تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المركز العربي يقيم ندوة حول كتاب عزمي بشارة: الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة

2018-04-26

أقام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، يوم الأربعاء الموافق الـ25 من نيسان/أبريل، ندوة لنقاش كتاب المفكر العربي عزمي بشارة الجديد، "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، ضمن سلسلة سيمنارات مشروع "التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية" الذي أطلقه المركز.

وقد ُقدمت في الندوة التي أقيمت في الدوحة، أربع مراجعات وتعليقات حول الكتاب، عرضها كل من حيدر سعيد، وهو باحث عراقي ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"، والباحث والمؤرخ السوري محمد جمال باروت، وساهم في المداخلات أيضا كل من الباحثين نهار محمد نوري، وهدى رزق.

وقد أشادت المداخلات الأربعة على تنوعها، بالمساهمة النظرية الفريدة التي قدمها بشارة في الكتاب، خاصة لناحية الإسهام في تعريف الطائفة والطائفية والطائفة السياسية، وهو موضوع شائك ما زالت المكتبة العربية تفتقر إلى إنجازات حوله. وحاول جزء من التعليقات التعقيب على التصور النظري للكتاب من خلال مقارنته بتجارب تاريخية في السياق العربي والإسلامي، خاصة أن الكتاب الذي احتوى على أكثر من 900 صفحة، يطل على تجارب عدة، لم تقتصر على النموذج العربي ولا حتى الإسلامي. وقد سائل حيدر سعيد أيضا في المداخلة الأولى، الكتاب من حيث موقعه فيما يطلق عليه الدراسات الطائفية، والأدبيات إجمالا المتاحة في هذا الحقل.

وأكد حيدر سعيد، أن الكتاب يعود إلى الخطوة التأسيسية: تعريف الطائفة والطائفية، وتحديد مجالها وموضوعها، مضيفًا أن الكتاب أنجز التحرر من المقاربة العصبوية للطائفة وأنها شكل من الروابط التقليدية، فهي تستند إلى أنماط من الروابط حديثة المنشأ، وليست قديمة. كما أنه أنجز التحرر من الفهم الجوهراني للطائفة، حتى إن فُهمت بوصفها تنظيمًا اجتماعيًا وليس دينيًا. ويرى سعيد أن بشارة قام، في الجزء الرئيس والأوسع من الكتاب، بما يمكن تسميته مجازيًا "تقشير مفهوم الطائفة"، ثم الطائفية، أي التدرج في الوصول إلى تحديدها، وذلك بسلبها مما ليس هي، بتعبير المناطقة، فيَفْصِل مفهومَ "الطائفة" عن كونه مفهومًا دينيًا، ويفصله عن مفاهيم الفرق والمذاهب والنحل والملل المستعملة في التراث الإسلامي، وعن مفهومَي "الإثنية" و"المجتمع الأهلي"، وعن مفهوم "الفرقة" Sect الفيبري، ومفهوم العصبية الخلدوني.

ويؤكد سعيد أن بشارة كان أوضح من غيره في الحديث عن دور العوامل الجيوستراتيجية في صناعة الطائفية والطوائف، فهو يتحدث عن دور الصراع الصفوي العثماني في مذهبة الطائفتين الشيعية والسنية، ويوضح تضافر العوامل الداخلية والخارجية في صناعة الفضاء الطائفي الذي يولِّد الطوائف، ثم محاولة هذه الطوائف المتخيلة ترصين حدودها، في مراحل تاريخية متغايرة، ليكون استدعاؤها ميسورًا في الصراع الجيوستراتيجي. وهذه خطوة أبعد من قصر نشوء الطائفية على مجموعة من العوامل الداخلية، كما يفعل برهان غليون في كتابيه، وأبعد من البحث في دور العوامل الجيوستراتيجية في نشوء التشيع الصفوي، كما يفعل وجيه كوثراني، وأبعد من حديث عن دور العوامل الخارجية في تحفيز الحراك الداخلي، كما يفعل أسامة مقدسي، وأبعد من استعمال العوامل الجيوستراتيجية لفهم الطائفية الراهنة في العقدين الأخيرين، كما يفعل نادر هاشمي.

