تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثورة السورية بين خيار المطاولة وفخ المساومة

2017-11-18

خالد خوجة

 

 

أعلنت الخارجية السعودية عن عقد اجتماع موسع للمعارضة السورية من 22 إلى 24 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بهدف التقريب بين أطراف المعارضة ومنصاتها، وتوحيد وفدها المفاوض لاستئناف المفاوضات المباشرة مع النظام تحت إشراف الأمم المتحدة، بناءً على طلب المعارضة، حسب نص الإعلان الذي لم يأت فيه أي ذكر للهيئة العليا للمفاوضات، بشكل يتنافى كليّاً مع عرض لجنة التوسعة في الهيئة، والذي قدّمته إلى الخارجية السعودية، ويوصي بزيادة أعضاء الهيئة لتعزيز قدراتها التفاوضية. ويعني عدم إتيان الخارجية السعودية في إعلانها عن موعد الاجتماع انتهاء دور الهيئة العليا للمفاوضات رسمياً، وولادة جسم جديد، يجمع بعض الأطراف المعارضة بمنصتي القاهرة وموسكو.

‏لم يكن القرار مفاجئا، بعد مطالب عدة جهات إقليمية ودولية المعارضة السورية بالواقعية السياسية، ومواكبة الوضع الدولي الجديد الذي تبلور في المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على هامش قمة آسيا - المحيط الهادئ في فيتنام يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والذي أظهر للعيان محاذاة إدارة ترامب موقف بوتين في سورية، والذي يتمثل باختزال الصراع على أنه حرب ضد الإرهاب، والحل السياسي بـ"إصلاح" دستوري، تليه انتخاباتٌ، يحق للدكتاتور بشار الأسد المشاركة فيها، والقفز فوق قرار مجلس الأمن 2118 الذي ينص على الانتقال السياسي، وتشكيل هيئة حاكمة انتقالية، باعتبار ذلك بداية أساسية لحل الأزمة سياسياً، ما يلغي عملياً أي معنى لتصريحات الإدارة الأميركية المتكررة بأنه لا دور للأسد في مستقبل سورية.


ومع بديهية عقم المقاربات الإقليمية عن إمكانية فصل الدكتاتور بشار الأسد عن الاحتلال  الإيراني، فإن التحول في الموقف الإقليمي سيشكل، بلا شك، السقف التفاوضي لأي عملية سياسية قادمة برعاية دولية، خصوصا أن مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أعلن مسبقا في آخر إحاطه له لمجلس الأمن بأن اجتماع جنيف في 28 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري سيتناول قضيتي الدستور والانتخابات، ما يعني أنه لن يكون هناك فرق، من ناحية المضمون، بين المؤتمر الذي أزمع بوتين عقده في سوتشي، بغرض إلغاء مطلب رحيل رأس النظام، وحصر الحل السياسي بتعديل دستوري، والمشاركة في انتخابات عامة محسومة النتيجة مسبقاً (وهو ما رفضته قوى الثورة على الأرض)، والمؤتمر المزمع عقده في حال تم تغيير ميثاق مؤتمر الرياض الأول الذي انبثقت عنه الهيئة العليا للمفاوضات، وإسقاط قرار مجلس الأمن 2118 ومطلب الانتقال السياسي أساسا للعملية التفاوضية. ويبدو أن الخلاف الذي حصل بين إدارتي ترامب وبوتين بشأن مؤتمر سوتشي قد زال، بعد الاتفاق على إخراج المضمون الذي يريده بوتين في جنيف.

‏لقد أولت الأجسام السياسية لقوى الثورة والمعارضة في سورية الدبلوماسية أهمية بالغة في تحركها، خصوصا مع ظهور مجموعة أصدقاء الشعب السوري. ومنذ تأسيس المجلس الوطني، مرورا بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إلى الهيئة العليا للمفاوضات، جرت ‏جهود مكثفة في عواصم عربية وعالمية، لجلب التأييد، الدولي والإقليمي، لمطالب الشعب السوري. والذي يميّز تلك الفترة أن هذه الجهود الدبلوماسية كانت تسند إلى شرعيةٍ مستمدة من الحراك الشعبي والقوى الثورية على الأرض. مع ظهور محور الثورة المضادة، بدأ التصدّع داخل نواة مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وهي 11 دولة، منها خمس دول عربية، السعودية والإمارات ومصر والأردن وقطر، وخمس دول غربية، أميركا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وتركيا. تلا ذلك احتلال روسيا سورية الذي اعتبره المحور المذكور فرصةً يمكن من خلالها إضعاف إيران. واستناداً إلى تلك القراءة المغلوطة، بدأت جهود "هندسة" الثورة بقلب معادلة التوازن بين العمل الدبلوماسي والاستناد إلى شرعية الأرض التي اتبعتها المعارضة، بحيث عملت الدول الإقليمية على ربط شرعية المعارضة بالاعتراف الدولي من جهة واحتواء الثوار في الداخل بورقة الدعم من جهة أخرى.
وقد ساعد الزخم الثوري الأجسام السياسية للثورة بتجاوز أغلب عمليات التمييع التي تعرّضت لها، بدءاً من مبادرة "فورد – سيف"، نسبة إلى السفير الأميركي السابق روبرت فورد ورئيس الائتلاف الحالي رياض سيف، والتي استهدفت إنهاء المجلس الوطني، وتم تجاوزها بتشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في الدوحة، والذي ضم المجالس المحلية وشخصياتٍ ومكونات وطنية إلى المجلس الوطني، ثم عملية التوسعة التي فُرضت فيما بعد على الائتلاف، بإدخال كتلة أحمد الجربا وتنصيبه رئيساً للائتلاف، فتمت إطاحة الجربا، وإخراجه من "الائتلاف"، تبع ذلك استقالة أغلب أعضاء كتلته، وبعدها في مؤتمر الرياض 1، والذي عُقد باعتباره مُخرجا لمقرّرات مؤتمر فيينا الذي تميّز بدخول روسيا لاعبا دوليا أساسيا في الساحة السورية، تم تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات التي هبت رياحها على غير ما تشتهيه سفن بوتين.

