تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. بعيدا قريبا: خمس سنوات على المؤامرة

2012-05-25

*عوض عبد الفتاح

ملحق خاص بمرور خمس سنوات على المؤامرة


الإبعاد الجسدي للرجل عن فلسطين، لم يوقف أثره الفكري والسياسي في الساحة التي اضطر إلى مغادرتها في الـ23 من آذار/مارس عام 2007. بقيت الساحة بدونه، ولكنها ظلت ولا تزال تموج بجدلية فكره وبدينامية تطوره. فالإسرائيليون لا يزالون يلاحقون وبوتيرة أكبر مشروع التجمع الوطني الديمقراطي - عبر الهجوم على مضامين هذا المشروع، وعبر التحريض المتواصل ضد من يحمله ويقوده، بل لا يزال يشكل المحرك الأساس لجدلية الصراع الأيدلوجي والحقوقي بين الأقلية الفلسطينية والنظام الصهيوني، ولا يكف غلاة اليمين في الائتلاف الحاكم عن تهديد قادة التجمع بأن مصيرهم يجب أن يكون كمصير بشارة. وهذا بالضبط ما يجعلنا نخصص ملحقًا له ولدوره في مجال التجديد والتنوير لحركة الفكر السياسي والشعبي داخل الخط الأخضر، بعد أن كادت هذه الساحة أن تدخل، منذ أوائل التسعينيات، في سبات فكري لمدة أطول قبل أن تتضافر عناصر وعوامل إنهاض أصيلة أخرى، وتوقظ الكثيرين منا من هذا السبات، أو تدلنا على الخروج من المأزق.

وإذا كان هذا التجديد الذي أثاره بشارة، في مجال الفكر السياسي، والذي تصاعد عندما تمكن هو ونحن المجموعة من الناشطين والمناضلين في الداخل من تحويله إلى أداة تنظيمية كبيرة وبسرعة قياسية، هو التجمع الوطني الديمقراطي، واستقطب جماهير واسعة وأعدادا كبيرة من النخب العربية، فإنه أحدث هزّة غير مسبوقة في أوساط النخب الأكاديمية الصهيونية التي كانت مسترخية في سرير الليبرالية الصهيونية، وهو استرخاء في حضن القبيلة، وكانت قانعة بمقولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية.

وللمفارقة، فمن كان من عرب الداخل ممالئـًا لهذه المقولة منذ النكبة بل مندمجًا فيها، فقد وجد نفسه متحالفًا موضوعيًا مع أنصارها اليهود (الصهاينة)، في مواجهة الفكرة ومواجهة الشخص، فكيف يمكن لمن نظـّر ورسّخ بين قطاع من الشباب الركيزة الصهيونية الأساسية وهي أن دولة إسرائيل اليهودية هي تعبير عن حق تقرير المصير لليهود في البلاد، كما نظر لتبني شعاراتها ورموزها ونشيدها الوطني في المؤتمرات، أن يقلع عن معاداة كل من يثور ويتمرّد ضد نموذج العربي الإسرائيلي. لقد اختلف معه البعض، وهناك من ناقش فكره باحترام وبصورة حضارية، وحظي بالاحترام، لكن هناك من عجز عن مواجهة الفكرة فحقد على الشخص، وفقد الاحترام.

ولا يزال هؤلاء العرب الاسرائيليون "الأمميّون" يعادون الرجل رغم أنهم ينتفون من فكره وتجديداته لدرجة أن من يسمع بعضهم وهم يتحدثون يتساءل إذا كان هؤلاء ينتمون إلى حزبهم الذي لم يراجع حتى الآن هذا الموقف التاريخي وينتقده. فالرجل قلب أيضًا تنظيراتهم البائسة رأسًا على عقب ووضعهم في مواجهة منطلقاتهم منذ إقامة إسرائيل دون التجرؤ على التنصل منها حتى الآن، على الأقل رسميًا. الحقيقة أن هؤلاء "الأمميّين" كانوا قد تصدّوا قبل ذلك، لحركات قومية كحركة الأرض وحركة أبناء البلد حملت توجهات قومية ومتصادمة مع الصهيونية جذريًا، ولكنها لأسباب كثيرة، ذاتية وموضوعية، لم تستطع تشكيل تحدٍّ حقيقيّ للنظام الصهيوني، وإن ساهمت في التأسيس للمشروع القومي الديمقراطي الراهن الذي اتسع لجماهير فلسطينية واسعة في الداخل.

الصدمة تتحوّل إلى تحدٍّ جديد..

لقد ظنّت المؤسسة الإسرائيلية من خلال تدبيرها للمؤامرة، وتخلصها من الرجل عبر اضطراره إلى ترك الوطن، أن معركتها ضده انتهت، وكادت تسترخي وتهيّئ نفسها لمرحلة أسهل وأن الجماهير العربية، وخاصة المناصرين لهذه الثورة السياسية ولأداتها التنظيمية ولصاحبها في الداخل، سينتفضون ويبحثون عن بديل آخر.. أو يعتكفون في البيوت يأسًا وإحباطًا. ولكن جمهور الحركة الوطني الذي أصيب فعلاً بالصدمة في اللحظات الأولى من الكشف عن المؤامرة، ما لبث أن استنفر وحول غضبه إلى وقفة موحّدة مندّدة، كان تعبيرها الأولي في مظاهرة الألوف في مدينة الناصرة. كانت مظاهرة التحدّي الأكبر في تاريخ الحزب.