ويضيف سعيد أن الاسترسالات المفاهيمية في الكتاب تسمح لنا باكتشاف العلاقة بين دراسة الطائفية، كما يطورها بشارة، وحقل دراسات فوق الوطنية. فتخيل الانتماء إلى جماعة واسعة عابرة للحدود، يعني ضمنيًا تخيلًا لهوية فوق وطنية، من حيث هي إستراتيجية معارضة لبناء الأمة. وهذه الهوية فوق الوطنية هي الطائفة المتخيلة التي يقترحها بشارة. إن العلاقة الممكنة بين دراسات الطائفية ودراسات فوق الوطنية ستسمح، في رأي سعيد، باكتشاف الطرق خاصة في تشكّل القوميات في المنطقة العربية، وبناء الأمة، وطريقة التفاعل بين الهويات التقليدية والهوية الوطنية الناشئة، فضلًا عن أنها ستعالج الإشكالات النظرية التي تواجه دراسات فوق الوطنية.

أما نهار محمد نوري فقد بدأ مداخلته بموضعة الكتاب ضمن الأعمال "التأسيسية" العربية، إذ يرسم المحددات المنهجية العامة لمصطلحات "الطائفة، والطائفية، والطائفة المتخيّلة" باسطًا دلالاتها وحيزها البحثي. وبيّن نوري تقاطعات الكتاب مع ما قدّمه عدد من الباحثين العراقيين حول المفاهيم الثلاثة، ومنهم الباحث العراقي، فنر حداد الذي استعرض الطائفية السنيّة السياسية العراقية، وحقيقة بروزها بعد عام 2003 فقط، والباحث العراقي حارث حسن الذي تحفّظ على وصف حكم العراق إبّان صدام بالطائفية. واستشهد نوري بدراسات ترى أن الطائفية قديمة ومتجذرة اجتماعيًّا، على عكس تأكيد بشارة أنها وليدة العلمنة والعصر الحديث.

ويؤكد نوري أن الانتماء إلى الطائفة السنيّة لم يكن بالحدّة التي شاع بها الانتماء إلى الطائفة الشيعية في الحقبة ما قبل عام 2003، لعدة أسباب؛ منها امتزاج الحس الديني السنّي بالتوجه القومي في غالبية حقبة ما قبل عام 2003، وتكرَّس هذا الأمر نتيجة ذوبان المؤسسة الدينية التي تمثلها هذه الطائفة مع التوجهات العامة للدولة، هذا فضلًا عن الافتقار إلى الجهد التنظيمي الحزبي الذي يساعد في تكريس النزعة والميل بالشعور إلى أهمية الانتماء والانضواء في طائفة متخيَّلة، في وقت انفصلت فيه الرؤى الشيعية عن بنيان الدولة الأيديولوجي، وتكرّس لديها الشعور بالأنا المغايرة، على نحوٍ ساعد في تفعيل التصور بالمظلومية والإقصاء والتهميش في بعض مراحل الدولة العراقية قبل عام 2003، ونجم عنه سهولة إنتاج طائفة متخيَّلة عابرة للتصورات الوطنية في بعض الأحيان، كما يقول نوري.

ويرى نوري أن طروحات بشارة تمتزج وتتلاقح مع أفكار عديد الباحثين العراقيين حول دور المؤسسة الشيعية الدينية في التنميط الطائفي/ السياسي، مشيرًا إلى أن ضعف الطائفية السياسية في عهد صدام حسين كان سببه الركون إلى الولاء للحاكم في المقام الأول واعتماد صلة القرابة. وسجّل نوري، فيما يتعلق بدور المؤسسة الشيعية الدينية في التنميط الطائفي/ السياسي، تحفظه على قول بشارة إن هذه المؤسسة أدت دورًا معارضًا للاندماج الشيعي - السنّي في المجتمع العراقي من منطلقات مذهبية، وأحيانًا مصلحية، معللًا ذلك بأن الأمثلة التي أوردها لإثبات هذا التعميم قد أفادت فقط في إثبات عدم اندماج المؤسسة الشيعية الدينية في حركة الإصلاح أو التحديث التي تبنّتها الدولة، وأنها لم تكن مدعاة بالضرورة إلى عرقلة الاندماج بين الشيعي والسني اجتماعيًّا في العراق.

