تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

لا خوفَ على العربية

2019-03-04

عزمي بشارة

 

أثارت مشاهدةُ رئيسِ وزراءَ عربيّ يُلقي خطابًا بالعربية المحكية الدارجة في بلده بقراءتها من ورقةٍ أمامه تداعياتِ خواطرٍ لم أتمكّن من تجنّبها؛ إذ لم يرتجل هذا المسؤول كلمته بل أعدّها أو أُعدّت له بالعربية المحكية سلفًا.
لا أحمل أيّ أفكارٍ سلبيةٍ أو حتى نقدية تجاه اللغة المحكية أو الدارجة، فهي لغة التواصل اليومي بين الناس. العربية المحكية أو الدارجة (ولأ أقول "العامية" التي يقصد بها لغة العامّة في مقابل الخاصّة؛ إذ ليست الدارجة لغة العامة ولا الفصيحة لغة الخاصة) هي لهجاتُ الحياة اليوميّة المعيشة. ليس ذلك فحسب، بل إنها أيضًا لغةُ بعض الأنواع الأدبية؛ وهي الأيسر تلبية والأسرع استجابة لحاجات التواصل اليومي والتعبير عن تفاصيلِ الحياة اليوميّة ووجدانِ الناس وخلجاتهم. وكونها أكثر عفوية لا يعني أنها أدَقّ أو أصدق؛ فالصدق ممكن بأداتيْ التعبير معًا، والكذب والصدق ممكنان بهما أيضًا للأسف، وكذلك جميع الفضائل والرذائل. فما من بُعد أخلاقي للتمايز بين الدارجة والفصحى.
وليس صدفةً أن المحكيةَ لغةُ بعض الشعر المحلي فهو لا يعبّر عن المحلي بقدر ما يندرج فيه ويتناسجُ معه. وهي كذلك لغةُ الكثرة الكاثرة من الغناءِ الشعبي. ولكن لا نجدُها لغةً للرواية. إنّ لغةَ الروايةِ مثل لغةِ الشعرِ العربي لا تندرج في المحلي بل يندرج هو فيها. المحلي لا يحتوي اللغة في هذه الحالة، بل هي التي تحتويه وتعبّر عنه.
ليست المحكيةُ لغةَ دولةٍ عربيةٍ بعينها، خلافًا للعربية الفصحى لغةِ الأمةِ العربية. هذا توصيف خاطئ. فالمحكية عمومًا لهجةُ منطقةٍ أو إقليمٍ، وأحيانًا لهجةُ مدينةٍ أو قرية. وقد تختلف بين

شمال القُطرِ المعني وجنوبِه، وبين شرقه وغربه ووسطه، كما قد تتطابق مع لهجةِ المناطقِ المحاذيةِ للدول المجاورة.
وانتقالُ سياسيٍ مسؤول للتكلّم بها في خطابه المرتجل أمر مألوف؛ فليس كلُّ سياسيٍ قادرًا على الارتجال بلسانٍ عربي فصيح. وجديرٌ بنا أن نتفهّم ذلك، لا سيما أنّه يحكي ولا يقرأ، وربما يخشى أنْ تُتَصيّدَ الأخطاءُ في لغته الفصحى حين لا تجري على لسانه. وهذه محكيته؛ أي الوسيلة التي يسهل عليه التعبير بها عن نفسه كلامًا. أمّا قراءتُها مكتوبةً فتعني موقفًا يكشف عن تمثُّل خصوصي وطني مزعوم يبرّرُ اعتبارها قومنةً للهجةِ المحلية، وهي عملية  انتقائيةٌ قسريةٌ لأنها تعكس لهجةَ منطقةٍ معينة، وليس لهجات المناطق كلها في النطاق السيادي البشري للدولة. الدارجة في هذه الحالة لا تعود محكيةً بل مكتوبةً سلفًا لغرضٍ هو إحلالها محل العربية المعيارية لتثبيتها لغةً للفضاء العمومي، بحيث لا تعود العربيّةُ لغةَ البلدِ بل تُصبح لغتُه محكيةَ هذا الزعيم أو المسؤول السياسي. وهو اصطناعٌ شعبوي للغةٍ وطنيةٍ غير موجودةٍ في الحقيقة، فالدّوارج هي محكياتُ أو لهجاتُ جماعاتٍ وأقاليمَ، وليس محكياتُ دولٍ وطنية.
