة لا يمكن لأوباما، كما لم يفعل كلينتون، طرح أية مبادرة بدون أن يكون لـ"اللوبيات الصهيونية" في الإدارة الأميركية دورا في صياغتها حفاظا على مصالح تل أبيب (وبالتالي مصالح واشنطن).. لذلك لن يكون مفيدا (سوى لتخدير وتهدئة الشارع العربي) أن يعتمد هذا البعض العربي مسألة التريث وقراءة ما سيطرح عليهم لإعداد لجان ووفود وغيرها من بيروقراطية العمل العربي بينما تستمر آليات المشروع الصهيوني مستمرة في مشروعها المطروح علنا عن الضم والتهويد وخلق كانتونات فلسطينية ولو أُطلق عليها، ليس دولة فحسب بل "إمبراطورية" طالما أنها لا تخرج عن سياق المشروع الذي تفرضه الحركة الصهيونية..

لا يمكن للاحتلال أن يتغير طالما أنه لا يرى الثمن الذي يدفعه نتيجة لاستمراره.. ولا يمكن لا لأوباما ولا لأي إدارة أميركية أن تغير من سياساتها طالما أن السياسة العربية عاجزة عن التوقف عن سياسة سلبية متفرجة ومتأهبة لدراسة وقبول أي فتات يُلقى عليها.. فالمراهنة على "أبو حسين!" ليست سوى وهم وقراءة سطحية.