تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مأزق معسكر سياسي: ماذا تبقى؟ (5-5)

*
2016-06-10

د. عزمي بشارة

تتعرّض الحركات السياسية الإسلامية إلى هجومٍ وحملة ملاحقة عنيفة من تحالفٍ واسع، مستفيداً من فشل تجربة "الإخوان" في مصر من جهة، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. ويخلط هذا الهجوم بين تجارب الحركات الإسلامية عن سبق الإصرار والترصّد، على الرغم من الاختلاف، وحتى التضاد، بينها. كما يستغل التحالف الإقليمي الذي يشن الهجوم على هذه الحركات انقسام ما كان يُعرف كمعارضةٍ قبل الثورات، وانشقاقها العميق خلال المرحلة الانتقالية التي تلت الثورات، وكذلك توْق الناس إلى الاستقرار على ضوء الاحتراب المستمر في العراق وسورية واليمن.

من الصعب الجزم في كيفية تطور التيار الإسلامي السياسي على ضوء ما يتعرّض له، فالقوى المحافظة في تيار "الإخوان" تلوذ بتاريخٍ مديد من العزلة، وتقاليد الانكفاء على الذات، والتمسك بالقديم. وهي الأقل تأثراً بالتطورات. أما القوى الإصلاحية ضمن حركة الإخوان المسلمين، ولأنها الأكثر دينامكيةً وتفاعلاً مع الأحداث، فهي المعرّضة إلى الانقسام بين تياراتٍ عديدة، بعضها يذهب في النقد الذاتي، وتطوير الطرح الإسلامي، إلى درجاتٍ مثل قبول مبادئ الديمقراطية والالتزام بها، والتحوّل إلى حزبٍ مدني، وحتى إلى درجةِ القطيعة مع التراث الإخواني. ويتأثر بعضها الآخر بالتطورات عبر تخطيء "تهاون الإخوان مع خصومهم"، وغفلتهم، واستنامتهم إلى صناديق الاقتراع، فيدفع إلى تبني العنف في الرد على عنف التحالف المعادي للتغيير. من هنا، نلاحظ استغراب بعض الباحثين من تبني قوىً شبابيةٍ كانت محسوبةً على التيار الإصلاحي خيار العنف، بعد الثورة المضادة في عدة بلدان عربية. وكما يصل بعضهم إلى التمسك بالديمقراطية، يذهب بعضهم الآخر إلى درجة رفض الديمقراطية خياراً من أساسه، باعتباره خديعةً، وقع التيار الإسلامي السياسي ضحية لها. ولا ندري ماذا سوف يستنتج هؤلاء مستقبلاً من انسداد طريق العنف.

ينطلق التغيير من تقاطع الاستنتاجات من التجربة السابقة مع الحاجة إلى إجاباتٍ على التحديات الراهنة. والمهمة الرئيسية التي تقع حالياً على عاتق القوى المناضلة ضد الاستبداد، إسلامية كانت أم غير إسلامية، هي الاتفاق على مبادئ النظام الديمقراطي، والالتزام بها، بحيث يكون التغيير مقترناً بطرح البديل الديمقراطي الموثوق والمتفق عليه، وليس مقترناً بالفوضى أو باستبداد آخر. وهذا يتطلب تغييراتٍ عند القوى الإسلامية وغير الإسلامية، تصل بها إلى التوافق على ما يلي:

1. سيادة الدولة الوطنية ووحدة أراضيها

2. مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية أمام القانون منظماً للعلاقة بين الفرد والدولة. ليس الدين والمذهب، ولا الطائفة، ولا القبيلة والإثنية، ولا الجنس، بل المواطنة.

3. مبدأ الانتخاب والتمثيل والرقابة وتحديد الصلاحيات.

4. تحييد الدولة في شأن قرار الأفراد الديني، ونمط الحياة الذي يختارونه. فإملاء عقيدةٍ أو نمط حياة معيّن على الناس ليس وظيفة الدولة.

5. نظام الحكم يضمن التعدّدية الحزبية للقوى التي تقبل بالمبادئ الديمقراطية، تحالفاتها و/أو تداول السلطة سلمياً في ما بينها. نظام الحكم الديمقراطي نظام تمثيلي يشمل حكومة ومعارضة.

6. استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وعن أجهزة الأمن، وعن الأحزاب.

7. جيش مهني محترف، تنقاد له وحدات التجنيد الإلزامي (في حالة وجوده)، وكذلك قوات الاحتياط. ولكن الجيش المهني المحترف هو الأساس. ويحيَّد الجيش وقوى الأمن الداخلي عن السياسة والحياة الحزبية.

8. الاتفاق على عدم السماح بقيام قوىً مسلحة من أي نوع خارج نطاق الجيش والقوى الأمنية.

9. احترام الحقوق الجماعية والإدارة الذاتية للجماعات الإثنية، والعمل على صياغة هذه الحقوق الجماعية.

10. الاتفاق على المزج بين التمثيل النسبي الحزبي للبلاد كلها كمنطقة واحدة في مجلس النواب، والتمثيل المناطقي الشخصي (غير الحزبي) في مجلس شيوخٍ منتخبٍ، يضمن فيه تمثيل تنويعات المجتمعات العربية المركبة كلها.

11. وجود سلطات محلية بلدية منتخبة على درجاتٍ من الإدارة الذاتية للشأن البلدي.

هذا هو الأساس، في رأيي، لأي معسكر ديمقراطي مقبل، يشمل قوى إسلامية وغير إسلامية في البلدان العربية. وقد عدّدت عناصره، بعد تفكير معمّق في أهم القضايا التي تواجه التحول الديمقراطي في البلدان العربية الرئيسية، بحيث يحافظ على وحدة الدول وشعوبها، في إطار الوطنية والمواطنة، وتنوعها في الوقت نفسه، لكنها قضايا يصحّ فيها النقاش والتفصيل والحذف والتعديل. وليست هذه المسألة محصورة بالقوى الإسلامية السياسية، ولا تخصّهم وحدهم، بل هي مجموعة تحدّيات تواجه القوى التي تهدف إلى بناء أنظمة حكمٍ تتجاوز مرحلة الاستبداد والفوضى في البلدان العربية.

هنا، يُسأَل المحسوب على معسكر الإسلام السياسي: وما الذي سوف يميّز التيار الإسلامي إذاً؟ وهو ما قد يطرحه، بقلق، القوميون العرب الديمقراطيون، وكذلك اليسار الديمقراطي، والليبراليون أيضاً، حول تياراتهم، وما يميّزها. والإجابة عليه عندهم، إنها متروكة لهم. كل ما لا تشمله المبادئ المتفق عليها، ولا يتعارض معها هو شأنهم. ويبقى الكثير جداً للاختلاف عليه، في كيفية إدارة الدولة، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك السياسة الخارجية.  فلا يعقل أن كل ما يتميّز به معسكر سياسي كان منافياً للمبادئ الديمقراطية، فنفدت صلاحيته بالاتفاق عليها. سوف يجد التيار الذي يعتبر نفسه إسلامياً ما يتميّز به، فقد يشدّد على قضايا الهوية العربية الإسلامية، ويؤكد على التراث الإسلامي، ويدافع عن أهمية الدين في التربية، وقد يكون رفض أنماطٍ معينةٍ من التغريب والعولمة منطلقه للتطور والتنمية والحداثة، كما أنه قد يكون أكثر محافظةً في شؤون الأسرة، وأكثر اهتماماً برعاية الفئات الضعيفة في المجتمع من غيره، وأكثر اهتماماً بالعلاقات مع الدول ذات الأكثرية المسلمة خارجياً. من أين لي اليقين هنا؟ كل ما أعرف هو أن القضايا المعقدة المطروحة سوف تضطر أي معسكر سياسيٍّ إلى اكتشاف تميُّزه في ظل النظام الديمقراطي، وإلا فلن يكون ثمة مبرر لوجوده.

هذا خيار واحد من بين خياراتٍ تترتب على مأزق هذا المعسكر، لكنه مأزق تاريخي، ولا بد من قراراتٍ تاريخيةٍ للخروج منه. والله أعلم.