إنّ المسؤولَ الحكومي العربي الذي يلقي خطابًا رسميًا مكتوبًا لشعبه بلغةٍ محكية، أو الذي يعاني التكلّمَ حتى بالعربية المحكية، متعكّزًا بألمٍ على الفرنسية عند كل تعثر، إنما يطلق، بوعي أو بغير وعي، موقفًا أيديولوجيًا في هذا الشأن مفاده صناعة قومية محلية. وهذه الحال كما شهدنا في غير بلد عربي سرعان ما تتشظّى إلى طوائفَ وجماعاتٍ محلية. لأنّ القومنةَ المحلية هي مجرّدُ فاتحةٍ لقومنة جماعاتٍ كثيرة تعتبر نفسَها أعرقَ وأكثرَ تجانسًا من القومية المحلية المزعومة.
وهذا الادّعاء يختلف جذريًا عن براءةِ كتابةِ الأدب الشعبي باللهجة المحكية. فنقل الأدب الشعبي المحكي كتابةً ليس أيديولوجيةً سياسيةً ترومُ قلبَ اللهجةِ إلى لغةٍ قوميةٍ رسمية.
ودون أن أُبرّر ذلك بتبريراتٍ جوهرانية حول روح الأمّة وروح الشعب - كما فعل بعض المنظّرين القوميين العرب في أعقاب هيردر وفيشته وأرندت - يمكنني أن أقول بيقين إنّهم، رغم خطلِ حججِهم الفلسفية، صدقوا في القول إن اللغة العربية هي لغة القومية العربية ومكونها الرئيس، فهي قوميةٌ إثنية، وإثنيتُها تتلخص في الثقافة وليس في الأصلِ المشترك، ولا في شراكةِ الدمِ، أو في أيٍّ من هذه المكونات الخيالية (وليس المتخيلة فقط).
ولا تُترجم القومية العربية إلى nationalism لتمييزها من الأمة nation، بل هي ethnic nationality أساسُها الثقافةُ وعمادُها اللغةُ المشتركة. تتحول القومية إلى أمّةٍ فعلًا بالمفاهيم الحديثة للأمّة إذا أصبحت كيانًا سياسيًّا. أما nationalism فمصطلحٌ يُستخدم

للدلالة على الحركة والأيديولوجية القومية. وإذا قصدنا بالأمّة ترجمةً لـ nation، لا معناها القديم بوصفها جماعةً كبرى فحسب، دينيةً أو قوميةً أو غيرها، فدلالتُها في عصرنا هي الدولةُ الأمّة؛ إذ يُقصد بالأمم المتحدة منظمةً لدولٍ وليس لقوميات أو جماعات دينية أو غيرها. وغالبيّةُ هذه الدولُ متعددةُ القوميات الإثنية أصلًا. لذلك، فالأصح أنْ يقالَ قوميّةٌ عربيةٌ، وأن نطمح أن تكونَ الدولُ العربية أممًا تقوم على المواطنة، وربما تُقيم اتحادًا مستقبليًا بين دولٍ ديمقراطية. آنئذٍ، ربما يصحُّ أن نتحدث عن أمةٍ بالمعنى الحديث، أي ككيان سياسي هو اتحادُ دولٍ عربية، أو الدول العربية المتحدة. وليس ذلك وهمًا، بل هو غايةٌ نبيلة لم يبقَ سواها ما يبرر الأيديولوجية القومية العربية إذا تحولت ديمقراطيًا.
نحن نتحدث عن قومية عربية قامت في العصر الحديث على الثقافة وتصورات التاريخ المشترك، والسعي لتحقيق ذاتها سياسيًا بوصفها أمةً، ولم يعد ذلك ممكنًا - في رأيي - من دون بناء دولٍ عربيةٍ ديمقراطية، وأعني أممًا ديمقراطية، ثقافتها عربية وأساسها اللغة، وتعيش في بعضها قومياتٌ إثنيةٌ أخرى غير العربية نحترمها كل الاحترام، مع بروز الثنائية اللغوية في بعض المجتمعات العربية بحكم تنوعها. وما يجمع الدولَ العربية هو اللغةُ وتصوراتُ التاريخِ المشترك والحفاظُ على الغاية النبيلة المذكورة أعلاه. واللغة العربية أداةُ التواصلِ بين الشعوب العربية. بل هي لغةُ التواصلِ بين جماعات إثنية متعددة في الوطن العربي، لها لهجاتٌ بل لغاتٌ مختلفة، ولا يمكنها أن تتفاهم فيما بينها من دون اللغة العربية الفصيحة.