وانتهي نوري إلى القول إنه، من خلال استقرائه كتاب بشارة ونموذجه الأكثر راهنية عن العراق، وجد شكلين للطائفية يمكن تشخيصهما في العراق منذ 2003؛ أولهما ما يمكن وصفه بالحس الطائفي الفردي المستتر/ المُقنَّع، وهو ملتبس التفاعل في عهود متعددة قبل عام 2003، وثانيهما ما يمكن عَدّه طائفية حزبية كانت صريحة وأكثر حديّة في العهد الذي تلا عام 2003.

وعرضت هدى رزق العديد من الأفكار التي تميز هذا الكتاب، ثم جادلت بعضها. ففي شأن ما ورد في الكتاب من أن الدولة الحديثة غالبًا ما تنشأ في إقليم لم يمثل وحدة جغرافية – سياسية وكان تـأسيسها قطعًا لعلاقات أقاليم دولتها بأقاليم مجاورة لها كانت تشكّل معها وحدة جغرافية وديموغرافية، أكدت رزق أن هذه المسألة ليست مسألة تاريخية باردة، فالمؤرخون غير متفقين تمامًا على المعادلة التي تمَّت بين القوى المحلية والقوى الدولية التي أنتجت في النهاية الدولة المعنية، مؤكدةً وجود جملة معطيات تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية قامت بأدوار كبرى في تهيئة المناخ العام لهذه النشأة، منها مصلحة الدول الكبرى.

وبحسب رزق، فإن الكتاب يرى أن الطائفية والمظلومية الطائفية لم تكن لهما الصدارة في المشرق العربي في الماضي القريب فقد حيّدتهما تفسيرات أخرى لطبيعة الدولة وسياساتها مسنودة بأيديولوجيا غير طائفية غالبًا، وعندما سنحت لها الفرصة التاريخية، أعادت إنتاج الطوائف على نحوٍ مختلف كليًا عمّا كانت عليه. وهنا ترى رزق أنّ الدولة الوطنية كانت مدعومة من جميع المكونات الاجتماعية – السياسية التي لم تلتفت إلى انتماءاتها الفرعية؛ وذلك ضمن صراع الدولة مع المستعمر، إذ كانت الأولوية للوحدة والالتفاف حول الدولة التي وعدت بالتنمية والمشاريع الاقتصادية والدفاع عن الأمة ضد الاعتداءات الخارجية.

وتوقفت عند توكيد بشارة أنّ من يحاول فهم الانقسام الطائفي عبر فهم الخلافات المذهبية في العقيدة، يبدأ من المكان الخطأ، ويذهب في الاتجاه الخطأ، لترى أن الطائفية السياسية، مع التسليم بحداثتها، كانت ولا تزال على الدوام في حاجة إلى مسوغات ومشروعية عقائدية موجودة في صلب المعتقد. فالولاية، بوصفها مفهومًا، جزءٌ لا يتجزأ من الاعتقاد الشيعي الديني، والخلافة، وإن بأقل حدية، جزءٌ من الاعتقاد الديني للسنّة. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل التيارات المنتسبة إلى الطائفية السياسية تتبع تعاليم المذهب اتباعًا إيمانيًا حرفيًا، فهناك تيارات علمانية وجدت ضالتها في هذا الانتماء الشكلي، كما في الحالة العراقية.

وتخلص رزق إلى القول إن القسم النظري للبحث أراد القول إن الطائفية، والطائفية السياسية، هما اللتان تعيدان إنتاج الطوائف كطوائف متخيلة، وهما العارض المرضي الذي يساهم في تفتيت الدولة الوطنية في وظائفها الأساسية. وترى أنّ هذا الأمر صحيح، لكنها تتساءل: كيف تستعيد الدولة مشروعيتها؟ وهل تقبل النخب السياسية الصياغات المستحدثة، كالفيدرالية واللامركزية الإدارية في الدولة الوطنية، باعتبارها الحل الأمثل لأنهار الدماء في سورية والعراق واليمن، وعليه تتكرس ظاهرة الطائفية السياسية التي تصنع الفرد لا المواطن؟ وتخلص، أيضًا، إلى أن هذا الكتاب يساهم في نزع المشروعية عن تلك القوى السياسية الحاملة لتلك الهُويات المستحدثة والمتخيلة. لكن هل يستطيع أن يلغيها، وهي محمولة بروافع إقليمية ودولية؟

