تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

سقطت أم تحرّرت؟

2017-12-17

سلام الكواكبي

 

 

تحمل أيام السوريين الحالية كثيرا من ذكريات مقتلتهم، ومن وقعها المستمر يومياً، فموت المدنيين جارٍ يوميا في مدينة الرقة التي سيطرت عليها قوات كردية مدعومة أميركياً، حيث تنفجر في شوارعها ألغامٌ زرعها إرهابيو "داعش" قبل خروجهم "المأمون" منها، والذي جرى الاتفاق عليه بطريقةٍ ستُكشف تفاصيلها للباحثين عن الحقيقة في سنوات مقبلة. ويستمر التحالف الدولي بقصف قرى دير الزور شرق البلاد، موقعاً الموت والدمار، بهدف إخراج ارهابيي التنظيم نفسه من مخابئهم، وربما بالطريقة نفسها التي تم إخراجهم بها من الرّقة، ومن الموصل، أي باتفاق "جنتلمان" يُعفي القتلة من مسؤولياتهم، ومن مساءلتهم أمام أي شكل من أشكال القانون. ويموت أطفالٌ وكبارٌ في الغوطة الشرقية يومياً بسبب الحصار الذي يليق بما عرفته أبشع مراحل التاريخ من ممارساتٍ جرمية بحق المدنيين. ويستمر غياب عشرات آلاف من الموثّقة أسماؤهم في السجون والمعتقلات، ويستمر خطف قوة السلطة وقوى الأمر الواقع الناشطين والناشطات في مناطق سيطرتها المتقلّصة.


لكن تاريخ اليوم يرمز خصوصاً إلى الذكرى السنوية لسقوط مدينة حلب، أو تحريرها، حسب الجهة التي تتحدّث عنه، وهي التي تعبّر بجلاء عن انقسام السوريين، ليس بين مؤيدٍ ومعارض فقط، بل بين عدة تصنيفات متدرّجة التأييد أو المعارضة أو الرمادية أو التردّد أو التشكيك بكل الأطراف. انقسامٌ يستحق دراساتٍ معمّقة، واستطلاعات ميدانية، ليس السوريون في وارد القيام بها في قريب الأيام، للافتقاد إلى عناصر البحث ووسائله.

بدءاً من 2011، جوبهت التظاهرات السلمية على مستوى الوطن السوري بعنف دموي، قلّ نظيره، وبرفض قاطع لأي انفتاح أو حوار سياسي. والإشارة إلى المرحلة السلمية مكرّرة للمرة الألف، لأن التكرار ربما يترك أثراً لدى من لديه عقلٌ يريد استخدامه. أدّى العنف إلى حمل بعض المدنيين السلاح، أو انشقاق الجنود والضباط متنظمين في مجموعاتٍ مسلحةٍ غير مؤطرة سياسياً، لعجز المعارضة البنيوي عن فهم المرحلة وتداعياتها، أقنعت بعض القوى الإقليمية بعض المسلحين من المعارضين، وذلك قبل انبثاق المجموعات الدينية بمسميات المسلسلات الرمضانية، بدخول المدينة على أمل حسم المواجهة في الأيام أو الأسابيع التي تلي. ويعرف أغبى المتخصصين في العلوم العسكرية، ولا حاجة ليكونوا محللين استراتيجيين على الشاشات، أن "حرب العصابات" في المدن هي فرصة ألماسية لسلطة منظّمة للتمكّن من سحق المتمردين أو الثوار، في احترامٍ لاختلاف التوصيفات أيضاً لتعريف مجموعة سورية آمنت بقدرتها على التغيير السلمي في بداية 2011، وسرعان ما وقعت في فخ المواجهة العسكرية المناسبة حتما لنظامٍ لا يهتم بحيوات المدنيين، ولا بكراماتهم.

تنظّمت المواجهة حيناً بالمعنى المدني والتوعوي والإغاثي، وأحياناً بالمعنى العسكري التدميري الذي لم تتوان فيه القوات الحكومية عن استخدام مختلف صنوف الأسلحة. وتطورت من مجرد الدفاع عن الأحياء المتظاهرة إلى الهجوم على المواقع المجابهة. كما تطورت قياداتها من شخوصٍ مثالية، كالضابط المنشق أبو فرات الذي عبر علنا عن ألمه لإطلاق النار على أبناء جلدته، أي الجنود النظاميين، والذي سرعان ما تمت تصفيته ممن لا يروق لهم التوجه الوطني الجامع، وهي القوى التي اخترقت صفوف الثورة لحرفها عن مسارها، بإيعازات مميتة ومتشابكة، تطورت إذاً إلى شخوص انتهازية، تمثّلت بأمراء الحرب والارتزاق، مهما تنوعت أسماؤهم الدينية، وصولا إلى الإرهابيين متعدّدي الارتباطات من جبهة النصرة ومن "داعش".

على هامش هذا الخليط العجيب من القوى الثورية والقوى الانتهازية والقوى الدينية والقوى الإرهابية، "احتفلت" السلطة بالمواجهة التي لم تميّز في طريقها بين مدنيّ ومسلح، بين مشفى ومدرسة ومخبز. وجرى تدمير منهجي للقسم المتمرد من المدينة، باستهداف قوى الحياة فيها. وزالت عن الخريطة معالم تعود بتاريخ المدينة إلى مئات السنين في أقل تقدير، واحترقت أسواقها التقليدية، كما جامعها الكبير.

في المقابل، وفي القسم الآخر من المدينة، سارت الحياة بشكل شبه طبيعي بالمفهوم السوري، على الرغم من أصوات التدمير الصامت والعميق المسموعة من الطرف الآخر، وعلى الرغم من المجازر اليومية التي ترد أخبارها من ذاك الطرف الآخر، وعلى الرغم من تساقط بعض القذائف العشوائية التي أودت بحياة مدنيين فيها. واستمر الفساد المنهجي القائم منذ عقود في إدارتها برضى مكبوت، أو شراكة جرمية من جزء من ساكنيها. وترسّخت ثقافة الخوف القائمة منذ عقود، لتتمكّن من ترويض نخبها. وبرز الحقد الطبقي في أفدح تجليّاته، مع تمدّدات طائفية ومدينية متنوعة ومتداخلة. وربما كان "أقذر" تعابيرها ما جرى من احتفالاتٍ ورقصٍ وغناء رافق خروج آلاف من سكان الطرف الآخر، بعد أن أجبرهم الموت المتحالف مع قوة إقليمية غيّرت مسارها، على الاستسلام في مثل هذا اليوم من العام المنصرم.

هل سقطت إذا المدينة أم تحرّرت؟ والأصح، هل سقط القسم الفقير والتاريخي منها أم تحرّر؟ هل كان يسيطر عليه متمرّدون أم ثوار؟ تترك الإجابة عن هذه التساؤلات، وبعيداً عن التفاعل العاطفي، للتاريخ. لكن ربما يجب الاعتراف اليوم بسقوط القيم والحقوق والحريات والآمال، وتحرّر الأحقاد والكراهية والانتقام من قيودها. ربما تحرّر الظلم من أية بادرة حساب قريب، وربما سقط الأمل في وطنٍ واحدٍ لجميع مكوناته.

صحيفة العربي الجديد