إنّ أساسَ الخلافِ الفكري بين ساطع الحصري من جهة، وطه حسين من جهة ثانية، وأنطون سعادة من جهة ثالثة، هو الخطأ الذي وقعوا فيه جميعًا المتمثّل بعدم التمييز بين القومية والأمة. فاللغة عند الحصري أساس القومية والأمة، ولا يميز بينهما. والدولة هي أساس الأمة والقومية عند طه حسين، فلا يميز بينهما. أما سعادة، فلا يميز بين القومية والأمة والجغرافيا، ومع ذلك لم يستطع في مفهومه للأمة السورية أن يتجاوز حقائقَ الاجتماعِ والتاريخ؛ فاعتبر أنّ هذه اللغةَ عرّبت السوريين، وأنّ لغةَ الأمةِ السورية هي اللغة العربية.
وقابل ذلك تبني اللغةِ المحكيةِ لغةً قوميةً لدى بعض المثقفين وبعض الحركات القومية المحلية، في ادّعاء يستند إلى أنّ تطورَ اللهجات العربية المحلية يجب أن يسير كما سار تطور اللغات الأوروبية في استقلالها عن اللغة الأم؛ اللاتينية. والحقيقة أنّ هذا قلبٌ للتجربة الأوروبية؛ فقد سبق أن تطورت العربيةُ نتيجةَ تفاعلِ محكياتٍ قبلية عربية في جهات مختلفة من الجزيرة العربية - بالتعريف الواسع للجزيرة - وذلك في تفاعلٍ مع لغاتٍ ولهجاتٍ ساميةٍ قديمة. والعودة إلى المحكية سيكون مثل عودةِ الإيطالية والفرنسية والألمانية إلى المحكيات القديمة التي تطورت منها في مقابل اللاتينية، وفي تفاعل معها.
ليست العربية لغة نخبة دينية أو علمية كاللاتينية التي كانت منقطعة عن حياة الناس منذ العصر الوسيط، بل كانت وما زالت لغة الناس والمجتمعات، لغة الدين والدنيا.
إنّ العربيةَ المعياريةَ أو المسماة أحيانًا بالفصيحة أو الفصحى، هي لغةُ الدولِ العربية الرسمية، أو لغتُها الأولى في دولٍ معينة. إنها لغةُ مناهجِ التعليم والقوانينِ والتشريعاتِ والقضاءِ والإعلامِ والمداولاتِ العمومية. وهي فضاءُ التقاطعِ الرئيس القائم حاليًّا بين الدولة العربيّة والقومية العربية، وحتى بين بعض الجماعات الإثنية الواحدة، لكن المتعددة لغويًا؛ علمًا أنّ ثمة تشاركًا في اللغة الإسبانية بين دول أميركا اللاتينية. لكنّ هذا التشاركَ لا يُعتبر فضاءً قوميًا؛ ما يدل على أنّ اللغةَ وحدَها لا تكفي لتشكيل القومية. إنها شرطٌ ضروري، ولكنّه غيرَ كافٍ.
واللغةُ العربية المعيارية ليست عالمَ إشاراتٍ من الدلالات والمجاز والاستعارات قائمًا في ذاته منفصلًا عن مجرى الحياة. إنها كائنٌ حيٌ تمتد جذورُه إلى لغاتٍ دارجةٍ ومحكيةٍ قديمة، وقد أصبحت معياريةً في تفاعلٍ مع الزمان والمكان والتطورات التاريخية. ونَمَت وتطورت مع الحضارة العربية بوصفها مكونًا رئيسًا فيها. والمحكياتُ العربية المعاصرة ليست لغاتٍ أخرى كما يدّعي البعض لتعقيد المسألة على أهل هذه المنطقة، أو في سياق تملّقِ شعبوياتٍ جهويةٍ

تشكّكُ في كلِّ شيءٍ في أزمنةِ الإحباط، أو لأغراضٍ أيديولوجيةٍ شوفينيةٍ محلوية. فليس صحيحًا على الإطلاق أنّ العربيَ يدرسُ في المدرسةِ لغةً ثانيةً هي العربية الفصحى المختلفة جذريًا عن لغته المحكية، ألا وهي اللغة الأم. فالأطفال في أي دولةٍ في العالم يدرسون قواعدَ اللغة في المدرسة وليس في البيت. والعاميّة في جوهرها تحريفٌ للغة المعيارية صوتيًا وصرفيًا، وأحيانًا دلاليًا أيضًا. وغالبيةُ مفرداتِ العربية المحكية هي عربيةٌ صحيحة أو هي لغةٌ فصحى غير مُعْربة.  وتحتوي المحكية على ألفاظ من لغات مندثرة، ولكن ذلك لا يميزها عن اللسان العربي الفصيح فهو يتضمن أيضا مفردات من لغات مندثرة وأخرى ما زالت حية.