وأكد جمال باروت بدوره الموضع البارز لكتاب بشارة ضمن المكتبة السوسيولوجية والتاريخية العربية. وبيّن في مداخلته أنّ المشرق العربي الكبير بما يشهده من صراعات هوياتية وطائفية بات أقرب إلى مختبر اجتماعي تاريخي يمكن من خلاله إنتاج نظرية متكاملة في الطائفية. وفي الوقت الذي تسيّد فيه منظور "المجتمع الفسيفسائي" في مقاربة ظواهر الطائفية، سواء في دراسات الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا العربية أو الغربية المعاصرة، وبالخصوص في تفسير إخفاق نموذج الدولة – الأمة، واستعصاء التحديث فيه، وتعثّر إنتاجه لمجتمع مدني حديث، يجيء طرح عزمي بشارة حول ظواهر الطائفة والطائفية والتطييف ليمثّل ما يعتبره باروت قطيعة معرفية وانعطافة تفكيكية لتلك "الشيفرة" الموجهة التي أنتجها منظور المجتمع الفسيفسائي. ويرى باروت أن نص بشارة يضعنا أمام عملية تحليلية متكاملة تَفضُّ تعقدات العلاقة بين الطائفة والطائفية، وبين الطائفة الاجتماعية والطائفة السياسية، وبين إعادة إنتاج الطائفة في طائفة متخيلة والطائفية. وهو جهد نظري يبشر بإمكانية بناء معالم نظرية عربية في الطائفية، تشتق من تاريخية الاجتماع العربي - الإسلامي، وليس من مفاهيم قومية ماهوية.

يضع باروت الكتاب ضمن سلسلة النقد النظري العربي للطائفية التي بدأت مبكرًا مع ناصيف نصار، وبلغت ذروة الاهتمام بها في خضم الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات، والتي كان ياسين الحافظ أبرز من قدم رؤى للطائفية في خلالها، وتبعه برهان غليون ومهدي عامل وأحمد بيضون. وفي مرحلتها التي يمثلها نص بشارة، بدت ضرورة انتقال الطروحات العربية من لحظة دهشة الحدث التاريخي وصدمته، وبواعث الحركة السياسية في خلاله، إلى اشتغال أكاديمي طويل الأمد بحثًا عن نظرية عربية للطائفية. لم يدَّع بشارة خروجه بهذه النظرية، وإنما أكد أنّ عمله الشامل، الذي عبر الحقول المعرفية السوسيولوجية والتاريخية والسياسية، هو "جهد في تطوير نظرية في الطائفة والطائفية"، مشددًا على ضرورة أن تخرج المساهمة الرئيسة في هذا التنظير من منطقتنا التي تمثّل مختبرًا حيًّا للظاهرة.

ويرى أنّ هذا الهاجس بعينه شغل بشارة وعنون محطاتٍ من مسيرته الفكرية، ولعل قارئ كتابه المسألة العربية المنشور قبل احتلال العراق، وكتابه المجتمع المدني، يلمس هذا الاهتمام الباكر الذي تعمّق أكثر في كتابه الدين والعلمانية، وليعلوها جميعًا كتاب الطائفة الذي انشغل فيه بشارة بطرح فكري اجتماعي تاريخي مركّب. وموضع باروت، أيضًا، أطروحة بشارة التي مايزت بين المذهب والفرقة والطائفة وبين مراجع الفكر السوسيولوجي غير العربية، لا سيما لدى ماكس لوفيفر وتونيز وحتى فيبر، خصوصًا في ملمح تحوّل الفرقة إلى طائفة بصيغة مؤسسة دينية منظمة أو ما يوازي الكنيسة بالنسبة إلى الفكر الغربي. والجديد النظري هو تقديم بشارة مقارنة نقدية لهذه المفاهيم في تجلياتها؛ سواء في الفكر الإسلامي أو في السوسيولوجيا الغربية. ويساعد هذا الحفر المقارن على بناء أساس نظري لبناء نظرية عربية في الطائفية انطلاقًا من هذا التمييز.

وقد شهد السيمنار مداخلات وأسئلة من الحضور أكدت سعة الطرح وتشابك قضية الطائفية مع قضايا التطور الاجتماعي والسياسي التي يمر بها العالم العربي.