إلّا أن قوى الثورة على الأرض فقدت، على مدى السنوات الخمس الماضية، أغلب قياداتها العسكرية الواعية، كما خسرت الأجسام السياسية في الخارج والحراك الثوري في الداخل كوادر وطاقات مؤثرة، وأضحى عبء الثورة يشتد على من يحمل همّ نصرتها، في مقابل محاولات الاختراق، وتصدّر بعض الفاسدين في اتخاذ قرارات مصيرية.

ولا بد من الإشارة إلى دور المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في المساهمة في عملية تمييع المعارضة، وتحويل جولات جنيف من مفاوضاتٍ على أساس قرار مجلس الأمن 2118 إلى حوار "طرشان" بين وفود الهيئة العليا للمفاوضات ومنصاتٍ ساهم هو وفريقه في تشكيلها في موسكو والقاهرة، إلى جانب لقاءات تقنية في جنيف ولوزان، أخرجها إعلاميا على أنها توافقات سياسية بين أطراف المعارضة.

اللافت أن أغلب الشخصيات التي خرجت من اللعبة في عملية التدافع بين الإرادة الثورية والضغوط الدولية تم توجيه الدعوات إليها للمشاركة في مؤتمر المعارضة الجديد في الرياض، ما يعني أن مخرجات الهندسة الجديدة للمعارضة قد تتناسب مع الإطار الدولي الجديد، بشكلٍ غير مسبوق. لكن هل هذا هو الطريق الذي يؤدي إلى حلّ الأزمة؟

بدأ الدكتاتور بشار الأسد حملته ضد حراك الشعب السوري، ومطلب هذا الشعب في الكرامة، بمقاربة "الأسد أو لا أحد" و"الأسد أو نحرق البلد". ويُظهر المشهد في سورية اليوم للعيان أن الأسد فقد مقومات الدولة الأساسية التي تتمثل في الأرض والشعب والمؤسسات. وحملات القتل أرضا وجواً مستمرة، على الرغم من اتفاقيات خفض التصعيد، ولم يعد هنالك جيش سوري، بل مليشيات أجنبية ومرتزقة خارجة عن السيطرة تقاتل باسمه. والضامن في أي اتفاق هو المحتل الروسي نفسه الذي ينتهك حرمته في كل جولة محادثات، سواءً كانت في جنيف أو أستانة.

وتقتضي الواقعية السياسية أن الحل السياسي يكون بالقضاء على جذور الكارثة التي تتمثل في الأسد نفسه، وحلقة الإجرام حوله. وطالما بقي الدكتاتور على رأس السلطة، فإن القتل سيستمر، فلم يعد هناك نظام يمكن أن يعاد تأهيله، بعد أن قطع الأسد الحبل الذي كان يربطه بالشعب، بل عصابة يديرها الدكتاتور الهزيل، تحت إشراف المحتل الروسي الذي لا يرى حلا لأزمات الشعوب سوى بنموذج أرض محروقة مثل غروزني، وعميل مثل رئيس الشيشان رمضان قديروف، والبلد تقسمت إلى مناطق نفوذ بين دول لا يملك بوتين قدرة إزاحتهم عنها.

.. جاءت ثورة سورية تجاوبا طبيعيا مع ثورة الكرامة في المنطقة، وهي من الثورات الكبرى التي تغير عندها مجرى التاريخ، وأعيد رسم الخارطة الجيوبوليتيكية في العالم. إلّا أنها حالة فريدة لا يمكن لقوةٍ، مهما بلغ حجمها، أن تحتويها أو تتعامل معها. والعامل الأقوى في هذه المعادلة هو العامل الشعبي، على الرغم من الفارق الكبير في القوة المادية التي يمتلكها، مقارنة بالتي يستخدمها المحتل الروسي الذي يحاول فرض إرادته.

المقاربات المطروحة حالياً، والتي تتجاهل جذورالكارثة في سورية، وتعيد تأهيل منظومة الأسد، لن تساعد سوى في انتشار رقعة الفوضى، وربما تعجّل في انهيار المنطقة. ولا يمكن لأي معادلةٍ أن تفرض على الأرض، إذا غاب عنها العامل الشعبي. والشعب السوري الذي ضحى بالمال والنفس، لتنعم الأجيال القادمة بالحرية والكرامة، ما زال عند كلمته التي ردّدها منذ البداية: "الشعب يريد إسقاط النظام".

صحيفة العربي الجديد