وليست العربية الدارجة في العديد من المناطق العربية بأبعد عن اللغة المعيارية من لغات دارجة كثيرة في مناطق مختلفة من بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها عن لغتهم المعيارية الصحيحة. كما بيّن الواقع المتغير أنّ اللهجاتِ العربيةَ ليست ثابتةً، بل متغيرةٌ ومتبدلة أيضا؛ وهي في المرحلة المعاصرة تقترب باستمرار من العربية الجامعة. وقد بانت مؤخرًا ملامحُ لغةٍ محكية جديدة يسميها صحفيو الإعلام المرئي والمسموع "لغةً بيضاء"، والمقصود أنها لغةٌ مجردةٌ من اللهجات المحلية مع أنها محكية، وتتميز بقربها من الفصحى المسكّنة حذرًا من الغلط في التشكيل.

إنّ اللغةَ العربية المعياريّة، هي اللغةُ التي يُشرَّع بها وتُكتب بها محاضرُ اجتماعاتٍ دار فيها الحديثُ بلهجات المتكلمين. ويُفترض أن تكون لغةُ الفضاءِ العمومي - سواء أكان هذا الفضاءُ فضاءَ الدولةِ أم المجتمعَ المدني - معياريةً تعبر عن الأشياء والصيرورات والعلاقات والسياقات وتصوغ الأفكارَ المجردةَ بدقّةٍ تُمكِّن ليس من تدوينها فحسب، بل أيضًا من التواصل بشأنها، بافتراض أنّ الناسَ يتفقون على دلالات الكلام.
إنّ الدقةَ وقابليةَ التمييزِ بين درجات التجريد المختلفة، التي تميّز اللغةَ المعيارية، لا تجعل منها لغةً جامدةً ميّتةً في مقابل الدارجة الحية. فثمة دارجةٌ فقيرة وجامدة لا تتطور، وضيقةٌ لا تتسع لمجرى الحياة، مثلما ثمة لغةٌ معيارية رحبة ومنفتحة عليها، والعكس صحيح.
إنها لغةُ الشعرِ العربي المتأصل في ذاكراتنا الجماعيّة، ولغةُ الأدبِ والفكرِ، والدينِ والشرعِ، ولغةُ النثرِ في عصور التنوير العربية؛ بل إنها غدت أيضًا في بعض الدول العربية لغةَ العلومِ الدقيقة مثل الرياضيات والفيزياء والهندسة التي تميزت فيها تجربة التعريب بالنجاح.
وعصور التنوير متعدّدة وليست واحدة. فقد عرفت العصور الوسطى العربيّة مراحلَ تنويريةً أعلَت من شأن العقل، مثلما عرف العصرُ الحديث مرحلةً تنويرية. والعربيةُ الفصيحة، كما ذكر أعلاه، لغةَ الروايةِ التي تشهد نهوضًا وانتشارًا، حتى قيل إنها غدت ديوان العرب المعاصر، وفيه الغث والسمين والمبدع والمقلد، لكنّ المهم أنّ المشارقةَ والمغاربةَ والشماليين والجنوبيين يشاهدون وسائل إعلام مرئية عربية، ويتذوقون رواياتٍ عربيةً تُدوِّن تفاصيلَ الحياةِ المحلية في المجتمعات العربية المختلفة بلغةٍ يفهمها العرب جميعًا، وهي قابلةٌ للترجمة إلى لغات أخرى. وقد اتجهت الرواية العربية، بوصفها جنسًا أدبيًا، إلى إدماج اللهجة المحلية في مقاطعها المشهدية الحوارية أو السردية بغية إضفاء التنوع اللغوي اللهجي لشخصياتها وللعالم الاجتماعي على العالم الروائي، لكنّ لغتَها الأساسيةَ هي اللغة الفصحى.