وبعدها أيضًا وعشية انتخابات الكنيست عام 2009، وجدت المؤسسة الإسرائيلية أحزابها الكبيرة، ومن ورائها أذرعها الأمنية، أمام جولة أخرى من المجابهة الأيديولوجية، هدفت من ورائها شطب التجمع ومنعه من خوض الانتخابات، وبالتالي تصويره ليس فقط أمام الجمهور الإسرائيلي بل أمام الجمهور العربي كحزب متطرف وغير مسؤول ويضرّ بمصالحه. وإذا تحقّق ذلك يكون الحزب قد فقد قواعده وخسر جمهوره، حسب طموحات المؤسسة الإسرائيلية.

ومع ذلك فإن نجاح الحزب في الانتخابات بعد عامين من غياب بشارة، فاجأ المؤسسة الإسرائيلية وبنفس الدرجة خصوما سياسيين من ذوي العقدة المرضية، بل إن ما فاجأهم أكثر هو زيادة قوته بـِ 14000 صوت.

ليس صدفة أن يحقق التجمع الانتصارات بعد غياب عزمي بشارة القسري، وليست المسألة نتاج هبات شعبية عاطفية، بل إنه نتاج عمل حزبي مُضنٍ بدأ منذ اليوم الأول لإطلاق المشروع، وكان لبشارة، الدور الرئيس أيضًا في عملية البناء. فهو لم يكن مفكرًا سياسيًا فحسب، ولا برلمانيًا متميزًا فحسب، بل كان رجل تنظيم، ويمارس التجربة والخطأ ويتعلم ويستفيد ويغيّر. وهذا كان خلافًا للعديد من السياسيين في الداخل الذين يعتمدون على الميدانيين وحدهم لبناء الحركات والفروع. كان يدخل في التفاصيل، وكنا نترافق للقاء أعضاء الفروع في المدن والقرى في مختلف أرجاء الوطن ونتناول كل صغيرة وكبيرة، ونتطرق إلى دور الشباب، هذا القطاع الذي كان هاجسه الرئيس في عملية بناء الحزب، شبابٌ معتزٌ بهويّته القومية، ومستوعبٌ لمكونات الحداثة، والتحرر الاجتماعي والإنساني. لا شك أنه كان يُصاب أحيانًا بالإحباط، كما نحن، لتأخر تحقق تقدم هنا أو هناك، أو لتعثر خطة لهذا الفرع أو ذاك. فقد كانت لدينا رغبة في تحقيق تقدّم أكبر وبصورة أسرع، لأن العداء والخصومة كانا يتزايدان يومًا بعد يوم. كلما اكتشف هؤلاء الأعداء والخصوم سحر الفكرة على قطاعات شعبية جديدة، معادية للفكر الصهيوني الرسمي ومناهضة للاندماج والتشوّه. مع ذلك تمكّن الحزب من تحقيق إنجازات نوعية في مرحلة قصيرة نسبيًا. كان الإدراك لديه، ان حزب التجمع، نظرًا لكثرة الأعداء والخصوم سواءً من المؤسسة الإسرائيلية التي لم تترك الحزب وقادته للحظة بدون تحريض، أو من الخصوم الذين لا يناقشون الفكر بل يهاجمون الشخص حسدًا وحقدًا، نظرًا لذلك كله كان لديه الإدراك أن الحزب يحتاج لأن يكون أكثر قوة وأكثر صلابة في كافة المجالات.

لقد لاحظتُ كيف تمكن رفيقنا بشارة من الانتقال من الأكاديميا والتكيّف السريع مع مهام بناء حزب، وكيف تواصل مع هموم الناس ومسايرة مشاعرهم والتضامن معهم وكان ذلك انسجامًا مع تنظيراته بخصوص ضرورة تطابق القومية مع المواطنة ومع مخاطبة هموم الناس والارتباط بهم. رجل بهذا الفكر، يُنظـّر ويكتب عن القومية والديمقراطية والمدارس الفكرية المختلفة، ويُشرّح البنى المجتمعية وبنى الأنظمة العربية، التي لا يستوعب معظمها إلا المختصون وأوساط مثقفين مطلعين، ثم تجده يجلس في بيت في إحدى القرى النائية يصغي إلى كهل أو عجوز وهو يتحدث عن ذكرياته عام 1948، ومن ثم عن حاجات البلدة. كنت تجده مثلاً يقوم بعدة مهام في نفس اليوم، يقارع المؤسسة في الكنيست، ثم في زيارة لفرع، أو لمكتب الجريدة (فصل المقال) حاثا على زيادة الاشتراكات، أو مقدما اقتراحات لتطويرها، أو مشاركًا في مظاهرة حيث يتعرض لاعتداء الشرطة كبقية المتظاهرين أو معتصمًا في خيمة.

لهذه الأسباب، يظل بشارة حاضرا في الداخل رغم غيابه عن البلد، إنه بعيد، ولكنه قريب.. قريب جدا.

*الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي

المصدر: شبكة أمين الإعلامية