وثمة مفارقةٌ تتجلى في أنّ بعض أكبر شعراء العربية في القرن العشرين الذين نادوا منهجيًا وسياسيًا باللغة المحلية قد عبّروا عن طاقاتهم الشعرية العظيمة بلسانٍ عربي فصيح، ومثالُ ذلك هنا الشاعرُ سعيد عقل. فالموهبة والإبداع بلغته العربية هزما  موقفه الأيديولوجي السياسي.
لا غنى عن العربية المعيارية التي نتعلّمها في مدارسنا في بناء الدولة والمجتمع المدني والتواصل العربي - العربي، ولا بديل منها. وهي، خلافًا للرأي السائد، تزدادُ قوةً وثراءً منذ نهاية القرن التاسع عشر. ويكفي أن نُراجع اللغةَ الركيكة لمخطوطاتِ القرن التاسع عشر وما قبله لندرك أنّ تردي الأوضاع الاجتماعية وتراجعَ التعليمِ رافقهما اكتساحُ اللهجات المحلية والألفاظ التركية للغة المكتوبة في تلك الفترة.
إنّ تجربةَ نهايةِ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تكمن في تلازم النهضة مع إحياء اللغة العربية السليمة وضبط معاييرها من جديد، بما في ذلك ترجمةُ الأدبياتِ العلمية والفكرية والسياسية من اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية إليها، وذلك بعد أن أصابها الهزال والضعف في مرحلة السلطنة العثمانية حتى هيمنت الركاكة على لغة التخاطب مع الحكام في عروض الحال والمدونات ومخطوطات الأوقاف والكنائس والمحاكم الشرعية وترجمة الأوامر والفرمانات. هي تجربة مهمة. ومن أهم مغازيها تعذّرُ فصلِ النهضةِ الفكرية والأخلاقية

والعلمية عن النهوض باللغة، سواء أَتمثّلت هذه النهضةُ في الدعوة الإسلامية في القرن الأول الهجري، أم في صعود الدولة الأموية ونشوء الحواضر العربية، أم في العصر العباسي، أم في النهوض الفلسفي والفكري والعلمي الذي عرفته الحضارة الإسلامية باللسان العربي في تزامنٍ مع الانحطاط السياسي، أم في النهضة العربية الحديثة.
ومع انتشار التعليم وتطور وسائل الإعلام وبرامج الأطفال وغيرها، أصبحت لهجاتُ العربِ من المحيط إلى الخليج أكثرَ قربًا من العربية الفصحى، وأصبحت هي بدورها أكثرَ قربًا من حياة الناس اليوميّة.
ولذلك، فخلافًا لكثيرٍ من المتشائمين، لستُ قلقًا على العربية، فلا توجد بدائلُ واقعيةٌ لها في الحضارة العربية الحديثة. وحتى لو ألحق بعض أبناء الطبقات الوسطى العليا أبناءهم بمدارس أجنبية، فهذا خيارهم المشروع لأسبابهم الخاصة. ولكنّ من حقنا أن نقلق من أن تكون النخبة هي الخاسرة على المدى البعيد من تعميق الهوة الثقافية بينها وبين أوساط الشعب الواسعة. وثمة مجازفة أن يلحق هذا الخيار ضررًا بتواصل الأبناء مع مجتمعاتهم وبقدرتهم على التواصل قراءةً مع تاريخ مجتمعهم وتراثه، ويسهم في تحويل التفاوت الاجتماعي إلى شرخ ثقافي لغوي. أما أثرُه في مصير العربية، فيبقى في رأيي هامشيًّا. إذ لا بديلَ من العربية للتواصل داخل المجتمع العربي الواحد وبين المجتمعات العربية، كما لا غنى عنها لغةً جامعةً حتى بين بعض الجماعات الإثنية – اللغوية غير العربية. وليس سواها تسدّ الحاجةَ على مستوى المؤسسات التي تميز أي مجتمع متمدن. فلا الفرنسية أو الإنكليزية، تُشكل بدائلَ في هذه المجالات.
ثمّة مفارقةٌ تتجلى في أنّ المتشائمين بشأن مصير العربية هم أنفسهم كثيرو التغزّل بغناها في معرض النحيب والعويل على ما آلت إليه من سوء تقدير الناس المسؤولين لها بحسب هؤلاء. والحقيقة أنّ غنى اللغةِ لا يُعبّرُ عنه بكثرة المترادفات أو كثرة الألفاظ التي تدل على الشيء ذاته مثل المترادفات الكثيرة للأسد والسيف والناقة وغيرها؛ فهذه ليست دليلًا على ثراء اللغة. وثمة فرقٌ بين غنى اللغةِ بالمفردات وبين كثرةِ المترادفاتِ التي قد تكون من رواسب اللهجات العربية المختلفة في اللغة المعياريّة التي هيمنت في النهاية. وقد لا تكون مترادفات فعلًا؛ إذ ربما تُعبّر عن أصنافٍ مختلفة من الشيء ذاته أو درجاتٍ مختلفة من الصفة ذاتها، أو ألوانٍ وأطيافٍ مختلفةٍ داخل الحقل الدلالي نفسه، اختزلها سوء الاستخدام إلى مجرد مترادفات.
إنّ غنى اللغةِ يكمن في غنى مخزونِها المفرداتي، وفي تنوّعِ تراكيبها وأساليبها التعبيرية، وفي قدرتها التوليدية للدلالات والمجاز والاستعارات، وفي مرونتها الصرفيةِ وآلياتِ الاشتقاق، وذلك من قبيل تفعيل الأسماء والتجريد من الأفعال، وعدم التحرّج من جمع الكلمات ودمجها للتعبير عن معانٍ جديدة.
كما يكمن غنى اللغةِ في قدرتها على استيعاب تطورات الحياة والانفتاح على ترجمة وتعريب أو استقبالِ تعبيراتٍ لغوية عن أفكارٍ جديدة، ومكتشفاتٍ علمية، وتقنياتٍ وتجاربَ إنسانيةٍ جديدةٍ سبقت العربيةَ لغاتٌ أخرى إلى التعبير عنها، أو تفاعلات إنسانية مع الحداثة قد تجدُ طريقها بداية إلى اللغة العربية المحكية.
ولنتذكر قبل أن نصاب بخواف ترجمة المصطلحات أن المصطلحات الأجنبية كانت مجرد ألفاظ عادية، وقد اصطلح عليها لتحمل دلالة أوسع من معنى اللفظ المباشر، أو سُمي بها اكتشاف علمي ما. وقد كان بعضها مجرد اسم علم في اسطورة يونانية وأصبح مصطلحا فلسفيا أو علميا. وبالتالي ليس المهم اللفظ الذي تترجم إليه، ولا معنى اللفظ الذي يترجم وقد يكون مجرد اسم علم، بل المهم هو تعريفه بوصفه مصطلحا. ولا يفترض أن تعتبر ترجمة اللفظ هي ترجمة المصطلح، بل المهم ترجمة تعريفه ودلالته؛ المهم تعريفه، والاصطلاح على دلالته.
وقد تروج ترجمةٌ لهذه التعبيرات والمصطلحات، مثل سيارة وقطار ودراجة ومذياع وإذاعة وبرق وهاتف وقناة وحاسوب وخطاب وعلم النفس وعلم الاجتماع وخواف ورهاب، وتجري

على الألسن. فمثلما اصطلحوا في اللغة الأصلية على لفظ لتحميله دلالة جديدة، يمكننا أيضا أن نصطلح على ألفاظ بدورنا. وكما قيل ذات مرة على لسان الإمام أبي حنيفة "هم رجال ونحن رجال"، ونحن نقول بروح هذا العصر "هم بشر ونحن بشر".
وقد لا يجري اللفظ الجديد على الألسن بسهولة ويسر، أو لا يتحرر فيه المصطلح من معنى اللفظ، فيسبقه إلينا اللفظ الأجنبي بدلالاته المصطلحية. وعندها لا بد من قبول المصطلح الأجنبي وتعريبه، وحتى استحداث تفعيلات له إذا لزم. وهذا ما فعلته العربية في الماضي؛ إذ لم تتورّع حتى عن إنشاء جذورٍ غيرِ قائمةٍ لكلماتٍ ومصطلحات كثيرة، لا يتسع المجال لتعدادا، استقبلتها من الفارسية واليونانية وغيرهما.
لقد أخذت القواميس العربية من المستويات اللغويّة الأربعة الكبرى – التي تُصَنَّفُ إليها وحدات المعجم، بحسب معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهي الفصيح والمُولَّد والعاميّ والأعجميّ المقترض – (أخذت) مستويَي الفَصيح والأعجميّ، لكنّها لا تأخذ من الأعجميّ إلا ما نُسمّيه "الأعجميَّ الأدبيَّ" وتمثّله المُقْتَرَضَاتُ الواردة في النّصوص الفصيحة المنتمية إلى عَصر الاحتجاج، وخاصة في الشّعر وفي القرآن الكريم والحديثِ النبويّ. والمُولَّد دليل على أنّ العربيةَ أصبحت لغةَ العلوم. ولم يُعتبر المولَّد مفْسِدًا للفصاحة، بل كان تطورًا في اللغة، وخضع لأنظمة اللغة المعيارية الصرفيّة والنّحويّة.
هذه جميعها، التي أجمعها تحت عنوان الانفتاح وحسن الاستقبال، تؤلّفُ الشرطَ الأول لتطور اللغة ومجاراتها تطورَ الحياةِ في المرحلة الحالية. أمّا الشرطُ الثاني فهو استعدادها للتنازل عن حراسة حدود الصحيح والخطأ بالمعنى الشكلي الموروث من مراحل تاريخيّة سابقة، والتي لم يعد من مكان للتعصب بشأنها بصيغة "قل ولا تقل!". إنّ التسامح مع خرق شكلياتٍ جرى على ألسن الناس في العربية المعيارية ذاتها، حتى كاد هذا الخرق ذاته يصبح معياريًا، لا يمسُّ بقواعد اللغة العربية ولا بسلامتها. فأين الكارثة في قبول أكثر من مضاف قبل المضاف إليه؟ وما المصيبة التي تحل علينا إذا استخدمنا الجمعَ لتشكيل الصفة وذلك لتمييزها من صفةٍ من المفرد؟ وذلك للتعبير عن معنىً آخرَ تمامًا مثل الفرق بين منطقي ومناطقي، ودوْلي ودوَلي ودولاني. ويكمن الشرط الثالث - في رأيي - في مدى قدرتنا على مواجهة تحدّي الرقمنة؛ أي رقمنة اللغة العربية وحوسبتها لتكون قادرةً على التفاعل مع التقنيات الحاسوبيّة. فهذا هو تحدّي العصر، ويجب أن يُستثمر الكثير من الجهد الفكري والمادي في مواجهة هذا التحدي.
واللغة العربية قادرةٌ على تلبيةِ هذه الشروط وتجاوزِ هذه الامتحانات الثلاثة بنجاح، وأن تتطور من خلال ذلك. وثقتي المبررة هذه بلسان العرب هي أساس تفاؤلي بمستقبله.
عرفنا العربيّة الفصحى في الشعر الجاهلي، وفي القرآن والحديث، وفي الخطب والرسائل والمقامات والقصص والروايات.
وبها أنتجت علوم الشريعة وعلم الكلام والتصوف والمنطق والجبر والهندسة والحساب والتاريخ والجغرافيا والطب والصيدلة وغيرها من العلوم.
وكانت لسانًا لأقوام العرب وغيرهم في أصقاع المعمورة، وما زالت.
وتسربت إلى لغات أخرى قديمة وحديثة، اقترضت منها وتفاعلت معها قديما وحديثا.
ونبضت بتاريخنا في السلم والحرب، وفي الاستعمار والاستقلال، وفي الانتصار والانكسار.
ما الذي تغيّر حتى نقلق بشأنها؟ سؤال جدير بالتّأمل، فقد يكون القلق حقيقيًا أو مصطنعًا لأسباب عديدة لست متيقنا بشأنها، ولا مجال للبدء بتعدادها في الختام. لكن اليقين الذي يسعني الجهر به هو أن لا خوف على العربية.

* (كلمة الدكتور عزمي بشار في افتتاح مؤتمر "العربية بين اكتساب المعرفة وإنتاجها: مقاربة استشرافية")